المدونة

نسيج الهيبة: البقية الباقية من زمن الكبار

عاش الشيخ عبد المجيد بن عزيز الزنداني -رحمه الله تعالى- كبير الهمِّ، عالي الهمَّة، وقد كان طالوتًا مِن الناس، يجمع بين بسطة العلم والجسم، ولولا ذلك لسحق تحت أعباء الأثقال والأحمال التي نذر نفسه لها:

وإذا كانت النفوس كبارًا

تعبت في مرادها الأجسام

فالشيخ -رحمه الله- كان راحلة بين أقرانه، تأطُّ الأرض مِن حركته وسعيه، إذ كان ينبري للمسئوليَّات والعزائم مِن الأمور.

على قدر أهل العزم تأتِ العزائم

وتأتي على قدر الكرام المكارم 

وتعظم في عين الصغير صغارها

وتصغر في عين العظيم العظائم

فقد نذر الشيخ نفسه -منذ انطلاق ثورة 26 سبتمبر 1962م- لقضايا شعبه ووطنه، ولا غرو في ذلك، فهو تلميذ الشهيد محمَّد محمود الزبيري القامة اليمنية الوطنية الفذَّة، الذي واجه الطغيان في زمن الهوان والخذلان. ومِن بين أهمِّ القضايا التي نذر الشيخ نفسه لها، نشر العلم وصناعة العلماء وخدمتهم وتوحيد كلمتهم في الملمَّات والنوازل الكبرى.

ففي جانب العلم، تصدَّر الشيخ لنشر العلم القائم على الإيمان، واختار ميدان الإعجاز العلمي في القرآن والسنَّة لمواجهة مدِّ الإلحاد والارتداد التي اكتسحت العالم الإسلامي نتيجة التفوُّق المادي والعلمي الذي أظهره الغرب حتَّى أمسك بزمام العمران والتقدُّم.

وقد برز اهتمام الشيخ بالمجال العلمي، في سبعينيَّات القرن العشرين، إذ كان مِن المؤسِّسين الأوائل للمعاهد العلمية في اليمن، الذين هدفوا مِن تأسيسها لنشر العلم الشرعي بالتوازي مع العلوم الطبيعية والحديثة. وساهم في إعداد بعض المناهج التعليمية، بما في ذلك المتعلِّقة بالإيمان والتوحيد وربطه بالعلم واكتشافاته.

وسعى في تأسيس الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة، عام 1984م، تحت مظلَّة رابطة العالم الإسلامي، بمكَّة المكرمة، بالمملكة العربية السعودية، وعيِّن رئيسًا لها. وكان في الصدارة مِن النشاط في هذا المجال، وجعله منبرًا للتعريف بالإسلام والدعوة إليه. واعتنى بهذا المجال حتَّى رسَّخه في اهتمامات الدراسات الإسلامية المعاصرة.

ولـمَّا عاد إلى اليمن، مطلع التسعينيَّات مِن القرن العشرين، سعى في تأسيس جامعة الإيمان، عام 1993م، فكانت صرحًا علميًّا أكاديميًّا، يسعى لإخراج العالم الربَّاني الجامع بين رواسخ الإيمان وفقه الشريعة ومعارف العلوم الاجتماعية ووعي الواقع. وقد أوقف الشيخُ نفسه لهذه الجامعة التي ضمَّت الآلاف مِن طلَّاب اليمن الراغبين في العلم والتعليم؛ وتخرَّج مِنها العديد مِن طلَّاب العلم المبرزين في علوم القرآن والحديث والتفسير والفقه والأصول واللغة والعقيدة والفرق. وقد كان الشيخ -رحمه الله- حريصًا على جمع كوكبة مِن علماء اليمن في الجامعة، بمختلف مذاهبهم ومدارسهم، لتكون الجامعة جامعة كلِّ اليمنيين، لا حكرًا على فصيل أو مدرسة أو مذهب. بل استضافت الجامعة علماء مِن الدول العربية والإسلامية ليكونوا ضمن كوكبة الأساتذة المدرِّسين والمحاضرين في الجامعة.

وفي عام 2006م، سعى الشيخ -رحمه الله- لتوحيد صفِّ علماء اليمن، في كيان علمائي واحد مستقلٍّ، يتولَّى المرجعية في القضايا الكلِّية والعامَّة والمشتركة. فتأسَّست هيئة علماء اليمن مِن عدد مِن الشخصيات العلمائية، المتبوعة في المجتمع اليمني، ممَّن لهم حضور وبروز وحراك حيٌّ وفاعل على الساحة العلمية والدعوية.

وقد كان هدف تأسيس هيئة علماء اليمن:

1- الدعوة إلى الله تعالى، ونشر الوعي الإسلامي البعيد عن تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين. 

2- الدعوة إلى الاحتكام إلى شرع الله في جميع شئون الحياة، وترسيخ المرجعية الشرعية في حياة الناس حكَّامًا ومحكومين. 

3- التصدِّي للغزو الفكري وما يثار مِن شبهات تجاه الإسلام عقيدة وشريعة. 

4- إحياء فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والحسبة. 

5- مناصرة القضايا الإسلامية وبيان الواجب الشرعي تجاهها. 

6- تحرير المفاهيم والمصطلحات الشرعية وضبطها في ضوء الكتاب والسنة. 

7- السعي لتوحيد الصف، والعمل على إصلاح ذات البين، وإزالة كافَّة أسباب التفرُّق والتنازع.

وقد تصدَّت هيئة علماء اليمن لعدد مِن القضايا الخطيرة، كسبِّ الذات الإلهية والإساءة إلى النبي المصطفى وقضايا الفساد الحكومي وقضايا المرأة بما في ذلك الدعوات الهدَّامة، الساعية لتغيير هوية المجتمع وقيمه وأخلاقه، وإنكار المنكرات التي أخذت طابعًا علنيًّا وبارزًا، ومسلكًا منحرفًا عن قيم المجتمع وأخلاقه. كما تصدَّت هيئة علماء اليمن لقضايا المسلمين في كثير مِن الأحداث، وفي مقدِّمتها قضية فلسطين والمسجد الأقصى. كلُّ ذلك مِن خلال إصدار البيانات وعقد المؤتمرات، وتحريك القضايا في الإطار القانوني، وتحشيد المجتمع في قضايا الحسبة أو المناصرة؛ بحيث تصبُّ هذه الوسائل المختلفة جميعًا لتحقيق الغايات المرجوَّة.

ثمَّ إنَّ الشيخ خلافًا لهذه الجهود، كانت له جهود شخصيَّة خفية في رعاية طلَّاب العلم المبرزين، وإغاثة العلماء والدعاة الذين داهمتهم حوادث الزمن، وتفقُّد أحوالهم والسؤال عنهم. وكان حسن التعامل مع الموافق والمخالف له، عفيف اللسان نقي الصدر مع الجميع، حسن النوايا والظنِّ فيهم. لقد كان صدره لا يتَّسع إلَّا للأهداف السامية والغايات النبيلة والقضايا الكبرى، بعيدًا عن صغائر الأمور والقضايا الفرعية والمسائل الثانوية والخصومات الفاجرة؛ همُّه في كلِّ مساعيه أن تتَّحد كلمة العلماء ويجتمع صفُّهم وتنتظم جهودهم وتغيب أوجه الخصومة والقطيعة بينهم.

فلمَّا مات رحمه الله تعالى حزن الجميع عليه، وشعر العلماء أنَّ القافلة فقدت حاديها وحارسها، وقائدها وسائسها، المبادر للأمور بهمَّة، والمتصدِّر للملمَّات بعزيمة، والسابق الذي يُتعِبُ مَن بعده.

كان الشيخ جبلًا أشمًّا راسخًا في تضاريس اليمن المضطربة ورماله المتحرِّكة، يحفظ للمجتمع حركته دون أن تميد به عوادي الغزاة والغلاة والطغاة. وخلَّف موته مِن بعده فجوة لا تسدُّ وثغرة لا تُثلم، فإنَّه كان بقيَّة العمالقة الكبار الذين صُنِعوا على عين الله في الزمن الصعب، فكانوا للفتن سدًّا منيعًا وللخيرات نهرًا جاريًّا. وقد ترك الشيخ مِن ورائه مِن الإنجازات والمسئوليَّات ما تنوءُ به العصبة أُولي القوَّة.

لهذا كلِّه كان الشيخ هدفًا للطغاة والغلاة والغزاة، وما مات إلَّا بعد أن حاولوا تجفيف ينابيعه وهدم قلاعه وتغييب شخصه عن الساحة. وإنَّ مِن الدَّين المستحقِّ للشيخ على طلبته اليوم أن يُبقُوا ذكره خالدًا في الأمَّة، وأن يقوموا بصدق للغايات والأهداف التي نذر نفسه لها، بعيدًا عن ضيق الأفق وقصر النظر فما كان رحمه الله أبعده عنهما.. فإنَّه كان عالم أمَّة.

أنور الخضري

كاتب وباحث يمني مهتم بالقضايا السياسية والشأن اليمني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى