أشتات

مقاصد الإسلام كما يصوغها القرآن

مباحث “مقاصد الشريعة الإسلامية” من المحاور المركزية في الفكر الأصولي المعاصر، لما لها من قدرة استيعابية عالية لأحكام الشريعة في شتى مجالاتها، ولكونها الإطار الذي يكشف عن الغاية الكلية للتشريع. وقد نظر إليها كثير من العلماء المعاصرين بوصفها النظرية الأكثر مرونة وعمقًا في تفسير النصوص، وتأويل الأحكام، ومواكبة المستجدات، وذلك لأنها تُعنى بروح الشريعة ومراميها النهائية، لا بمجرد ظواهر الأحكام وتفاصيلها.

فالمقاصد تعبّر عن الحكمةِ الكامنة في التَّشريع، وعن الأهداف العليا التي جاءت النصوص والشرائع لخدمتها. ومن خلال إدراك المقاصد تتشكل رؤية شاملة ومنهجية لفهم تعاليم الإسلام، بما يسمح بإدراك العلاقة بين الكليّات والجزئيات، وبين الوسائل والغايات.

وبهذا الفهم المقاصدي، يصبح من الممكن التمييز بين ما ينسجم مع مقاصد الشرع وما يتعارض معها: فكل ما يحقق النفع ويدفع الضرر، وييسر على الناس أمورهم، ويعزز كرامتهم وحقوقهم، هو منسجم مع الشريعة، وكل ما يؤدي إلى الظلم أو الفساد أو التعسير أو الفوضى أو الاعتداء على الإنسان فهو مما يناقض مقاصدها. لذلك، فإن المقاصد ليست فقط أداة لفهم النصوص، بل ميزان دقيق لضبط الفهم والاجتهاد، خاصة في القضايا المستجدة التي لم يرد فيها نصّ صريح.

في هذا الفصل، أتوقف عند مفهومي مقاصد الدين ومقاصد الشريعة، لأوضح حدود كل منهما، وبيان ما بينهما من تداخل أو تمايز، إضافة إلى مناقشة التصور الشائع عن مقاصد الشريعة وعلاقتها بالكليات الخمس: حفظ الدين، والنفس، والنسل، والعقل، والمال، ومدى اتساق هذه الكليات.

تفترق مقاصد الشريعة عن مقاصد الدين في ناحتين رئيسيتين:

الناحية الأولى: الشمول والجزئية

الشريعة ليست مرادفة للدين، بل هي جزء منه. فـ”الدين” أوسع وأشمل، فهو يتضمن العقيدة، والشعائر التعبدية، والقيم الأخلاقية، إلى جانب الأحكام التشريعية والتنظيمية. أما “الشريعة”، فهي ذلك الجزء من الدين الذي يختص بتنظيم شؤون الناس في الحياة العامة، من معاملات، وأحوال شخصية، وعقوبات، وعلاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية.

وبناءً على ذلك، فإن “مقاصد الدين” أشمل وأعمّ، إذ تشمل الغايات الكبرى التي من أجلها بُعث الرسل وأنزلت الكتب: كتحقيق التوحيد، وترسيخ العدل، وبناء الإنسان روحياً وأخلاقياً، وإرساء قيم الرحمة، والحرية، وغيرها من القيم العليا التي تعبد الإنسان لربه، وتحرره من عبودية غيره.

بينما “مقاصد الشريعة” أضيق نطاقاً، وتركز على الغايات التي من أجلها شُرعت الأحكام التفصيلية التي تنظم حياة الناس، مثل تحقيق العدل، حفظ الحقوق، تقويم السلوك، وإقامة مصالح العباد، ودفع المفاسد، وكل ذلك في إطار الواقع الاجتماعي والمدني الذي يتحرك فيه الإنسان.

وعليه، فإن غياب وعي المسلم بمقاصد الدين، والاكتفاء بمقاصد الشريعة، قد يجعله يمارس الأحكام بلا روح، أو يتعامل مع التدين على نحو آليّ شكلي، بينما الحضور الدائم لمقاصد الدين في الوجدان هو ما يمنح الفقه روحه، والتدين معناه، والسلوك اتزانه.

الناحية الثانية: اختلاف المدخل في الدراسة

التمييز بين مقاصد الدين ومقاصد الشريعة لا يقتصر على مضمون كلٍّ منهما، بل يتعداه إلى المنهج المعرفي ومدخل الاستنباط.

فـ”مقاصد الدين” تُستخرج ابتداءً من النصوص القرآنية والنبوية الكلية التي صرّحت بأهداف الرسالات والكتب والنبوة. وهي آيات تحمل في طيّاتها العلل والمقاصد الكبرى من بعثة الرسل، وإنزال القرآن، وهداية الناس، وتُبرز الغايات الكبرى للدين: كالرحمة، والعدل، والهداية، والتزكية.

أما “مقاصد الشريعة”، فإن مدخلها ليس النصوص الكلية مباشرة، بل الاستقراء التفصيلي لأحكام الشريعة، وبالخصوص الأحكام القطعية المتفق عليها، في مختلف مجالات المعاملات، والعبادات، والجنايات، وغيرها. ومن خلال هذا الاستقراء يُصار إلى بناء صورة كلية جامعة حول الغايات التي تنتظم تلك الأحكام، وتشكّل بنيتها القيمية.

وبالتالي فإن مقاصد الدين تُقرأ من أعلى: من النصوص الكلية، إلى الفروع.  ومقاصد الشريعة تُقرأ من أسفل: من استقراء الفروع إلى بناء كليات. وهذا الفارق مهم، لأن إدراكه يُساعد على عدم الخلط بين المجالين، وعلى تفعيل مقاصد الدين كموجه أعلى لمقاصد الشريعة، كي تظل الأخيرة خادمة للغايات الكبرى لا منغلقة على ذاتها أو منحرفة عنها.

مقاصد الإسلام كما يصوغها القرآن

مقاصد الدين في القرآن الكريم:

من خلال استقراء النصوص القرآنية وتأمل الآيات التي بيّنت مقاصد الرسالات الإلهية وعلّلت غاياتها، يمكن استخلاص مجموعة من المقاصد الكلية التي تشكّل جوهر الرسالة الإلهية ولبّ الدين في شموله، وتعبّر عن الغاية العليا للبعث والنذارة والهداية، ويمكن حصر هذه المقاصد في تسعة مقاصد كبرى تمثل البناء الكلي للدين ومقصده العام:

أول مقاصد الدين: التوحيد وتحرير الإنسان

التوحيد هو المقصد الجوهري الذي تواترت عليه الرسالات السماوية، وجاء به جميع الأنبياء دون استثناء، كما دلت على ذلك آيات القرآن الكريم، منها قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء: 25]، وقوله: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ [النحل: 36]. فمنذ آدم عليه السلام، كانت رسالة الرسل واحدة في جوهرها: الدعوة إلى عبادة الله وحده، ونفي كل أشكال الشرك والعبودية لغيره.

لكن التوحيد في جوهره ليس مجرد عقيدة نظرية أو شعائر دينية، بل هو مشروع تحريري شامل يهدف إلى فكّ قيود الإنسان من كل أشكال العبودية لغير الله، سواء كانت عبودية للأشخاص، أو للأفكار، أو للأهواء، أو للسلطة، أو للأعراف الاجتماعية التي تكرّس التسلط والهيمنة.

إن التوحيد يعيد توجيه ولاء الإنسان وتبعيته نحو مرجعية عليا متجاوزة، هي الله وحده، بحيث لا يخضع لغيره في طاعته واتباعه وقراراته، فيتحرر فكره، ويستقل ضميره، ويتسم سلوكه بالاتزان والمسؤولية. ومن هذا المنظور، فإن التوحيد يمثل نقطة الالتقاء بين الإيمان والكرامة، بين العقيدة والحرية، وهو ما يجعل من الإنسان فاعلًا حرًّا في مجتمعه، لا تابعًا ذليلًا، ولا أداة مفرغة من إرادتها. فالتوحيد بهذا المعنى هو الأساس الذي تُبنى عليه حرية الإنسان وكرامته، وهو البوصلة الكبرى التي توجهه نحو الحياة الأقوم.

التوحيد هو نظام تحرر كامل للإنسان من جميع أشكال الاستعباد والهيمنة التي تمارسها القوى السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو الثقافية. فالتوحيد – بمفهومه المقاصدي العميق – هو الذي ينزع من قلب الإنسان الخضوع المطلق لأي سلطة بشرية، ويمنحه وعيًا حرا، وإرادة مستقلة، وكرامة ذاتية، ويجعله مسؤولًا عن أفعاله أمام الله مباشرة.

وفي هذا السياق، فإن التوحيد يتجاوز كونه مبدأ غيبيًا فقط، ليغدو قاعدة في بناء الإنسان الحرّ، الذي لا يركع لهيمنة ولا يخضع لتقديس بشر، ولا ينجرّ خلف أصنام معنوية أو مادية من مال أو جاه أو قوة أو جماعة أو سلطة. إنه تحرير من الخارج ومن الداخل، من الوهم ومن الخوف، من التبعية ومن التقديس الزائف.

ومن هذا المدخل، نفهم كيف أن التوحيد هو نقطة الانطلاق لكل مقاصد الدين الأخرى:

– فمن دون التوحيد، لا يتحقق العدل على وجهه الكامل، 

– ومن دون التوحيد، لا تثمر الرحمة ثمارها، 

– ومن دون التوحيد، تفسد التزكية بالرياء والغرور، 

– ومن دون التوحيد، تضيع السعادة في عبودية الهوى والناس والطغيان. 

ولهذا فإن التوحيد هو الغاية التي إن تحققت، تحققت معها المقاصد الأخرى، وهو البوصلة التي تحرر الإنسان، وتعيد ترتيب علاقته بكل شيء: بخالقه، وبنفسه، وبالناس، وبالكون، وبالسلطة.

في الفكر السياسي الإسلامي. مدخل تأصيلي ج2 01 مقاصد الإسلام كما يصوغها القرآن

ثاني مقاصد الدين: القسط

فالقسط هو المقصد المركزي من إرسال الرسل وإنزال الكتب، كما نصت على ذلك آية محورية في سورة الحديد: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ [الحديد: 25]. فهذه الآية تقرر بشكل مباشر أن الغاية من مجمل الرسالات والكتب السماوية هي إقامة “القسط” بين الناس.

و”القسط” هنا لا يعني فقط العدالة المجردة، بل يشير إلى تحقيق نصيب كل ذي حق، أي أن يأخذ كل فرد أو جماعة ما يستحقه دون بخس أو زيادة، فهو مفهوم يرتبط بتوزيع الحقوق وتقدير الأنصبة في الحياة العامة والخاصة.

وقد فرّق بعض العلماء بين العدل والقسط، فقالوا:

– العدل هو المساواة وإعطاء كل طرف حقه في الإطار القانوني العام. 

– القسط هو تحقيق التوازن العادل، وهو أدق وأعمق، إذ يحمل معنى العدالة التوزيعية التي تراعي الفوارق والاحتياجات والظروف، فلا تساوي بين المختلفين، بل تعطي كل أحد “نصيبه المستحق”. 

وضدّ القسط: الجور، وهو أوسع من الظلم، لأنه يعني التعدي والانحراف عن الحق في التوزيع أو الحكم.  أما ضدّ العدل: الظلم، وهو حبس الحقوق أو تضييعها. 

وبهذا يتضح أن “مقصد القسط” هو أصل أصيل في الدين، ومحور تقوم عليه التشريعات والأوامر والنواهي، سواء على مستوى الفرد أو الجماعة، الحاكم أو المحكوم، وهو ما يجعل إقامة العدل ليست فقط غاية سياسية أو أخلاقية، بل ركنًا من أركان الدين ذاته.

ثالث مقاصد الدين: الرحمة

الرحمة هي المقصد الأبرز لرسالة النبي محمد ﷺ، كما يصرّح بذلك قوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107].

وهذه الآية تُعد بيانًا جامعًا ومباشرًا لغاية الرسالة المحمدية. فهي لا تحدد غاية جزئية أو ظرفية، بل تضع الرحمة كالإطار العام والغاية الشاملة، وتمدّ نطاقها لتشمل “العالمين”، أي: الإنس والجن، المؤمن وغير المؤمن، الفرد والمجتمع، الإنسان والحيوان، بل وكل مظاهر الحياة والوجود.

والرحمة هنا ليست مجرد عاطفة وجدانية، بل هي مبدأ عملي يُترجم إلى تشريعات وسياسات وتعاملات، فكل ما جاء به النبي ﷺ في الأصل يجب أن يصبّ في تحقيق الرحمة، ومن ثم، فإن أي فهم أو تأويل لتعاليم الإسلام يناقض هذا المقصد، ينبغي أن يُراجع في ضوء هذه الغاية العليا.

والرحمة التي بُعث بها النبي ﷺ تتجلى في: عدله مع الخصوم والأعداء، ورفقه بالضعفاء والمهمّشين، وتشريعاته التي تراعي الطبيعة البشرية وتدفع المشقة، ودعوته التي لم تقسر أحدًا، بل خاطبت العقل والوجدان.

فإذا كانت “القسط” هي عدالة التوزيع وضمان الحقوق، فإن “الرحمة” هي البُعد الإنساني في الدين، وهي الضمان ألا تتحوّل العدالة إلى قسوة أو جفاف قانوني.

فالرحمة والقسط – معًا – يمثلان جناحي المقصد الإنساني للدين: أحدهما يحقق التوازن والعدل، والآخر يضفي عليه روحًا من الرفق والإنصاف والتعاطف.

كتاب تراثي لترسيخ البناء الفكري المعاصر 2 مقاصد الإسلام كما يصوغها القرآن

رابع مقاصد الدين: التزكية

التزكية مقصد جوهري من مقاصد الدين، كما جاء في قوله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ﴾ [الجمعة: 2].

وفي هذه الآية، جاءت “التزكية” قبل التعليم، مما يدل على أن الإصلاح القيمي والسلوكي للنفوس هو غاية مركزية من غايات البعثة النبوية، بل قدّمها الله تعالى على تعليم الكتاب والحكمة، تأكيدًا على أن البناء الداخلي للإنسان سابق على بناء معرفته.

والتزكية تعني التطهير والنماء، فهي تطهير للنفس من أدرانها كالشح والكبر والحقد والرياء، ونماء للفضائل فيها كالإخلاص والتواضع والرحمة والعدل.

وهذا المقصد يكشف أن الدين لا يكتفي بالظاهر، بل يخاطب أعماق النفس الإنسانية، ويهتم بتزكية ضمير الفرد، ليكون عنصرًا فاعلًا في نشر الخير والعدل. فبدون التزكية، يمكن أن تتحول المعرفة إلى وسيلة للسيطرة، والعبادة إلى مظهر لا جوهر له، والحكم إلى ظلم مغلف بالشرعية.

وبذلك، فإن التزكية تمثل البُعد الأخلاقي والتربوي في الدين، وهي التي تُخرج الإنسان من الضلال والغفلة إلى البصيرة والاستقامة، كما أشارت الآية بقوله: ﴿وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ﴾. فالغاية أن يتحول الإنسان من عبودية الهوى إلى عبودية الله، ومن فوضى النفس إلى سموها.

خامس مقاصد الدين: إسعاد الإنسان

من المقاصد الكبرى التي يتضح من النص القرآني أنها غاية أساسية للدين، هي “تحقيق السعادة للإنسان”، في دنياه وأخراه. يقول الله تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى﴾ [طه: 1-3].

يفيد هذا النص بوضوح أن القرآن لم يُنزَّل ليكون عبئًا أو سببًا للشقاء والمعاناة، بل أنزل رحمة وهداية ونورًا، وموعظة تُرشد الإنسان إلى طريق الخير والطمأنينة. فالشقاء ليس من أهداف الدين، ولا هو نتيجة طبيعية للالتزام به، بل قد ينشأ الشقاء من الفهم الخاطئ للدين أو من تحميل الناس ما لم يُطلب منهم.

والسعادة هنا لا تُفهم بالمعنى السطحي، بل هي حالة من الاتزان النفسي، والرضا، والسكينة القلبية، تنبع من اتصال الإنسان بخالقه، ومن وعيه بذاته وغاياته، ومن مشاركته الفاعلة في إعمار الأرض بالخير. فالقرآن، في عمقه، جاء ليمنح الإنسان البوصلة التي تقيه التيه والضياع، ويضع له نظامًا يوازن بين حاجاته الروحية والمادية، ويوجهه إلى سبل تحقيق الخير لنفسه وللناس من حوله.

وعليه، فإن إسعاد الإنسان مقصد أصيل من مقاصد الدين، تتكامل فيه الرحمة والتزكية والقسط، ليخرج الإنسان من دوائر الخوف والضلال والضياع، إلى دوائر الأمن والهداية والرضا.

سادس مقاصد الدين: العبودية لله

من المقاصد الكونية الكبرى التي نص عليها القرآن بجلاء، أن العبادة هي الغاية التي خُلق من أجلها الإنسان والجن، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: 56].

وهذه العبودية ليست مجرد أداء للشعائر، بل هي منظومة وجودية شاملة، تُعبِّر عن غاية الإنسان الكبرى، وتمنحه المعنى والاتجاه في حياته. فكل فعل يصدر عن وعيٍ وقصدٍ لله، ويُحقق صلاح النفس والناس، يدخل في معنى العبادة، مهما كان مظهره دنيويًا أو اعتياديًا.

إن العبودية لله تُحرر الإنسان من كل صنوف العبودية لغير الله: من الخضوع للشهوات، أو لسلطة بشر، أو لمنظومات فكرية لا تراعي كرامته. فهي توحيد للولاء، وتحرير للإرادة، وتزكية للنفس، وتنظيم للعلاقة بالخالق والخلق والكون.

ولذلك فإن مقصد العبادة يتجاوز حدود الطقوس، ليصنع إنسانًا موصولًا بالله، مستقيمًا في سلوكه، نافعًا في مجتمعه، واعيًا بمسؤوليته الوجودية. فالحياة كلها تصبح ميدانًا للعبادة، والعمل عبادة، والعلم عبادة، والسعي على الرزق عبادة، طالما كانت النية صادقة، والسلوك متزنًا مع القيم الإلهية. وبذلك تتحول العبودية من مفهوم ضيق إلى مقصد شامل يصوغ شخصية الإنسان، ويعيد ترتيب أولوياته، ويربط الأرض بالسماء، والدنيا بالآخرة.

الحزين فضفضة عن الاكتئاب 3 مقاصد الإسلام كما يصوغها القرآن

سابع مقاصد الدين: الابتلاء

ومن المقاصد الكبرى التي يرشدنا إليها القرآن في مسألة الخلق، مقصد الابتلاء، يقول الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾ [الملك: 2].

فالابتلاء هو المحك الأساسي الذي يميز بين الخلق، ويُظهر معدن الإنسان الحقيقي، وهو الغاية التي من أجلها جاءت الحياة بهذا الشكل، وهي امتحان لا ينفك عن الإنسان منذ ولادته وحتى مماته. فالحياة ليست عبثًا ولا وجود الإنسان فيها بلا هدف، بل هي مجال اختبار وتكليف، يُقاس فيه الإنسان على أساس “أحسن عملًا”.

ومن خلال هذا الامتحان يتحدد مصير الإنسان ودرجته في الآخرة، إذ إن هذا الاختبار يُكلف الإنسان مسؤولية كبيرة في الاختيار والعمل، فيجعل منه كائنًا فاعلًا ومسؤولًا عن أفعاله، لا مجرد تابع لحوادث الحياة.

الابتلاء إذن ليس عقوبة، بل هو رحمة من الله تعالى، فهو يُمكّن الإنسان من تصحيح مساره، وتحقيق نمو روحي وأخلاقي، وصقل شخصيته، وصياغة إرادته نحو الخير والحق، من خلال التحديات والصعوبات التي يمر بها، سواء في حياته الفردية أو في مجتمعه.

وبذلك، يصبح الابتلاء طريقًا لتحقيق التكامل الإنساني والروحي، وفرصة لتأكيد الإيمان والثبات، وتحقيق السمو في العمل الصالح، وبناء علاقة متينة مع الله، تتسم بالثقة والتوكل.

إن معنى هذا المقصد يضيء لنا أن الحياة ليست مجرد وجود عابر، وإنما هي ميدان اختبار وتزكية، والنجاح فيه هو بلوغ الكمال الإنساني والرضا الإلهي، في ظل عظمة الله وقوته، ورحمته ومغفرته.

وهكذا، يصبح الوعي بالابتلاء جزءًا من فهم الإنسان لمعنى وجوده، ويصنع منه شخصية صلبة، صابرة، متوكلة، واعية بمغزى الأحداث، ومتصلة بمعنى أعمق من الظواهر السطحية.

ثامن مقاصد الدين: تعمير الأرض

وهو مقصد عظيم يُجسد وظيفة الإنسان ودوره الأساسي في هذه الحياة. يقول تعالى في محكم التنزيل: ﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ [هود: 61].

فهذا النص القرآني يوضح أن خلق الإنسان مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالأرض التي يعيش عليها، وأن الله سبحانه وتعالى خلق الإنسان وجعله خليفة في هذه الأرض ليعمّرها ويستغلّ خيراتها بما يحقق الخير والصلاح للبشرية جمعاء.

والاستعمار هنا لا يعني الاستغلال الجائر، بل هو عمارة الأرض بكل ما تحمل من معانٍ إيجابية:

– التعمير المادي، من خلال الزراعة والبناء والتطوير، فالإعمار بالعلم والعمل هو سبيل الإنسان لتحقيق ازدهار الحياة واستمراريتها. 

– التعمير الروحي والأخلاقي، إذ يجب أن تكون هذه العمارة قائمة على قيم الحق والعدل والخير والجمال، التي تحمي الأرض والإنسان معًا، وتحقق التوازن بين حاجات الفرد والمجتمع، وبين الإنسان والبيئة. 

– المسؤولية الحضارية، التي تجعل الإنسان مشاركًا في صنع الحضارة الإنسانية، مستفيدًا من موارد الأرض دون إفراط أو تبذير، ومراعياً حقوق الأجيال القادمة.

وهكذا، يصبح الإنسان في مقام وكيل الله في الأرض، مكلفًا برعاية هذه النعمة العظيمة، وبناء مجتمع صالح يحترم البيئة والطبيعة، ويعمل على تنمية قدراته وطاقاته بما يعود بالنفع على نفسه وعلى البشرية جمعاء.

إن عمارة الأرض ليست مجرد فعل مادي، بل هي مهمة روحية وأخلاقية تحمل في طياتها رسالة الإنسان ومسؤوليته في هذه الحياة، وتُعد من أهم مقاصد الخلق التي تبرز عظمة الدين وحكمته في تنظيم حياة الإنسان والعالم.

في مواجهة نفسه .. رصاصة الرحمة في صدر الإلحاد9 مقاصد الإسلام كما يصوغها القرآن

تاسع مقاصد الدين: حرية الاختيار

حرية الاختيار هي من أسمى مقاصد الدين وأساسياته، لأنها تشكل جوهر العلاقة بين الإنسان وخالقه، وتعبر عن احترام الله للإنسان ككائن عاقل ومسؤول قادر على اتخاذ قراراته بنفسه. فالدين لا يريد عبودية قسرية أو إكراهًا، بل يدعو إلى إيمان نابع من اقتناع داخلي، وعبادة تصدر عن إرادة حرة.

هذه الحرية تمنح الإنسان القدرة على التمييز بين الخير والشر، الحق والباطل، وتجعله مسؤولًا عن أفعاله وأقواله، وهذا ما يجعل محاسبته يوم القيامة عادلة ومنصفة. بدون حرية الاختيار، لا يمكن أن يكون هناك تكليف أو اختبار، وبالتالي لا معنى للمسؤولية الأخلاقية أو الجزاء والعقاب.

حرية الاختيار تُمكّن الإنسان من تطوير ذاته وتحقيق كماله، فهي تفتح له المجال للتعلم والنمو الروحي والأخلاقي، وتجعله شريكًا فاعلًا في بناء مجتمعه وتحقيق الخير. من جهة أخرى، تمنع فرض الأفكار أو القناعات بالقوة، لأن ذلك يُحرم الإنسان من حقه الطبيعي في الاعتقاد والرفض، ويحوّله إلى مجرد تابع غير مدرك.

لذلك، يؤكد الدين على مبدأ “عدم الإكراه في الدين”، ويحث على الحوار والنصح بالحكمة والموعظة الحسنة، ويترك للإنسان خيار الإيمان أو الكفر، ويعتبر الإيمان الحقيقي هو الذي ينبع من قناعة حرة، وليس من ضغط أو إجبار.

بعبارة أخرى، حرية الاختيار هي ركيزة أساسية تضمن للمسلم ولغيره القدرة على بناء علاقة صادقة ومبنية على المعرفة والوعي مع دينه، وتضمن للدين ذاته أن يكون دعوة رحمة وهداية لا سلطة قسرية. وهكذا، تتحقق العدالة الإلهية ويُرفع شأن الإنسان ككائن مختار مسؤول، يحمل أمانة حريته التي جعلها الله ميزانًا للاختبار في هذه الحياة.

حرية الاختيار هي الأمانة التي جاءت في قوله تعالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ [الأحزاب:٧٢].

فالآية تصوّر أن الله سبحانه عرض على المخلوقات الكبرى – السماوات والأرض والجبال – حمل أمانة عظيمة، وهي “مسؤولية الحرية والاختيار”، فرفضت هذه المخلوقات بسبب ثقل هذه المسؤولية وعظمتها، بينما قبلها الإنسان رغم ثقلها، ما يدل على أن الإنسان مُكلف بحريته وباختياره، وحُمل عليه أمانة ثقيلة ومسؤولية جليلة.

وهنا يتبين أن حرية الاختيار ليست مجرد قدرة على اتخاذ القرار، بل هي أمانة ومسؤولية عظيمة تقع على عاتق الإنسان، تعنيه أن يحسن استعمال هذه الحرية في طاعة الله واتباع الحق، وأن يتحمل تبعات قراراته أمام الله يوم القيامة.

بذلك، الحرية في الدين ليست ترفًا أو حقًا بلا حدود، بل هي أمانة إلهية عظيمة منحها الله للإنسان، ليُظهر بها إيمانه الحقيقي من خلال اختياره الطوعي ومسؤوليته في التزامه الديني والأخلاقي. ومن هنا، تتجلى عظمة الإنسان وكرامته في قدرته على اختيار مساره، وتصبح هذه الحرية امتحانًا واختبارًا عظيمًا أمام الله، يعكس حكمة الخلق ومقصد الدين من خلق الإنسان.

الإسلامية من الصلاحية إلى الضرورة ج4 مقاصد الإسلام كما يصوغها القرآن

خلاصة:

يمكننا أن نجمل مقاصد الدين العامة التي وردت في الآيات القرآنية بتقسيمها على أركان الإسلام الثلاثة: العقيدة، والشعائر، والشريعة، فيظهر لنا هذا التوزيع:

– مقاصد العقيدة: تتمحور حول تحقيق التوحيد لله والعبودية له وحده، إذ هما جوهر الإيمان وغاية بعثة الرسل، وفيهما يتحقق تحرّر الإنسان من كل صور العبودية لغير الله. 

– مقاصد الشعائر: تتجلى في تزكية النفس وتهذيب السلوك، وغرس التقوى في القلب، لأن الشعائر ليست مجرد أفعال، بل وسائل لبناء الإنسان الروحي والأخلاقي. 

– مقاصد الشريعة: تقوم على تحقيق القسط بين الناس، وعلى بسط الرحمة في المجتمع، بما ينشر الخير والأمان بين أفراده.

ومن اجتمعت فيه هذه المقاصد الثلاثة، فقد سار في طريق “عمارة الأرض” بالقيم، ونجح في “الابتلاء” عبر حسن العمل، ونال “السعادة والانسجام” مع ذاته والكون من حوله، وحقق غاية الدين الكبرى في إقامة الخير في الدنيا والفوز في الآخرة.

وعليه فتتلخص مقاصد الدين في: 

1. مقاصد العقائد: التوحيد والعبودية. 

2. مقاصد الشعائر: التزكية والتقوى. 

3. مقاصد الشريعة: القسط والرحمة والتعمير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى