لعلّ رغبةَ الإنسان في الحديث عن نفسه ، وعن مجرى شؤونه ، من أقوى الرغبات عنده ، وأشدّها صلةً بكيانه ؛ لكنّها رغبة مرهونة بمقدرته على الإبانة ؛ فقد يعلو بها إذا امتلك البيان ، ويقَظَةَ الذهن ، وتماسكَ الخيال ، وقد تنحدر به إلى اللغو المُملّ الذي لا يُمتع ولا ينفع . على أنّها ، مع تفاوت المقدرة ، تتّخذ عدّة أشكال كالسيرة ، واليوميّات ، والمذكّرات ، وغيرها ، من أمثالها ، ممّا يُتاح للكاتب أن يُعرب عن نفسه من خلاله .
ولقد عرف الإنسان ، في الأمم كلّها ، تدوينَ ما يقع له يوماً بيوم ؛ رغبةً منه في حفظ الوقائع ، له ولمن يأتي بعده ؛ وكأنّه يرعى في ذلك أشياءَ ممّا يودّ ويألف ، وأشياءَ ممّا يقتضيه التاريخ.
وإذا كانت ” السيرة الذاتيّة ” تقوم على تذكّر ما مضى من حياة كاتبها ، وإعادة بنائه ، فإنّ ” اليوميّات ” تسجّل وقائعَ كلِّ يوم ، في اليوم نفسه ، بلغة واضحة مقتصدة بعيدة عن المجاز . وإذا كان الخيال ركناً متيناً في بناء ” السيرة الذاتيّة ” ؛ يلتقط الحوادث ، ويصطفيها ، ويُعيد صياغتها بما يهبها معنى منسجمَ المناحي ، رحيباً، فإنّ ” اليوميّات ” تقف عند تدوين الوقائع على نحو ما وقعت ، وارتسمت صورتُها في ذهن مدوّنها ، لا تزيد عليها ولا تنقص منها ، ولا تجعل للخيال مدخلاً إليها .
وفي ” اليوميّات ” بيان عن أحوال العصر ، وشؤونه ؛ ممّا يقلّ وقوف التاريخ عنده ، ولا يحفل بها أصحابه ؛ ذلك أنّها ، في أغلبها ، ليست من جليل الأحداث ، وعظيم الوقائع ؛ بل من هذه الأشياء الصغيرة التي تتلبّس حياة الناس ، وتصحبهم في غدوّهم ورواحهم ؛ لكنّ صورة المجتمع ، وعناصر التاريخ ، لا تتمّ ، بأيّة حال ، من دونها . ولا ريب في أنّ قيمة ” اليوميّات ” تأتي من مكانة صاحبها ، ومنزلته في عصره ، وصفاء ذهنه ، وأمانته ، وقدرته على التقاط الحوادث ذات المغزى في ما يُحيط به .
ولقد أردتُ في هذه الكلمة أن أقف على كتابين من كتب ” اليوميّات ” ؛ الأوّل قديم من القرن الخامس الهجريّ ، والثاني حديث من القرن الرابع عشر الهجريّ ، وكلا الكتابين قيّم في بابه ، نافع في الإبانة عن جانب من عصره ، مثلما هو نافع في البيان عن أحوال صاحبه ، وكلا الكتابين كتبه فقيه متمرّس بالفقه ، والحديث النبوي ، زاول الإفتاء ، مدّةَ عمره ، وقام على أبواب الشريعة ، يرعى السنّةَ ، ويدفع البدعةَ ، مساهماً في شؤون زمانه . وكلا الكاتبين مشهود له بالصدق والأمانة ، والتضلّع من العربيّة ؛ فأمّا الأوّل فإنّه أبو عليّ الحسن بن أحمد بن البنّاء البغداديّ الحنبليّ ( 396 هـ – 471 هـ ) ( 1006 م – 1078 م ) ، وأمّا الثانيّ فإنّه أبو الأشبال أحمد محمّد شاكر ( 1309 هـ – 1377 هـ ) ( 1892 م – 1958 م ) .
نَشر” يوميّات ابن البناء ” ، أوّلَ مرّة ، جورج مقدسيّ ، بالإنكليزية ، وكتب لها دراسة مستوفية ، ثمّ حقّق النصّ على أصوله ، وترجم الدراسة ، ونشر ذلك كلّه بالعربيّة أحمد العدويّ ، في سنة 2019 . أمّا ” يوميّات ” الشيخ أحمد محمّد شاكر فقد حقّقها ونشرها أشرف عبد المقصود في سنة 2019 .
أقام ابن البنّاء يوميّاته على ما وقع له من حوادث ، وعلى ما سمع منقولاً إليه ، وعلى أحلام رآها في منامه وشرع في تفسيرها على نحو ما يرغب به . أمّا يوميّات الشيخ أحمد محمّد شاكر فإنّها مقصورة على ما وقع له في يومه ، في غدوّه ورواحه ، وممّا رأى رؤية العين ، خلال سنة تبدأ في كانون الثاني 1950 وتنتهي في كانون الأوّل 1950 .
لقد دوّن ابن البنّاء يوميّاته بلغة عربيّة يسيرة ، هيّنة لا تحفل كثيراً بدفع اللحن ، وإقامة الحروف على وجهها الصحيح ؛ وذلك ليس جهلاً منه بالعربيّة وأصولها ، وإنّما لأنّه كان يدوّن لنفسه ، ويريد أن يحفظ الوقائع من النسيان ، قبل إرادته اطّلاع الآخرين عليها . أمّا الشيخ شاكر فقد كتب يوميّاته بعربيّة تجري مع الفصاحة ، لا يشوبها لحنٌ ، ولا يدنو منها تهاونٌ بالأصول ، تُبين عنها حروفٌ واضحةٌ صحيحةُ الرسم ، غير ملتبسة . ولا ريب في أنّ إقامة اللغة على وجهها السليم مزيّة ترتقي باليوميّات ، وتجعل من قراءتها شيئاً ممتعاً مفيدا .
انطوت يوميّات ابن البنّاء على جملة من غرائب الوقائع ، ممّا سمعه فصدّقه ، منها : ” وورد الخبرُ في يوم الخميس … في كتبٍ من التجّار بأنّه حدث بفلسطين والرَّمْلة زلزلةٌ عظيمةٌ ، في الرابع والعشرين من رجب في هذه السنة أذهبتْ جميعَ دورها إلّا دارين ، وهلك نحو خمسةَ عشرَ ألف نسمة ، وانصدعت الصخرة التي ببيت المقدس بنصفين ، ثمّ التأمت ، بإذن الله تعالى ، وغار البحر يوماً وليلة ، ونزل الناس إليه يلتقطون منه ، وعاد عليهم فأهلك جماعة .” ومن الغريب أن تنصدعَ الصخرة ، ثمّ تلتئم ، وأن يغورَ البحر ، ثمّ يرجع ماؤه ! لكنّ ابن البناء لا يسجّل هنا ما وقع له ، وإنّما يسجّل ، وهو في بغداد ، في الأوّل من شوّال ، ما ورد عليه منقولاً ممّا وقع بفلسطين والرَّملة في الرابع والعشرين من رجب! ومن الغرائب في يوميّاته أيضا ؛ الأحلامُ التي يراها أحياناً في منامه ، ثمّ يجتهد في تفسيرها ، وإلباسها ما يريد من دلالة ومعنى . على حين أنّ يوميّات الشيخ شاكر خلت من الغرائب التي يعزّ تصديقها . ولا شكّ في أنّ ذلك يرجع ، في جانب منه ، إلى اختلاف عصري الكاتبين ، وإلى نهج كلٍّ منها في التفكير ، ومعالجة الوقائع.
إنّ من يقرأ يوميّات ابن البنّاء ، ويوميّات الشيخ شاكر يجد صورة حيّة للكاتبين كليهما ؛ في نمط عيشهما ، وفي اتجاهات تفكيرهما ، وفي المعتقد الذي يقود ما يقومان به ، ويجد أيضاً ملامح من عصريهما ؛ ربّما أغفلتها كتب التاريخ ، ولم يقف عندها المؤرّخون!
إنّ اليوميّات قادرة على أن تجمع بين التاريخ والأدب ، وأن تحقّق المتعة والفائدة ، وهي إذا كتبها قلم أديب منشئ مُبين رفع منزلتها ، وأبقاها خالدة على الأيّام . وهي في وجه آخر من وجوهها مادّة ثريّة لمن يريد أن يكتب سيرة صاحبها على نحو مفصّل دقيق …