أشتات

أهل الرأي وأهل الحديث: جذور الصراع وإمكانات التجديد الفكري على أصول أهل الرأي

مدرستا أهل الرأي وأهل الحديث من أبرز التيارات الفكرية التي ظهرت في بدايات التكوّن العلمي الإسلامي، وكان لهما تأثير عميق في مجالات الفقه وأصوله، كما امتد أثرهما إلى مسائل العقيدة والفكر بشكل عام. وقد تبلور الخلاف بين المدرستين حول مصادر التشريع ومنهج الاستدلال، لا في أصل الالتزام بالشريعة، بل في كيفية فهم النصوص وتطبيقها.

تعود البدايات الأولى لتشكل مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث إلى الحراك العلمي الذي شهدته الأمصار الإسلامية بعد تفرق الصحابة واستقرارهم في مختلف الأقاليم، حيث نشأت حلقات العلم وتطورت مناهج الفهم والاستنباط بتأثير مباشر من اجتهادات الصحابة وتوجهاتهم. وقد كان لهذا التفاوت في مناهج الصحابة أثر بالغ في نشوء اتجاهين رئيسيين في الفكر الإسلامي:

1. منهج أهل الرأي

2. منهج أهل الحديث

ومع مرور الوقت، بدأ هذا التمايز المنهجي يزداد وضوحًا، وخصوصًا في عهد التابعين، حيث يمكن اعتبار سعيد بن المسيب الممثل الأبرز لمدرسة أهل الحديث، لما عُرف به من تمسك بالرواية والنقل، في حين برز إبراهيم النخعي ممثلاً أوضح لمدرسة أهل الرأي، لاعتماده الواسع على القياس والاجتهاد.

ثم اكتمل البناء المنهجي لكل من المدرستين على يد علمين كبيرين، هما:

– الإمام أبو حنيفة، الذي أصبح رمزًا بارزًا ومنظرًا متكاملاً لمنهج أهل الرأي.

– الإمام الشافعي، الذي أسّس بنحو منهجي مدرسة أهل الحديث، وقد تم اختياره هنا ممثلاً لهذه المدرسة بدلًا من الإمام مالك، لأسباب منهجية سيتم بيانها لاحقًا.

وبهذا، أصبح للمدرستين منهج واضح المعالم، وتشكل على أساسهما جزء كبير من البنية الفقهية والعقدية في التراث الإسلامي.

وقد لخّص ابن خلدون هذا التمايز بين المدرستين بقوله: “انقسم الفقه فيهم إلى طريقتين: طريقة أهل الرّأي والقياس وهم أهل العراق، وطريقة أهل الحديث وهم أهل الحجاز. وكان الحديث قليلا في أهل العراق لما قدّمناه فاستكثروا من القياس ومهروا فيه فلذلك قيل أهل الرّأي. ومقدّم جماعتهم الّذي استقرّ المذهب فيه وفي أصحابه أبو حنيفة، وإمام أهل الحجاز مالك بن أنس والشّافعيّ من بعده. ثمّ أنكر القياس طائفة من العلماء وأبطلوا العمل به وهم الظّاهريّة، وجعلوا المدارك كلّها منحصرة في النّصوص والإجماع وردّوا القياس الجليّ والعلّة المنصوصة إلى النّصّ، لأنّ النّصّ على العلّة نصّ على الحكم في جميع محالّها. وكان إمام هذا المذهب داود بن عليّ وابنه وأصحابهما. وكانت هذه المذاهب الثّلاثة هي مذاهب الجمهور المشتهرة بين الأمّة”(1).

كما قدّم الشهرستاني (ت 548هـ) وصفًا دقيقًا للتيارين الكبيرين في الفقه الإسلامي: أهل الحديث وأهل الرأي، وصنّف أبرز مجتهدي كل منهما، فقال: “ثم المجتهدون من أئمة الأمة: محصورون في صنفين؛ لا يعدوان إلى ثالث، أصحاب الحديث، وأصحاب الرأي:

أصحاب الحديث: وهم أهل الحجاز؛ هم: أصحاب مالك بن أنس، وأصحاب محمد بن إدريس الشافعي، وأصحاب سفيان الثوري، وأصحاب أحمد بن حنبل، وأصحاب داود بن علي بن محمد الأصفهاني. وإنما سموا: أصحاب الحديث لأن عنايتهم بتحصيل الأحاديث، ونقل الأخبار، وبناء الأحكام على النصوص؛ ولا يرجعون إلى القياس الجلي والخفي ما وجدوا خبراً، أو أثراً. وقد قال الشافعي: إذا وجدتم لي مذهباً، ووجدتم خبراً على خلاف مذهبي؛ فاعلموا أن مذهبي: ذلك الخبر. ومن أصحابه: أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، والربيع بن سليمان الجيزي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والربيع بن سليمان المرادي، وأبو يعقوب البويطي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم المصري، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي. وهم لا يزيدون على اجتهاده اجتهاداً؛ بل يتصرفون فيما نقل عنه: توجيهاً واستنباطاً، ويصدرون عن رأيه جملة، فلا يخالفونه البتة.

أصحاب الرأي: وهم أهل العراق هم: أصحاب أبي حنيفة النعمان بن ثابت. ومن أصحابه: محمد بن الحسن، وأبو يوسف يعقوب بن إبراهيم بن محمد القاضي، وزفر بن الهذيل، والحسن بن زياد اللؤلؤي، وابن سماعة، وعافية القاضي، وأبو مطيع البلخي، وبشر المريسي. وإنما سموا أصحاب الرأي، لأن أكثر عنايتهم: بتحصيل وجه القياس، والمعنى المستنبط من الأحكام، وبناء الحوادث عليها؛ وربما يقدمون القياس الجلي على آحاد الأخبار. وقد قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه؛ فمن قدر على غير ذلك فله ما رأى، ولنا ما رأينا. وهؤلاء ربما يزيدون على اجتهاده اجتهاداً، ويخالفونه في الحكم الاجتهادي. والمسائل التي خالفوه فيها معروفة”(2).

كما يضيف الشهرستاني ملاحظة دقيقة في ختام عرضه، حيث يقرّ بأن الخلاف بين المدرستين لا يفضي إلى تضليل أو تكفير، إذ يقول: “اعلم أن بين الفريقين اختلافات كثيرة في الفروع، ولهم فيها تصانيف، وعليها مناظرات؛ وقد بلغت النهاية في مناهج الظنون؛ حتى كأنهم قد أشرفوا على القطع واليقين. وليس يلزم من ذلك تكفير، ولا تضليل؛ بل كل مجتهد مصيب كما ذكرنا قبل هذا”(3).

وقد مثّل كل من الشافعي وأبي حنيفة قطبي هذين الاتجاهين؛ فالأول أسس منهجًا يقوم على الاهتمام بالرواية والحديث، واشتهر بمقولته: “إذا صح الحديث فهو مذهبي”. وهي عبارة تكثّف تصور مدرسة الحديث في أبلغ صوره. أما الثاني، فقد تعامل مع العقل بوصفه أداة اجتهادية ضرورية لا غنى عنها، وقال: “علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا عليه”. في إشارة إلى الاعتراف بحدود الظن في الاستنباط، وبإمكانية تعدد وجهات النظر ضمن إطار الدليل العام.

وقد أعاد الدكتور طه جابر العلواني النظر في هذا الانقسام القديم بين المدرستين، من خلال منظور معرفي معاصر، يرى أن لكل من المدرستين مشروعًا علميًّا كاملاً متماسكًا. يقول: “مدرسة أهل الرأي: وهم أولئك الذين كانوا يرون في بادئ الأمر أن العقل الإنساني قد أعطي في الإسلام ما لم يعطه في الرسالات السابقة، ومن ثم فلا بد له من أن يمارس دوره وصلاحيته في هذه الرسالة، إذ هو دور رسمه الله جل شأنه وأيده رسوله ببيانه النبوي. فمصادر المعرفة في هذه الرسالة محصورة بالوحي والاجتهاد”(4).

ثم يُكمل في وصف المدرسة الثانية فيقول: “وأما المدرسة الثانية فقد عرفت تاريخيا بفريق أهل الحديث.. وقد أنشأ أهل الحديث منظومة فكرية متكاملة شملت وضع مجموعة من النماذج المعرفية، بل والمناهج التي أضفت الصفة العلمية على تلك الأطروحة، وتمت صياغة مجموعة من الأفكار الأساسية التي اقتضتها عملية تعزيز المنظومة وتقويتها وإيجاد الترابط في داخلها”(5).

تسعون ألف طالب من أنحاء العالم الإسلامي يقدمون لسماع كتاب صحيح البخاري

النزاع بين المدرستين:

بدأ النزاع بين أهل الحديث وأهل الرأي في وقت مبكر من تاريخ الفقه الإسلامي، وتحديدًا في عصر التابعين، قول الحجوي في وصفه لهذه المرحلة: “وفي هذا العصر -أي عصر التابعين- بدأ النزاع بين أهل الحديث وأهل الرأي، وافترق الفقهاء حزبين؛ حزب السنة والأثر، وحزب الرأي الذي صار فيما بعد يسمَّى بالقياس. فأهل السنة والأثر هم أهل الحجاز، ورئيسهم سعيد بن المسيب السابق الذكر، ثم تفرعوا فيما بعد إلى مالكية وشافعية وحنابلة وظاهرية وغيرهم، كل هؤلاء يزعم التمسُّك بالأثر، ولا ينتمون للرأي.

أما أهل العراق فكانوا يميلون للرأي، ورئيسهم حامل لوائه هو إبراهيم النخعي، ولهذا يقال لأصحاب الرأي عراقيون، وبعد زمن أبي حنيفة صار يقال لهم الحنفية، على أنه يوجد فيهم من لا يقول به كالإمام الشعبي عامر بن شراحيل، وابن سيرين، وسبق ذلك، كما يوجد في المدنيين من يقول بالرأي كربيعة بن أبي عبد الرحمن شيخ مالك حتى لقبوه بربيعة الرأي، ولعله اكتسب ذلك من إقامته بالعراق”(6).

وقد ظهرت بعد ذلك التسميات التفصيلية لهذه المدارس، فصار يقال لأتباع الرأي “الحنفية” نسبة لأبي حنيفة، مع بقاء شخصيات في العراق لا تقول بالرأي مثل ابن سيرين، كما وجد في المدينة – معقل الحديث – من يميل إلى الرأي كـ ربيعة الرأي، شيخ الإمام مالك، مما يدل على أن الانقسام لم يكن جغرافيًّا محضًا، بل منهجيًّا بالأساس.

يقول الحجوي في توصيف مذهب الحنفية: “مذهب الحنفية أوسع المذاهب وأكثرها تسامحًا على وجه الإجمال وأيسرها للمجتهد الماهر استنباطًا لانبنائه على الفلسفة والنظر لحكم الأحكام والعلل، لا سيما في المعاملات التي القصد منها مصالح العباد وعمارة الكون، فالحنفي أحوج إلى النظر من النقل والأثر؛ إذ من قواعد مذهبه الأخذ بالقياس والتوسع فيه في غير الحدود والكفَّارات والتقديرات الشرعية..ثم القياس عند أبي حنيفة مقدَّم على الخبر الصحيح المعارض له من كل وجه فيه قادح من القوادح السابقة عنده، وقد فعل ذلك في حديث المصراة، وحديث العواري، وحديث الشاهد واليمن، وغيرها، قال أبو حنيفة: علمنا هذا رأي وهو أحسن ما قدرنا عليه، ومن جاءنا بأحسن منه قبلناه”(7).

أهل الرأي وأهل الحديث: جذور الصراع وإمكانات التجديد الفكري على أصول أهل الرأي

ممثلو المدرستين:

لئن كان الاتفاق قائمًا على أن أبا حنيفة هو إمام مدرسة أهل الرأي بلا نزاع، فإن الخلاف ظل قائمًا حول من يمثل إمامة أهل الحديث. فذهب بعضهم إلى أن مالك بن أنس، إمام دار الهجرة، هو رأس هذه المدرسة، ورأى آخرون أن الشافعي هو المؤسس الحقيقي لها من خلال تأصيله لعلم الأصول التي انحازت لأهل الحديث، بينما عدّ فريق ثالث أحمد بن حنبل الإمام الأبرز لأهل الحديث، نظرًا لشدّة تمسكه بالنص وردّه للقياس إلا في أضيق الحدود.

وهناك من يرجع بدايات المدرستين إلى الجيل التابعي، فيُنسب تأسيس مدرسة أهل الرأي إلى إبراهيم النخعي، وينسب تأسيس مدرسة أهل الحديث إلى سعيد بن المسيب، وكلاهما من كبار فقهاء التابعين.

كما أن الانقسام الجغرافي لم يكن حاسمًا؛ فالعراق لم تكن حكرًا على أهل الرأي، فقد وُجد فيها من كبار أهل الحديث أمثال سفيان الثوري، والحجاز لم تكن حكرًا على أهل الحديث، إذ ظهر فيها فقهاء من أهل الرأي، مثل ربيعة الرأي شيخ الإمام مالك. مما يدل على أن التقسيم لم يكن صارمًا، بل كان امتدادًا لاجتهادات فردية ومدارس متداخلة تغذيها بيئات علمية متنوعة.

يظهر بوضوح أن أبا حنيفة يمثّل نموذجًا صريحًا لمدرسة أهل الرأي، كما أن أحمد بن حنبل يُعد أبرز رموز أهل الحديث. أما الخلاف فيدور حول موقع مالك والشافعي، إذ تارة يُنسبان إلى أهل الرأي، وتارة إلى أهل الحديث.

لكن من يتأمل أصولهما الفقهية وشروطهما في قبول الحديث، يتبين أن كلاً منهما كان في موقعٍ وسطيّ، وإن مال مالك إلى الرأي أكثر، بينما اقترب الشافعي من الحديث بوضوح، مما يجعل الشافعي الأقرب لأن يُعتبر إمامًا لمدرسة أهل الحديث بالمعنى المنهجي.

أما الإمام مالك، فقد كان أقرب إلى أهل الرأي في منهجه، كما أشار الشيخ محمد أبو زهرة بقوله: “إن المدنيين وعلى رأسهم شيخهم مالك رضي الله عنه قد أخذوا من فقه الرأي بحظ عظيم، وإن عدَّ مالك من فقهاء الرأي ربما لا يقل قوة من عدِّ أبي حنيفة فيهم، وإذا كان المشربان مختلفين فإن النهاية واحدة ولا اختلاف في الغاية”(8).

والسبب في اختيار مالك بن أنس إمامًا لمدرسة أهل الحديث يعود -باعتقادي- إلى كونه المعاصر البارز لـأبي حنيفة، فبينما برز أبو حنيفة ممثلًا لمدرسة الرأي في عصره، كان مالك أبرز وجوه مدرسة الحديث في الحقبة نفسها. لكن مع مجيء الشافعي، ظهرت ملامح جديدة أكثر وضوحًا وانتصارًا لمنهج الحديث، فقد تبنى الشافعي خط الدفاع عن الحديث، وواجه مدرسة الرأي بصرامة علمية.

فقد سعى الشافعي في مشروعه الأصولي إلى إخراج الرأي المجرد من دائرة الاجتهاد، وعرّف الاجتهاد بأنه القياس على النص، لا غير. وقياسه محدود وومقيد، لا كما هو الحال عند أبي حنيفة، كما أنه خفف كثيرًا من الأصول العقلية التي كان يعتمدها مالك، رغم تأثره به.

لذلك يُعد الشافعي – بما رسّخه من منهج يرفع من حجية الحديث، ويضيق من الاجتهاد بالأدلة العقلية– المؤسس الحقيقي لمدرسة الحديث في صورتها المنهجية، وهي المدرسة التي استمرت بعده، وترسّخ حضورها، وهيمنت على العقل الإسلامي لقرون.

وقد ثار جدل بين العلماء حول مكانة الإمام أحمد بن حنبل: هل هو فقيه أم محدث؟ وإن كان الوصف الأقرب له عند كثير من الباحثين هو المحدث، لا تقليلاً من منزلته، بل توصيفًا لطبيعة اشتغاله العلمي. فقد عُرف أحمد بطلب الحديث وروايته، واشتهر بالتحديث والإسناد أكثر من اشتهاره بالاجتهاد الفقهي في زمانه، حتى إنه صنف أوسع كتب الحديث “المسند”.

ولهذا السبب، رأى بعض المؤرخين والفقهاء، كابن جرير الطبري، أن الإمام أحمد لم يكن صاحب مذهب فقهي مستقل بالمعنى الأصولي للكلمة.

فقد أشار الطبري في مناقشاته الفقهية إلى أنه لا يرى لأحمد مذهبًا يمكن الاعتماد عليه في الخلاف، وعلل ذلك بقوله: “إنما هو رجل حديث لا رجل فقه”، وقد تعرض بسببه لنقد واسع، لا لأنه انتقص من أحمد، بل لأنه قيّم منهجه العلمي من زاوية تصنيفية دقيقة بين المحدث والفقيه.

يقول الحجوي: “لم يعتبر ابن جرير الطبري في الخلافيات مذهب ابن حنبل، وكان يقول إنما هو رجل حديث لا رجل فقه، وامتحن في ذلك. وقد أهمل مذهبه كثير ممن صنفوا في الخلافيات كالطحاوي والدبوسي والنسفي في منظومته، والعلاء السمرقندي والفراهي الحنفي (ت640هـ) أحد علماء المئة السابعة في منظومته ذات العقدين، وكذلك أبو محمد عبد الله بن إبراهيم الأصيلي المالكي في كتابه “الدلائل” والغزالي في “الوجيز” وأبو البركات النسفي في “الوافي” ولم يذكره ابن قتيبة في “المعارف” وذكره المقدسي في “أحسن التقاسيم” في أصحاب الحديث فقط ،مع ذكره داود الظاهري في الفقهاء، واعتبره كثير من المتقدمين كالإمام الترمذي في جامعه، فإنه مع عدم ذكره لأبي حنيفة وصاحبه إلا نادراً أو في جملة عموم الكوفيين ينص على مذهبه بالخصوص، واعتبره كثير من المتأخرين أيضاً، منهم ابن هبيرة الحنبلي في كتابه “الإشراف في مذاهب الأشراف” الذي ألفه في مسائل الخلاف بين الأئمة الأربعة وغيره. وقال في “المدارك” إنه دون الإمامة في الفقه وجودة النظر في مأخذه، عكس أستاذه الشافعي”(9).

ويذكر ابن خلكان عن سبب محنة الطبري وعن كتابه “اختلاف الفقهاء”، وأن سبب محنته أنه “ذكر فيه اختلاف مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة مع أبي يوسف ومحمد بن الحسن وغيرهم، ولم يذكر أحمد بن حنبل، قيل: إنه سئل عن ذلك، فقال: لم يكن أحمد فقيها إنما كان محدثا، وما رأيت له أصحابا يعول عليهم، فأساء ذلك الحنابلة”(10).

ويقول ابن الأثير: “وفي هذه السنة توفي محمد بن جرير الطبري، صاحب التاريخ، ببغداد، ومولده سنة أربع وعشرين ومئتين، ودفن ليلاً بداره، لأن العامة اجتمعت، ومنعت من دفنه نهاراً، وادَّعوا عليه الرفض، ثم ادعوا عليه الإلحاد، وكان علي بن عيسى يقول: والله لو سئل هؤلاء عن معنى الرفض والإلحاد ما عرفوه، ولا فهموه، هكذا ذكره ابن مسكويه صاحب ” تجارب الأمم “، وحوشي ذلك الإمام عن مثل هذه الأشياء”(11).

وقد تولى أصحاب الإمام أحمد، وعلى رأسهم الخلال، مهمة تأسيس مذهبه الفقهي بعد وفاته، فجمعوا فتاواه ورواياته من أفواه تلاميذه ومن عرفوه، وبدؤوا في تدوينها وتنظيمها. ومع ذلك، لم يتبلور المذهب الحنبلي بشكل ناضج ومتكامل إلا بعد فترة طويلة، إذ استغرق الأمر زمناً حتى تترسخ أصوله، وتُهذَّب فروعه، وتُرتَّب أبوابه على نحو يقارب المذاهب الأخرى.

الأربعة أهل الرأي وأهل الحديث: جذور الصراع وإمكانات التجديد الفكري على أصول أهل الرأي

لماذا المذاهب الأربعة عقيدةً وفقهًا؟

عند التأمل في بروز الأئمة الأربعة — أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد — دون غيرهم، رغم وجود فقهاء آخرين يمثلون أطيافًا فكرية وسطى، سنجد أنهم كانوا التعبير الأوضح عن مناهج التفكير الفقهي الكبرى في عصرهم. فقد شكّل كل واحد منهم نموذجًا لمنهج محدد في التعامل مع النص والاجتهاد، بحيث يمكن القول إنهم مثّلوا التنوع الطبيعي الممكن في بنية الفكر الفقهي.

فـأبو حنيفة كان المعبّر الأبرز عن الاجتهاد العقلي القائم على الرأي والقياس، بينما كان الشافعي ممثلًا لـالاجتهاد المعتمد على الحديث مع فتح محدود لاستخدام القياس، وقد نظّر لهذا المنهج تنظيرًا دقيقًا. أما مالك فوقف في منطقة وسطى بين المنهجين، لكنه كان أقرب إلى مدرسة الرأي، بخاصة في اعتماده على القياس والمصالح المرسلة. أما أحمد بن حنبل فكان امتدادًا لمنهج الشافعي، مع ميل أشد إلى الحديث وتوسيع لدائرة الأثر. وأما داود الظاهري فذهب إلى أقصى مدى في الانتصار للحديث، فرفض القياس والعلة، ووقف موقفًا حاسمًا ضد كل ما لا يقوم على ظاهر النص، فكان بذلك أبعد ما يكون عن مدرسة الرأي.

وتمثل هذه الاتجاهات في مجموعها خريطة المناهج الممكنة لفهم الدين وبناء التشريع في أي مجتمع أو سياق تاريخي، من أقصى العقل إلى أقصى النقل، وما بينهما من توازنات ومدارس وسطى.

وكذلك عند التأمل في المذاهب العقدية الأربعة البارزة في تاريخ الإسلام، يمكن ملاحظة أنها لم تكن مجرد اجتهادات معزولة، بل جاءت كإفراز طبيعي لمناهج التفكير التي سادت في بيئاتها وزمانها. فقد تشكلت هذه الاتجاهات على أساس موازين العقل والنقل، وتفاوتت في مدى اعتمادها على كل منهما، حتى غطت تقريبًا جميع صور التفاعل الممكنة بين العقل والنص.

فالمدرسة العقلية الخالصة تمثلت في المعتزلة، الذين جعلوا العقل هو الأصل في فهم العقائد، حتى أصبحت أصولهم قائمة على قواعد عقلية صارمة.

أما الاتجاه العقلي الذي لا ينفصل عن الأثر، فتمثل في الماتريدية والأشاعرة، حيث احتفظ الفريقان بدور مهم للعقل، لكنه عقل يعمل داخل إطار النص، لا في مواجهته. وتميل الماتريدية إلى تغليب العقل قليلاً، بينما تميل الأشاعرة أقرب إلى النإلى الاتجاه الآخر قليلًا، مما يجعل الماتريدية في منطقة وسطى أقرب للمعتزلة، والأشاعرة في منطقة وسطى أقرب لأهل الحديث.

أما الاتجاه الأثري العقلي جزئياً، فقد مثّله بعض الحنابلة المتفوضة، ومن تأثروا ببعض مسالك الأشاعرة دون الانتماء إليهم صراحة، وهو اتجاه يحترم ظاهر النص لكن لا ينكر إمكان التأويل أو التفويض عند الحاجة. وأخيرًا، فإن الاتجاه الأثري الخالص، القائم على التسليم للنصوص دون تأويل، أو تمحيص عقلي موسع، فهو الذي مثله أهل الحديث والحنابلة في صورتهم التقليدية، حيث كان للنقل عندهم السيادة المطلقة، والعقل تابع لا مستقل.

وبهذا يتبين أن هذه المذاهب لم تكن وليدة جدل مذهبي فحسب، بل تمثل أنماطًا عقلية وفكرية متكررة في المجتمعات الدينية، وهي في جوهرها تعبير عن تنوع طرق الإنسان في فهم الدين، ضمن ثنائية العقل والنقل، وهي أنماط يمكن أن تتكرر في أي زمان أو مجتمع يُعاد فيه طرح أسئلة الإيمان والدين.

حال مدرسة أهل الرأي اليوم

رغم أن مدرستي أهل الحديث وأهل الرأي شكّلتا معًا ركيزتين أساسيتين في تشكّل الفقه الإسلامي، إلا أن الدهر كتب البقاء والتأثير الأقوى لمدرسة أهل الحديث، في حين تراجعت مدرسة أهل الرأي، وتعرض منهجها الأصيل للتفكك والضمور. فمع مرور الزمن، لم يبق من مدرسة أهل الرأي إلا اسم المذهب الحنفي، بينما انزوى منهجها الأصولي الاجتهادي، وتحول المذهب إلى تقليد جامد لأقوال الأئمة، بعيدًا عن آلياته الأولى في الاجتهاد والاستنباط، التي كانت تستند إلى قواعد عقلية دقيقة ومنهجية متماسكة.

ومن هذا المنطلق، صرنا اليوم بحاجة إلى إحياء أصولها الاجتهادية، وإعادة تفعيل أدواتها العقلية والمنهجية في قراءة الفقه والرواية، بما يحقق تجديدًا أصيلاً يتكئ على التراث دون أن يتجمد فيه، ويعيد النظر في القضايا الفقهية الكبرى بمنطق اجتهادي مرن، لا يفرّط في الأصول ولا يتقيد بحرفية التقليد.

فمدرسة أهل الرأي – بعمقها العقلي وتوازنها المنهجي – تملك إمكانيات كبيرة لإنتاج فقه أكثر نضجًا وانضباطًا، يتفاعل مع الواقع، ويفتح آفاقًا لإسهام جديد في تطوير الفكر الإسلامي.

الهوامش:

  1. مقدمة ابن خلدون ص 564.
  2.  الملل والنحل 2/11-12. 
  3. الملل والنحل 2/11-12. وانظر: أحمد أمين، فجر الإسلام، ص 235 وما بعدها. ومصطفى عبد الرازق، تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، ص 205 وما بعدها.
  4.  إشكالية التعامل مع السنة النبوية 201. 
  5. إشكالية التعامل مع السنة النبوية 201.
  6.  الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 1/383.
  7.  الفكر السامي للحجوي 1/427.
  8.  مالك، لأبي زهرة ص 295.
  9.  الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 2/27-28. 
  10. الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي 2/47. 
  11. الكامل في التاريخ 6/677.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى