«الغالب على أهل هذا العالَم الغموم والأحزان، وأما اللذّة فقليلة جدًا».
فخر الدين الرازي
«النومُ حسنٌ، والموتُ أحسنُ.. لكنَّ الأحسن على الإطلاق ألَّا تُولَدَ أصلاً!»
هاينريش هاينه
(1)
إذا كنتَ مكتئبًا أو سوداوي المزاج فلا أنصحك بمطالعة هذه التدوينة. حسنًا، سأفترض أنك في حال طيبة، وذهن صاف، وأنك -على الأرجح- ممن ينكر الاقتباسات أعلاه، أو ينفر منها، وممن يعتقد أن الحياة ليست سيئة إلى هذا الحد، وأنها -في الجملة- محتملة ومقبولة، وأنك تعتبر هذا الضرب من الأقوال من قبيل المبالغة الفجة، أو أنها نتاج اضطراب في المزاج أو علّة نفسانية، أو ترى فيها تعبيرًا مسرفًا عن خيبة أمل شخصية. لنتابع، ونكتشف حقيقة الأمر.
من الواضح أن الرؤى الشائعة للحياة لدى عموم الناس لا تذهب إلى ما يوصف بالتشاؤم، بل إن معظم الخلق أميل إلى التفاؤل بالجملة إزاء الحياة، بينما الواقع الموضوعي لا يساعد على هذه الاعتقادات المبتهجة. نعم، الواقع الموضوعي المتمثل في عَرَضِيَّة الملاذّ وضآلتها وسرعة انقضائها وكثرة آفاتها، وتعذّر تحصيلها إلا بمعاناة مشاقّ، وارتكاب متاعب، وتجشّم مكاره، في مقابل كثافة الآلام وطولها وكثرتها، وتعدد أسبابها، واستحالة تحاميها، وتفاقم آثارها مع مرور الأيام:
«إنّ أعظم اللذّات تكون قصيرة الأمد، في حين يمكن أن تدوم أشدّ الآلام زمنًا طويلًا. لذة الجماع -مثلًا- تمرّ بسرعة، ولذائذ الطعام قد تدوم لفترة أطول قليلاً، لكن مهما طال التمتّع بالطعام الطيّب، فإنها تزول خلال بضع ساعات. أما الآلام الشديدة، فقد تستمرّ لأيام أو أشهر أو حتى سنوات. في الواقع، فإنّ اللذّات عمومًا —وليس فقط أسماها—تميل إلى أن تكون قصيرة الأمد مقارنة بالآلام؛ فالألم المزمن شائع جداً، في حين لا وجود لما يمكن أن نسمّيه لذّة مزمنة… والأسوأ من ذلك أنّ أقسى الآلام تكون أسوأ بكثير من أفضل اللذّات من حيث الشدّة. ومن ينكر ذلك، فعليه أن يسأل نفسه: هل يقبل ساعة من أعذب اللذّات مقابل ساعة من أقسى صنوف التعذيب؟».
هذا ما كتبه ديفيد بِيْنَتَار، الذي حاجج في عدة كتب عن رداءة الحياة البشرية. وهكذا ستجد عند التأمل الموضوعي «أن كل حياة بشرية مكتظّة بالمعاناة»، لا أقصد الأمراض والفقر المدقع والضيم والذلّ والمهانة ونحو ذلك فحسب، لا، بل حتى الحياة مع الصحة الجيدة والمعيشة المستقرة لا تخلو من مزعجات مؤذية وتعاسات منفّرة، من قلقٍ على مخوْف متخيّل، أو تكدّر خاطر حبيب، أو ضيقٍ لحرّ عارضٍ أو بردٍ عابر، أو تشوّش ذهن لخبر سوء أو قالة سوء، أو تعبٍ لقلة نوم، أو أرقٍ داهم على ولد أو مال، أو ملل ملازم، أو وحدة موحشة، أو خوف مقيم على زوال جاه أو منصب. فضلًا عن مزعجات الجسد؛ كتخمةٍ متراكمة، أو حرمان مستلذات لحميةٍ لازمة، أو حكة عارضة، أو تسلّط آلام مؤذية كألم العضل والمفصل، ونزلات البرد، وسائر العوارض كالغثيان، والزكام، والحمى، والصداع، والبثور، وآلام الطمث للنساء…الخ، وهذه أمثلة ضئيلة كما تعلم، وواقع الحال الذي لا تخطئه العين أن «المرء يمضي قدرًا كبيرًا من يومه وهو على حال من الانزعاج».
(2)
ومن جهة ثانية لاحظ أن حال الإنسان يمضي عادةً إلى الأسوأ، كما يعبّر عن ذلك بعضهم -تنسب لجوني كارسون- بالقول: «نُولد عراةً، جياعًا، ومبتلّين؛ ثم تبدأ الأمور بالتدهور منذ ذلك الحين»، فالإنسان بعد توهّج وجيز في بدايات حياته يبدأ في التردّي التدريجي ذهنيًا وعقليًا وجسديًا حتى يموت، وهذه حقيقة بائسة لمن تأمل.
ويشير بِيْنَتَار إلى أن المكاره والمعاناة -كالجهل والفقر والمرض والجوع والعطش- تأتي بلا جهد ولا تسبّب بالضرورة، بينما يتعين على المرء السعي لدفعها والكدح لرفعها:
«الملذات، ليست الحالة الافتراضية للحياة، بل هي أوضاع استثنائية يجب السعي إلى تحقيقها، بينما تأتي المعاناة بنحو طبيعي. على المرء أن يعمل بجدّ لإشباع رغباته، بينما تنشأ الحاجة والجوع والملل تلقائيًا. ومن ثمّ فإننا مضطرون دائمًا إلى العمل على إبعاد المعاناة، ولا يمكننا أبدًا التخلص منها جملةً. ربما تتحقق لحظات أو حتى أزمنة يسيرة من الرضا، لكنها دائمًا تحدث ضمن سياق من السعي الدائم وعدم الإشباع… الحياة إذن دوامة لا تنتهي من الرغبات غير المحققة، والسعي المستمر، والرضا العابر».
بل حقيقة الملاذّ وسائر المحبوبات التي يتقاتل عليها الخلق أنها ليست سوى «راحة مؤقتة من المكاره» كما يقول بيناتار، فإن كرهتَ قولة هذا الأعجمي، فهاك بيان العلّامة فخر الدين الرازي (ت606هـ) -وكان من أذكياء العالم- لهذا المعنى حيث يقول: «الإنسان كلما كان أكثر جوعًا وأشد احتياجًا إلى الأكل، كان التذاذه بالأكل أتمّ؛ وكلما كان عهده بالوِقَاع أطول، كان التذاذه به أكمل، ولا شك أن الجوع ألمٌ شديدٌ، والاحتياج الشديد إلى الوقاع ألمٌ؛ فلما رأينا أنه كلما كانت هذه الآلام أشدّ وأشقّ، كان دفعها ألذّ وأطيب؛ عَلِمْنا أن هذه الأحوال التي نتخيّل أنها لذّات، هي في أنفسها ليست لذّات، بل لا حاصل لها إلا دفع الآلام والأوجاع».
ثم يضرب الرازي مثلًا يبيّن حقيقة الأمر بجلاء، فيقول: «الإنسان إذا أراد قضاء الحاجة، فربما تعذّر عليه ذلك لأسباب اتفاقية من خارج؛ وحينئذ يعظُم ألمه بسبب إمساك تلك الفضلات، ثم بعد تلك الآلام الشديدة، إذا قدر على دفعها، وَجَدَ لذّة عظيمة وراحة كاملة، وكلما كان تألّمه بسبب إمساكها أشدّ؛ كان التذاذه بدفعها أكمل؛ حتى إن كثيرًا من الناس قالوا: “هذه اللذة أقوى من لذة الأكل والشرب والبعال!”». وهذا يؤكد غلبة المكاره وكونها أثبت وجوديًا من الملاذ وإن عظمت.
(3)
تحصّل لنا إلى الآن: كثرة المكاره وانتشارها وتزايدها مع تقدم السنّ، وكون اللذة تكاد تكون منحصرة في اندفاع الأوجاع. فإن لم تقنع، فانظر في خاصة أمرك وقارن بين الأحداث المحبوبة والمكروهة في نفسك وما حولك، من حيث قوة الأثر وعمق التأثير، هل فَرَقُك من الألم أعظم من فرحك باللذة؟ وهل انفعالك بالمكاره اليومية أبلغ من ابتهاجك بالمتع الروتينية؟
وقد عثرتُ على مراجعة واسعة ومهمة أجراها روي باوميستر ورفاقه (Roy Baumeister et al, 2001) على قائمة من الدراسات العلمية أجابت عن هذه السؤالات المذكورة آنفًا من جهات شتى، وتوصلتْ المراجعة إلى أن الأحداث المكروهة لها تأثير أكبر من الأحداث المحبوبة، وذلك في جملة وافرة من الظواهر النفسية، ألخص لك منها:
• عواقب الأحداث المكروهة في الحياة اليومية أقوى وأكثر ديمومة من الأحداث المحبوبة المماثلة.
• تتأثر العلاقات الوثيقة بعمق أكبر بالأفعال الهدامة مقارنة بالأفعال البناءة، وبالتواصل السلبي أكثر من التواصل الإيجابي، وبالصراع أكثر من الانسجام.
• تُعد في العلاقات العامة التفاعلات غير الودية أو الصراعية أقوى ولها تأثيرات أكبر من التفاعلات الودية والمنسجمة.
• للحالات المزاجية المكروهة والمشاعر المكروهة تأثير أقوى على المعالجة المعرفية (الإدراك، الانتباه، الذاكرة، اتخاذ القرار) مقارنة بالعواطف المحبوبة.
• معظم جهود المرء لتنظيم انفعالاته تبذل للهروب من الحالات المزاجية المكروهة (بدلًا من السعي لتحقيقها أو إطالة أمد المزاج الطيب)، مما يشير إلى أن رغبة الإنسان في الخروج من المزاج السيئ أقوى من رغبته في الدخول في مزاج جيد.
• أظهرت البحوث حول الدعم الاجتماعي مرارًا أن السلوكيات المكروهة والصراعية في المحيط الاجتماعي للمرء لها تأثير أقوى من السلوكيات الإيجابية والداعمة.
هذا، وأرجو أن تكون إجابتك غير ما ترى!
(4)
والآن يتبادر سؤال لا بد من الجواب عنه: إذا كانت حال الدنيا بهذه البشاعة والسوداوية الذي يذكرها هؤلاء، فلماذا ينكر معظم الناس هذه الحقائق عند نظرهم في الحياة، أو يقللون من أهميتها، أو يبالغون في وصف حياتهم بالسعادة؟ يذكر بيناتار ثلاث ظواهر نفسية تساعدنا في الإجابة على هذا السؤال.
أولًا: التحيز للتفاؤل (Optimism Bias)، والمقصود به الميل الإنساني الدفين لتوقّع الأفضل في شؤون الحياة، ويقاس هذا الانحياز عمليًا من خلال توثيق توقعات الفرد قبل وقوع الحدث ومقارنتها بالنتائج الفعلية لاحقًا، ويثبت الانحياز حين تكون النتيجة دون التوقّع. وقد أظهرت دراسات كثيرة أن معظم الناس (حوالي 80% حسب معظم التقديرات!) يحملون هذا التحيز، بغض النظر عن جنسهم، أو أعراقهم، أو أعمارهم، أو ثقافتهم.
وهذا التحيز يتجلى بطرق عديدة، منها أن هناك ميل إنساني لتذّكر التجارب المحبوبة أكثر من التجارب المكروهة، ففي دراسة دبليو ووكر ومن معه (W. Walker et al, 1997) اتضح أن التأثير العاطفي للأحداث غير السارّة يضمحل أسرع من تأثير الأحداث السارّة، ومن ثمّ فإن الذكريات الطيبة تُستذكر بنحو أفضل من الذكريات المكروهة.
ثانيًا: التكيّف أو الاعتياد، فالإنسان كائن قادر على اعتياد أسوء الأحوال، ويمكنه التكيّف مع أشد المعايش قسوةً وتعاسة، فضلًا عما دون ذلك، «فالناس معتادون جدًا على انزعاجات الحياة اليومية، إلى حد أنهم يتجاهلونها تمامًا، رغم انتشارها الواسع».
ثالثًا: المقارنة الاجتماعية، فالمرء في الحقيقة لا يحدد طيب عيشه كما هو، بل مقارنة بالآخرين.
ومن المحتمل أن التحيز للتفاؤل يتعزز عبر التكيّف والاعتياد على التعاسات والآلام والمؤذيات، وينعكس في نزوع الناس إلى مقارنة أنفسهم بمن هم أسوأ حالًا، وكل هذه الظواهر متعاونة تفسّر -ولو جزئيًا- الميل الشائع للنفور من حقائق الحياة المفزعة، المتمثلة في بؤس الوجود ورثاثة العيش، ولذلك لا يمكن للرأي السائد أن يدحض هذه الحقائق المرّة، لأنه أسير لهذه المؤثرات المنتشرة.
(5)
ومن يحمد الدنيا لعيشٍ يسرُّه
فسوف -لعمري- عن قريبٍ يلومها
إذا أدبرتْ كانت على المرء حسرة
وإن أقبلتْ كانت كثيرًا همومها!
(6)
في غالب ظني أن كل ما مضى غير مرضي عندك، ولا تثريب عليك، ولعلّك لا زلت ترى في هذا الصنف من الكلام الجاف لونًا من النحيب اللائق بالضعفة والجبناء، وإن كان غيرك يظن أن محاولات تلميع «المأزق الإنساني» أو تخفيف البؤس البشري لا تخلو من تعجرف وفظاظة، بل إنها أشبه بالمزاح في مقبرة.
والآن لن تمانع لو قلتُ كما قال الرازي في أواخر حياته: «ليتنا بقِيْنا على العَدَمِ الأول، وليتَنَا ما شاهدنا هذا العَالَم، وليتَ النفس لم تتعلقْ بهذا البدن!»، والله المستعان على كل حال.
* مقابس من صفحة الكاتب