في عالمٍ باتت فيه المنصات الرقمية منابر رئيسة لتشكيل الوعي بالذات وبناء الهوية الفردية، برزت ظاهرة “التعرّي الطوعي” بوصفها ممارسة رمزية وجسدية تحمل أبعادًا متعددة. ولم يعد هذا التعرّي مقصورًا على الكشف الجسدي فحسب، بل تجاوز ذلك ليشمل البوح العاطفي والانكشاف النفسي، متموضعًا في قلب الاستراتيجيات المعاصرة لتمثيل الذات في الفضاء الرقمي. نستكمل في هذا المقال الحديث حول “التعري الطوعي” وكذلك الحديث عن التفرعات التي تنتج عنه، فبالرغم من الإغراءات التي يقدمها التعري الطوعي، فإنه ينطوي على مخاطر وتداعيات جسيمة على المستويين الفردي والاجتماعي. فعلى المستوى الفردي، قد يؤدي الكشف المفرط عن الذات إلى تآكل الحدود بين الخاص والعام، وفقدان الإحساس بالخصوصية والاستقلالية. كما قد يجعل الفرد عرضة للاستغلال والابتزاز، خاصة في ظل انعدام الضمانات الكافية لحماية البيانات الشخصية. أما على المستوى الاجتماعي، فإن انتشار ثقافة التعري الطوعي قد يؤدي إلى تفكك النسيج الاجتماعي وتآكل الثقة بين الأفراد. فعندما تصبح الأسرار الشخصية مادة للاستهلاك العام، تفقد العلاقات الإنسانية عمقها وخصوصيتها، وتتحول إلى علاقات سطحية قائمة على العرض والاستعراض.
اقتصاد العري
لقد أدى التحول من “ثقافة الكتابة” إلى “ثقافة الصورة”، إلى إعادة صياغة العلاقة بين الفرد وذاته؛ إذ لم تعد الذات تطمح لأن تُفهم، بل لأن تُرى وتُلاحظ، وهو ما أدى إلى ازدياد الاعتماد على الجسد كوسيلة للتمثيل الذاتي. وقد أدى إلى تصاعد حضور الأجزاء الحميمة من الجسد ضمن محتوى الوسائط الرقمية، في إطار ما بات يُعرف بـ”المنعطف التصويري” (visual turn)، الذي تحتفي فيه المنصات البصرية بالمشهد الحسي على حساب التعبير النصي أو التأملي.(1)
وفي هذا السياق، ظهر ما يُسمّى بـ”اقتصاد العُري”، حيث يُستثمر الجسد، لا سيما الجسد الأنثوي، في تعزيز الجاذبية وتوسيع قاعدة المتابعين ورفع العوائد الاقتصادية. وقد بيّنت دراسة حديثة أجراها غانسله (Gaenssle, 2023) أن المؤثرين الرقميين الذين يعرضون أجسادهم بشكل أكثر صراحة يحققون أرباحًا إعلانية أعلى بنسبة 4% مقارنة بنظرائهم الذين يتجنبون هذا النمط من التمثيل. كما كشفت دراسة أخرى أعدّها ديبورتاي وآخرون (Duportail et al., 2020) أن احتمال ظهور النساء في صور عارية على الأنستغرام تصل بنسبة 54% بينما صور رجال عراة الصدور بنسبة 28% ، وهو ما يدل على تحيز نوعي واضح في تمثيل الجسد الأنثوي. (2)
ويؤكد عدد من الباحثين، أن هذه الممارسة لم تعد مجرد تعبير عن الحرية الشخصية، بل هي جزء من تحوّل أكبر نحو تسليع الذات وتحويلها إلى منتج مرئي يُستهلك ضمن آليات السوق الرقمية. وقد نبهت باركان (Barcan, 2004) إلى أن الثقافة الغربية، على وجه الخصوص، قد أعادت تشكيل الجسد من كونه فضاءً خاصًا إلى كونه عرضًا عامًا قابلًا للنظر والتقييم والاستهلاك. (3)
تتجلى هذه الظواهر بوضوح في تطبيقات مثل “تيك توك” و”إنستغرام”، حيث تتصدر الصور الجسدية واجهة التفاعل، حتى في المجالات التي تبدو مهنية أو صحية، كالإرشاد الغذائي أو التمارين الرياضية أو عروض الموضة. إذ يتم توظيف الجسد خاصة جسد المرأة كوسيلة لجذب التفاعل، وبناء “علامة شخصية” تُعزز من الحضور الرقمي وتكسب صاحبها جمهورًا أوسع.
غير أن هذا التمكين الظاهري لا يخلو من تناقض. ففي الوقت الذي يمنح فيه الفضاء الرقمي الأفراد فرصة لتمثيل أنفسهم كما يشاؤون، يفرض عليهم في المقابل معايير خفية للقبول، تتمثل في نمطية الجمال، وطرق التقديم، وسرعة الاستجابة للتفاعل. وهكذا، يتحوّل التعرّي الطوعي من فعل حر إلى أداء استهلاكي موجّه، تُقاس جودته بكمية التفاعل لا بصدق التعبير. وما يبدو على السطح ممارسة للتحرر من القيود الاجتماعية التقليدية، قد يكون في جوهره خضوعًا جديدًا لأعراف رقمية أكثر تقييدًا، لكنها مموّهة بلغة الحداثة والانفتاح. فالتعبير عن الذات في هذا السياق لا يُنتج بالضرورة ذاتًا حرة، بل قد يؤدي إلى ولادة هوية هجينة، مصنّعة، تنتمي للمنصة أكثر مما تنتمي للفرد ذاته. وهكذا، فإن التعرّي الطوعي في الثقافة الرقمية المعاصرة، وإن بدا خيارًا فرديًا في الظاهر، إلا أنه في جوهره انعكاس لبنية ثقافية واقتصادية واسعة، تُعيد تشكيل العلاقة بين الإنسان وجسده، بين الحرية والامتثال، وبين التفاعل الرقمي والصدق الوجودي.
التعري الطوعي والهوية الرقمية
مع تزايد اعتمادنا على المنصات الرقمية، أصبحت هويتنا الافتراضية جزءًا لا يتجزأ من هويتنا الكلية. وهنا يبرز سؤال جوهري: هل التعري الطوعي يعزز هذه الهوية أم يشوهها؟ يشير الكتاب إلى أن العلاقة معقدة ومتناقضة. فمن جهة، يمنح التعري الطوعي الأفراد فرصة لتقديم أنفسهم للعالم بالطريقة التي يختارونها، مما يعزز شعورهم بالسيطرة على هويتهم. ومن جهة أخرى، يخلق ضغوطًا هائلة للامتثال لمعايير اجتماعية معينة، مما يؤدي إلى تنميط الهويات وفقدان التنوع والأصالة.
قد يُنظر إلى هذا التعري الطوعي على أنه شكل من أشكال التمكين الذاتي، إذ يمنح الأفراد سلطة تمثيل ذواتهم وتوجيه سردياتهم الشخصية كما يشاءُون. إلا أن هذا التمثيل سرعان ما يخضع لمعايير جماهيرية صارمة: إعجاب، متابعة، تعليق، مشاركة. وبذلك، تتحول الذات إلى “مُنتَج رقمي”، وتصبح قيمة الفرد مرهونة بعدد التفاعلات لا بعمق التجربة.
وتشير الدراسات إلى أن الإفراط في عرض الذات لا يؤدي بالضرورة إلى مزيد من القبول أو التقدير، بل قد يفضي إلى العكس: السخرية، التنميط، أو حتى الرفض. كما أن الخلط بين الإعجاب والانتباه، وبين الحميمية والانكشاف، يؤدي إلى التباسٍ شعوري يجعل من “الهوية الرقمية” ساحة هشّة يسهل اختراقها أو تهشيمها(4).
في عصر أصبحت فيه “الأنا الرقمية” محور اهتمام الكثيرين، يتحول التعري الطوعي من مجرد سلوك فردي إلى استراتيجية لبناء العلامة الشخصية. وهنا تكمن مفارقة أخرى: كلما زاد حرصنا على تقديم صورة مثالية عن أنفسنا، زاد ابتعادنا عن حقيقتنا وأصالتنا. وبدلاً من أن يكون التعري الطوعي تعبيرًا صادقًا عن الذات، يصبح قناعًا آخر نختبئ خلفه. إذ إن الإفراط في الكشف يقوّض “منابع العزلة”، وهي الفضاءات الحميمة التي تُشكّل فيها الذات خصوصيتها، وتستعيد فيها توازنها بعيدًا عن أعين الآخرين. بل إن الاستعراض المستمر للذات، وإن تم تحت غطاء الحميمية أو الأصالة، يفتح الباب لتآكل الشعور بالذات على المدى البعيد، ويؤدي إلى فقدان الانسجام بين الداخل والخارج، بين ما نكونه فعلاً وما نعرضه للجمهور.
ويبرز هنا البعد النفسي للمسألة: فالتعري الرقمي يخلق وهمًا بالإفصاح، لكنه في الواقع يُبقي على حالة من “الحرمان الوجداني المؤجل”، لأن الصورة الرقمية تُشبع التوق إلى الانتباه، دون أن تروي حاجة الإنسان إلى القرب الحقيقي والتفاعل المتبادل. وتزداد المفارقة حدة حينما تتقاطع هذه السلوكيات مع ديناميات رأسمالية تحوّل الهوية إلى علامة تجارية، والتعبير عن الذات إلى منتج قابل للتسويق والاستهلاك.
إنّ المعضلة تكمن في أن الفرد حينما يعرض ذاته باستمرار في الفضاء الرقمي، قد يجد نفسه في النهاية غريبًا عنها. ذلك أن التكرار والتكرار والتهذيب المفرط لصورة الذات يفقدها عفويتها، ويحوّلها إلى قناع محكم، يصعب خلعه حتى في لحظات الصدق. وهكذا، بدلاً من أن يكون التعري الطوعي تعبيرًا صادقًا عن الذات، يتحوّل إلى آلية لاشعورية للاختباء خلف “صورة الذات”، في مفارقة مريرة تُختزل فيها الحرية بالظهور، وتُنسى فيها الحقيقة.
تحدي اليوم
ولعل التحدي الأكبر الذي يواجهنا اليوم هو كيفية تحقيق توازن جديد بين حاجتنا للاعتراف والظهور من جهة، وحقنا في الخصوصية والاستقلالية من جهة أخرى. توازن يسمح لنا بالاستفادة من إمكانيات التواصل الرقمي، دون أن نفقد في المقابل خصوصيتنا وكرامتنا كبشر. لذلك يقدم لنا كتاب “موت الأسرار” تشخيصًا دقيقًا لظاهرة التعري الطوعي، ويدعونا إلى إعادة التفكير في علاقتنا بالتكنولوجيا والإعلام والمجتمع. وهو بذلك يفتح الباب أمام نقاش مجتمعي ضروري حول مستقبل الخصوصية والهوية في عصر يتسم بالانكشاف المستمر والتعري الطوعي.
وفي الأخير يمكن القول إن ظاهرة التعري الطوعي تعكس تحولات عميقة في مفهوم الذات والخصوصية في العصر الرقمي. وهي ظاهرة تستحق المزيد من الدراسة والتحليل، ليس فقط من منظور نفسي واجتماعي، بل أيضًا من منظور أخلاقي وقانوني.
الهوامش:
- عبدالله الوهيبي، موت الأسرار (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2025) صـ297
- الوهيبي، صـ299.
- المرجع نفسه، صـ299.
- الوهيبي، صـ310.
رائع جدا ماشاء الله