أدب

في ذكرى الطاهر

عليّ جواد الطّاهر ... المُعلِّم

عليّ جواد الطاهر على سَعةِ أفقه، وبعدِ مداه، وكثرةِ الميادين التي جال فيها فكره وقلمه؛ معلّمٌ في أصل رسالته؛ بنى تعليمَه على إشاعةِ الحق والصواب، ومحاربة الضلال والخطأ ببيان واضح صريح، وسلوكٍ ناصع.
كان يحبّ العربيةَ وما يتفرّع منها، ويحبّ أن يعلّمَها ، ويسرّه أن تَحلى بها الألسنُ، وتزدانَ بها الأقلام، ويؤذيه أن يزلّ بها لسانُ أو قلم . كان يراها قِوامَ كيان الفردِ والأمّة؛ إذ لا كيانَ بدون لغةٍ سليمة مبينة تستوعب العاطفةَ والفكر، وتصل ما بين غابر وحاضر.
كان يعلّم العربيةَ بنصوصها الراقية، الباقيةِ على الزمن؛ يأخذ النصّ من الشعر أو النثر، ويقرؤه، ثمّ يُقرئه، حتى يلينَ على الألسن، وينفذَ إلى الصدور، وتتمكّن ألفاظُه من سامعيه، ثمّ يشرع في بسط مداره، وما بعث عليه، ويلتقط من نسيجه ما يدلّ على لبّه، وعلى منحى صاحبه فيه، ثمّ يأتي على أدوات الأديب في بيانه، ويقف عند مقدرتها على التصوير والإيحاء. ولا يشترط في النص الذي يعلم العربية به أن يكونَ قديمًا، أو أن يكونَ جديدًا، بل شرطُه الأصيل أن يكون النص حيًّا ثريًّا، ينسجم فيه المبنى مع المعنى. وهو في ذلك يسأل الطلبةَ ، ويختبر فهمهم ، ومقدار ما اقتربوا به من النص ويقوّم ما يزلّون فيه ، ويشتدّ ، ولا يُرضيه ما يُرضي غيرَه، فأنت معه في ذروةِ الجِدّ الذي لا مدخلَ للتهاون إليه.
وإذا رسم شِرعةَ تفهّم النصّ دعا الطلبة إلى أن يتفهّموا نصوصًا أخرى؛ يصطفونها ويجرون أقلامَهم فيها، وهم من بعدُ، عليهم أن يجيبوا عن أسئلة، يلقيها عليهم، كثيرةٍ لا تنقضي، وكلّ سؤال إنّما يفتح بابا من المعرفة .
كان من نهجه في تعليم العربية أن يجمع بين النظريّةِ وتطبيقها ، ولا ينفع عنده نظرٌ بدون أن يُطبّق تطبيقًا سليمًا على النصّ.
والعربيةُ لديه واحدة بنحوها، وصرفها ، وصوتها ، وبلاغتها ، وكلّ ذلك إنّما هو من أجل النصّ، في إنشائه ، وفي تذوّقه، وتفهّمه. ولا جدوى من تلك العلوم إن لم تقم على رعاية النصّ، وتذليل سبله.
كان يسوؤه أن تضطربَ ألسنُ الطلبة، وأن تشتبه عليها همزةُ الوصل بهمزة القطع، أو يخرج حرف من غير مخرجه؛ وكان يسارع إلى ردّهم إلى الصواب، ولا يرضيه إلّا أن يجيءَ الحرفُ متحققًا بموضعه نطقًا ورسمًا، وأن تجيء الكلمة والجملة على صياغة عربية . ولقد كان من أشد الأساتذة عناية بضبط عين الفعل الماضي والمضارع ، وتنبيهًا على ما يقع فيها من خطأ، بل إنّه في ذلك ليزيد على أساتذة النحو والصرف. وكلُّ زلل في العربية كبيرٌ عنده لا يمرّ من دون أن ينبّه عليه.
وتلتقي شدّتُه الشديدة في قاعة الدرس مع روح كريم سمح قادر أن يحفظ على الطالب كرامته وأن يصحّح خطأه، ويردّه إلى الصواب، ويزرع الثقة في نفسه، ويهديه سُبل المعرفة.
وليست شدّتُه الشديدة غيرَ غيرته على العلم ، وسبل تحصيله ، وعلى العربية ومكانتها. وهو على شدّته تلك لا يني يسمع كلّ ملاحظة يبديها طالب على رأيٍ له، أو على كتاب من كتبه؛ يسمعها ويدوّنها في دفتر معه، ويشكر من أبداها. بل إنّه ليدعو الطلبة، وقد وُضِع بين أيديهم كتابه: منهج البحث الأدبي؛ يدرسونه سنةً كاملة، أقول إنّه ليدعو الطلبة أن يبيّنوا ما يرونه نقصًا في الكتاب من أجل أن يستكمله؛ ذلك أنّه معلّم يعلّم بلفظه كما يعلّم بسلوكه ، ويرى أنّ المعلّم معلّم ومتعلّم معا.
ومن نهجه في منحى التعليم أن يسير بالمتعلّم خطوةً خطوة ، فلا ينتقل من أمر إلى آخر إلّا بعد أن يتيقّن من اتضاح معالمه ، وأن الطالب صار قادرًا على إجرائه على النصوص .
ولا يرضى بمعرفة تجيء من غير معدنها ، وتؤخذ من غير أهلها؛ فإذا أردت شيئًا من الأدب القديم وجب عليك أن ترجع إلى أصوله القديمة ، وإذا أردت شيئًا من أدب أوربي كان عليك أن تستقيه من لغته الأوربية حتى تتم المعرفة بسياقها وإطارها .
ويتسع به الدرس اتساعا لذيذًا فيه المعرفةُ التي من نسيجها المتعة؛ فيكون من قوامه أنّ لكلِّ طالب دفترًا يختار فيه ما يروقه من شعر ونثر، ويعرضه عليه في كلِّ أسبوع . وأن يقرأ كلُّ طالب كتابًا مترجمًا ويكتب خلاصته ، زيادة على بحث أدبيّ يزاوله الطالب وكأنّه باحث!
وكان إذا لمس في طالب ما موهبة، أو شيئًا من موهبة عُني به ، ورعاه ، ورجا أن يصبح يومًا ذا شأن في ميدانه ، وخرج معه من قاعة الدرس إلى الصحافة الأدبية يسدّد خطواته فيها ، ويمهد له حتى يستقيم عوده.
وله في صياغة الأسئلة ، وإجراء الامتحان طريقةٌ فذّة يستكمل فيها التعليم ، ويفتح بها أفقًا آخر ، ويُبعد بها الطالب عن الحفظ الأصمّ ، ويقترب به من التفكير النقدي ، ويحفز لديه ملكةَ التحليل والاستنتاج. وهي، من بعدُ، أسئلةٌ لا يستطيع من يروم الغشّ أن يغشّ في جواباتها إذ ليس له في قاعة الامتحان إلّا ذهنه وقلمه ، وليس من جواب حاضر لسؤال من تلك الأسئلة في ما بين يديه.
ولم أرَ من يجعل الأسئلة الامتحانية قادرةً على شحذ الذهن ، والتعليم مثله!
ولمّا غادر قاعةَ الدرس صارت مكتبته في داره موئلَ تعليم ، ومثابةَ درس أدبيّ ثقافيّ لا تنقضي فوائده . ولا تفتقد وأنت عنده في مكتبته شيئًا ممّا ألفته لديه إلّا شدّته الشديدة تلك ، فإنّ مكانَها قاعةُ الدرس ومنصّة المناقشة ، أمّا في داره فليس لزائره منه إلّا علمُه الجمّ ولينُ جانبه ، وطلاقةُ وجه كريم ، وضيافة بيتٍ سخيّ ، وأريحيةٌ تملأ المكان .
إنّه معلّم ، علّم العربية فحبّبها إلى الأنفس ، وعلّم المنهج الرصين ، وعنده أن لا تطلب الحقيقة خير من أن تطلبها من دون منهج ، وعلّم النقد الأدبي ، وعلّم أشياء أخرى ، وعلّم قبل هذا وبعده الاستقامة في الحياة على صراطٍ مهيعٍ نيّر المعالم .
وقد كنتُ أزوره ، وأجد في زيارته أشياء كثيرة ممّا يمتع العقل والنفس ، ويفتح آفاقًا في مسيرة الحياة . وإن أنسَ فلا أنسى وقد ثقل عليه المرض في أيّامه الأخيرة ، وهو لا يفارق حديث الأدب والمعرفة وما يتصل بهما ، ولم يشغله ما هو فيه عن نهج التعليم عنده ، ورغبته في زيادة المعرفة واستقامة منهجها .
إنّه معلّمٌ لا يرى معنى الحياة من دون علم وتعليم …!
اليومَ ذكرى وفاته التاسعة والعشرون ، أمّا حياته فمتجدّدةٌ بأدبه وبيانه وفكره …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى