عاش الناس لأكثر من أربعة عشر قرنًا يؤمنون بمركزية الأرض، وبأنّ السّماء بكلّ ما تحمله من أحجام ضخمة ومكونات لا معدودة من مجرات ونجوم وسدم، تدور حول الأرض، وما ذلك إلّا وهم من أوهام القرون الماضية وإنّ القدرة على تخيّل نتائج تلك الفرضيّة الوهميّة متنفس يمكننا التحليق به بعيداً عن الحقيقة التي نعيشها وما تخيّل ذلك إلا محاولة خجولة لنقول بكلّ ما نملك من عقول ومشاعر وأفئدة أنّ الله خالق هذا الكون ومدبره فسبحان الله، عجزنا وعظمة قدرة الله وخُلقنِا وجلّ إبداع الله عن النقص والعيب والخطأ.
“طفل يحاول أن يفرغ البحر من ماءه”
” ماذا لو كانت تلك الفرضيّة؛ حقيقة هذا الكون؟ ما الذي كان يجب أن يتغيّر وما الذي كان يجب أن يكون؟” رأيت نفسي أسألها بصوت ملح عبث بسكوني وقدرتي على متابعة نومي بعد أن اخترقت أشعة الشمس نافذتي دون رحمة، فرحت أجري إلى مكان أرى فيه المدى بجلاء فإذا بالشمس التي تكبر الأرض التي نحن عليها بأبعاد هائلة والتي يعبر عنها العلماء بأنّها أهم مصدر للحياة على وجه الأرض ماثلة أمامي تدنوا بتدرج شيئاً فشيئاً ورأيت نفسي أمامها كطفل يعبث على الشاطئ يحاول أن يُفرغ البحر من ماءه فتأخذه الموجة وتتركه بعيداً غريباً، نعم أيّها السادة لم أجد إجابة فبعد أن تمّ اكتشاف النظريّة الحقيقيّة نسي العالم أن يسأل ماذا لو ؟ لذا هربت إلى الخيال علّه يملأ الفراغات التي صنعتها أشعة الشمس تلك فيكمله، وها أنا ذا أكتب ما كان من حديث نفسي وخيالي ليس إلّا .
“فصلان أبديان”
لو ثبتت الأرض في مكانها دون حراك وكانت الشمس من يدور حولها في كلّ عام مرّة بحيث تكتمل دورتها في ثلاثة مائة وستون يوماً من أيّامنا لغشّى الليل جزءًا من الأرض لفترة طويلة جدًا تصل إلى أكثر من شهر بينما لتجلّى النهار في تلك المدّة جزئها الآخر ولتزامن مع ذلك حلول الفصول: ليل وشتاء، صيف ونهار ولتحتم علينا العيش في السبات الشتوي كما تفعل الدببة والسناجب، لاستحالة العيش إذا ما اجتمعت عتمة الليل بغياب الدفء ولأصبحت أعمارنا تقاس بتواقيت غريبة مثلاً طفل وِلد قرب مجيء الليل الألفين والثالث عشر وآخر مع طلوع الشمس الألفين والرابعة عشر وفلان مات بعد سبع ليالي وآخر عاش نهار واحد وحصل فلان على الشهادة خلال أربع دورات للشمس حول الأرض وكانت فلانة حامل لكن يكتمل بعد شكل بطنها المدور الجميل ثمّ نامت وعندما استيقظت رأت طفلها بين قدميها يحاول نطق الحرف ولما عرف النّاس معنى النجوم السابحة فهم ينامون في الليل والنائمون يغلقون أعينهم فلا يرون، ولم أكن لأفهم كيف يمكن أن تكون بنية جسم الإنسان الجديد مع تلك الفرضيّة وكيف سيحتمل العطش والجوع لفترة زميّة والتي على حساباتنا الآنيّة تعادل الشهور وهو نائم ولم أكن لأعرف هل تنطبق عليه نظريتنا في هذا العالم أنّ الإنسان الذي لا يتناول الطعام خلال ثلاثة أيام يموت؟ فمثلاً لو كانت تطبق هذه المعلومة هناك لصحّ أنّ الطالب الجامعيّ يستطيع أن يتناول الطعام مرّتين فقط خلال سنوات دراسته مرّة عندما يدخل الجامعة ومرة عندما يتخرج فلا يصيبه أيّ مكروه ولا يموت ويستطيع أن يواصل الدراسة بلا توقف لمدة شهور على حساباتنا الحاليّة ولأنهى في نفس النهار كلّ مقررات السنة الدراسيّة، هذا وقد يكون سلوك الإنسان مع تلك النظريّة بطيئاً ويومه سنة من سنوات أعمارنا ف بالسنة التي تنقلب فيها حياتنا رأساً على عقب تكون كيوم هاهناك فتحمل المرأة في تسع سنوات من سنوات أيّامنا ويعيش المرء سبعمائة سنة ويتخرج الطالب من الجامعة في أربعمائة سنة ولأصبح الحبّ بعد تسعين سنة سنابل تتمايل يسرة ويمنة علّ زارعها يشفق عليها ويأويها المخازن والطواحن والمخابز والمطابخ والبطون .
“الفصول تتسابق”
أما لو كانت سرعة دوران الشمس حول الأرض خاطفة جدًا بحيث تكتمل دورتها في أربع وعشرين ساعة، لاجتمعت علينا فصول السنة كاملة في يوم وليلة؛ ولقضينا ست ساعات مرتعدين من قسوة البرد نوقد فيها المدافئ لنكسر سطوة الشتاء فيها، ولعشنا في مثلها في جو ندي تخرج فيه النباتات وتزدهر الأرض وتشدوا الطيور على أفنان الديار، ثم لتلتها ست ساعات تتساقط فيها الأوراق من حولنا سادلة على أرضنا لوناً كستنائياً جميلاً ثمّ لاحترقنا فيما تبقى من يومنا بفعل لهيب الصيف الذي لا يرحم.
لربّما لو كانت حياتنا متباينة الفصول في اليوم ذاته، لأكثرنا الدهشة ولخرج الواحد منّا من بيته لا يعلم ما الذي ينتظره في الخارج وأيّ أحوال الطبيعة ستشغله ومجرد تخيّلنا أنّ دوامنا سيبدأ بطقس معين وسينتهي بآخر كفيل بأن يجعلنا نشعر بالخوف أو التردد، أو لربما بشعور جديد لم نعشه ولم تذقه من ذي قبل متناسب مع تلك النظريّة لو كانت صحيحة .
ولما كاد الفلاحون ينتهون من جني المحاصيل حتى تعاود الأرض في اليوم التالي الإنجاب، ويعاودون معها العمل والكفاح، فالأرض لا تثمر من تلقاء نفسها وإنما من الحياة التي تمنحها إياها الشمس فوالله إنّه لشيء ثري أن يبذر الإنسان ويحصد في ذات اليوم ولكن أين سنخزن هذا الكمّ الهائل من المحاصيل التي ستتراكم؟ أم سنضع قوانين صارمة للحد من الزراعة؟ أم سنكون مستهلكين بالدرجة الأولى فالذي نستخدمه في الحقيقة التي نعيش فيها خلال سنة كاملة سنستخدمه في يوم واحد ؟
ولكن ماذا عنّ أعمارنا وموتنا وتكيفنا مع ماحولنا لربّما مع تلك النظريّة يجب أن نكون أسرع فالذي ننجزه في شهور يجب أن نفعله في سويعات ولربّما يجب أن نكون أكثر حكمة ولباقة لمواجهة الطبيعة ذات الدوران العاصف حولنا .
“نجوم راقصة على مسرح ثابت”
لو صحت النظريّة لوجب أن تكون السماء في الليل كشاشة غنية بالمشاهد، بكل ما تحويه من أعاجيب ولبقي الإنسان لا يكف النظر إليها، ولما تعرضه من معجزات تدور حول الأرض بسرعات مختلفة ولصاحب مثلًا أندر وألمع نجمة التي تدعى الشعرى اليمانية، أو تلك التي تبدو كعين الثور والتي تسمّى الدبران، ولقصّ لهم الحكايات ولبث لهمم الهموم ولوقف عاجزاً عن فهم حركاتهم فلكلّ منهم مسار غريب، لكن ماذا عن المذنبات؟ عن الشهب؟ هل ستكون محصورة في دائرة ضيّقة فوق منطقة معينة من الأرض؟ أم ستُنثر في السّماء بلا انتظام لتبدو وكأنّ السماء نفسها تنبض بالحياة وترقص حولنا في مشهد يفوق القدرة على قصّه والحديث عنه، لربّما لن نصدق ما ستراه أعيننا من جمال الظواهر الطبيعية الغير مألوفة لنا التي ستخلقها الأجرام الدائرة بسرعات هائلة ك شفق ملون مستمر، وأعاصير تتبع الشمس في مسارها حيثما سارت وأمواج محيطية تتغير شدتها كل ساعة فتعبث بمدّ البحر وجزره ..
“النهاية”
في هذا السيناريو الخياليّ، ستصبح الأرض لوحة فنيّة متقلبة، مليئة بالحياة والدهشة، وسيكون لكلّ لحظة قيمتها الخاصة، ولكلّ ضوء وظلّ، وندى وورد، وشروق وغروب معنى جديدًا. وستصبح الحياة مستمرة في تجددها ومفاجئاتها، وستدفع الإنسان للتأمل العميق ولربما للتغيّر الجذري حتى عن كلّ طبائعه.
في النّهاية، تظل فكرة مركزيّة الأرض مجرد وهم عاشه من قبلنا وخيال نعيشه باستمرار؛ ربّما ليمنحنا فرصة للتأمل، وللعيش بين احتمالات غير محدودة، حيث تتحرك النجوم، وتتنقل الفصول، ويشعر الإنسان بعجائب الكون من حوله.
إنّ اللعب بالفكرة والعبث بها واستكشاف أثرها على حياتنا اليومية والطبيعيّة يذكّرنا بعظمة الكون وحقيقة أنّ العلم والخيال يكملان بعضهما، ليغذيا روح الإنسان بالدّهشة واليقين فسبحان الله حين نمسي وحين نصبح.
احسنت دكتوره هبه بارك الله بك