
عندما تقع كارثة كبرى في العالم العربي – سقوط نظام، أو انهيار اقتصادي مفاجئ، أو هزيمة عسكرية مدوية – يجد المراقب نفسه غارقاً في فيضان من التحليلات والتفسيرات التي تملأ الفضاء العام. من مقالات الرأي في الصحف الكبرى إلى النقاشات التلفزيونية الصاخبة، ومنشورات الخبراء على وسائل التواصل الاجتماعي، يتشكل مشهد فكري شبه طقوسي. ثمة نمط متكرر، وإجابات تبدو جاهزة على الدوام، تُقدَّم للجمهور المتعطش للفهم. لكن بعد قراءة متأنية، تبدأ الحيرة في التسلل إلى العقل، ويتجلى نمط أعمق وأكثر إثارة للقلق.
تكمن الإشكالية في أن السواد الأعظم من هذه التحليلات يجيب ببراعة عن سؤال “كيف” وقع الحدث، بينما يتجاهل بشكل شبه كامل سؤال “لماذا” كان وقوعه ممكناً في المقام الأول. نحن أمام هيمنة ساحقة للتفسيرات السردية التي ترسم تسلسلاً زمنياً للأحداث، وتحدد الفاعلين الرئيسيين، وتوزع أدوار البطولة والخيانة. في المقابل، هناك ندرة مقلقة في التحليلات التي تتعمق في الظروف الكامنة والمواطن الضعف البنيوية التي جعلت المنظومة بأكملها قابلة للانهيار. والنتيجة هي فضاء فكري غني بالقصص والحكايات، لكنه فقير إلى حد مقلق في التشخيص الدقيق.
سقوط صنعاء (2014)
يقدم سقوط العاصمة اليمنية صنعاء في يد الحوثيين في سبتمبر 2014 نموذجاً مثالياً لتفكيك هذه الظاهرة. فالإجابة السائدة تركز على سردية درامية ومباشرة، بينما تتجاهل الأسئلة البنيوية العميقة التي جعلت هذا السقوط ممكناً.
تتمحور الرواية المهيمنة حول “الخيانة” وتحالف المصالح. تركز هذه السردية على التحالف التكتيكي بين الحوثيين، أعداء الأمس، والرئيس المخلوع علي عبد الله صالح، الذي حاربهم لسنوات.22 وفقاً لهذه الرواية، سهّل صالح، الذي كان لا يزال يحتفظ بولاء قطاعات واسعة من الجيش والأجهزة الأمنية، سيطرة الحوثيين على العاصمة بهدف تقويض خليفته، الرئيس عبد ربه منصور هادي، والانتقام من خصومه السياسيين الذين أطاحوا به في 2011. هذه الرواية تقدم قصة واضحة ومحكمة: لم تسقط صنعاء بقوة الحوثيين وحدهم، بل سقطت نتيجة “طعنة في الظهر” من النظام القديم ، وتواطئ هادي. إنها تحدد الفاعلين (صالح والحوثيون) والفعل الحاسم (التحالف الخياني)، وتقدم تفسيراً مغلقاً ومريحاً نفسياً للكارثة.26
لكن هذا “الوصف” لكيفية السقوط يفتح الباب أمام أسئلة “لماذا” الأكثر عمقاً وإزعاجاً، وهي الأسئلة التي تتجاهلها السردية السائدة:
- “لماذا” كانت الدولة اليمنية هشة إلى هذا الحد، بحيث يمكن لتحالف تكتيكي بين خصمين أن يؤدي إلى انهيار عاصمتها وسيطرتها على مؤسسات الدولة؟
- “لماذا” فشلت عملية الانتقال السياسي التي أعقبت ثورة 2011 في تفكيك شبكات المحسوبية والنظام الكليبتوقراطي الذي بناه صالح على مدى عقود، مما سمح له بالاحتفاظ بنفوذ مدمر حتى بعد خلعه؟.23
- “لماذا” كان الجيش والأجهزة الأمنية منقسمين ومُسيَّسين إلى درجة أن ولاءهم لم يكن للدولة، بل لشخصيات مثل صالح أو الجنرال علي محسن الأحمر، مما جعلهم أدوات في صراع النخب بدلاً من كونهم حماة للوطن؟ ولماذا نجح هؤلاء في السيطرة على الجيش بالدرجة الأولى؟
- “لماذا” فشلت حكومة الرئيس هادي في معالجة المظالم الاقتصادية والاجتماعية، وأقدمت على خطوة رفع الدعم عن الوقود في يوليو 2014، مما أثار غضباً شعبياً واسعاً استغله الحوثيون بذكاء لحشد الجماهير وتوفير غطاء شعبي لتقدمهم العسكري؟.22
هذه الأسئلة تنقلنا من التركيز على الخيانة الشخصية لصالح إلى الفشل البنيوي لدولة بأكملها، والتي كانت في حالة تفكك بطيء قبل وقت طويل من وصول الحوثيين إلى أبواب صنعاء.23
إننا لا نقف أمام انحياز معرفي عشوائي، بل أمام ما يمكن تسميته بـ “الاختزال الوصفي” (Descriptive Reductionism)، وهو ظاهرة منهجية يتم فيها استبدال “السببية البنيوية” (Structural Causation) بـ “السببية السطحية” (Proximate Causation).1 هذا الاستبدال ليس مجرد فشل فكري، بل هو نظام سياسي ونفسي وظيفي. فالتركيز على “الكيف” هو أداة فعالة لإدارة الغضب الشعبي وتوجيهه بعيداً عن جذور الفشل الحقيقية. عندما تقع أزمة اقتصادية نتيجة عقود من خلل بينيوي أو الفساد المُمأسس وشبكات المحسوبية التي تشكل “صفقة ديمومة السلطة” authoritarian bargain 3، فإن التحليل البنيوي (لماذا) سيشير بأصابع الاتهام مباشرة إلى النظام نفسه. هذا أمر خطير سياسياً.4 لذلك، تتدخل أجهزة الإعلام التي تسيطر عليها الدولة لترويج سردية “الكيف”، التي تركز على أسباب سطحية مثل “مؤامرة خارجية” أو “خونة الداخل”.6 هذه السردية تحول أزمة حوكمة إلى دراما أمن قومي، وتستبدل المساءلة السياسية بمطاردة كبش فداء، مما يضمن بقاء البنى الفاسدة التي أنتجت الأزمة في المقام الأول. إن اغتيال “التفسير” ليس مجرد عرض جانبي، بل هو شرط أساسي لبقاء الوضع الراهن.
السببية السطحية كحجاب للسببية الجذرية
لفهم أبعاد هذه الأزمة الفكرية، لا بد من تحديد دقيق للمفاهيم التي تشكل قطبيها.
ينتمي سؤال “كيف” إلى عالم “السرد” (Narrative). هدفه الأساسي هو “حكاية قصة”.7 يهتم السرد بتحديد الشخصيات (الأبطال والأشرار)، ووضعها في تسلسل زمني للأفعال، وربط هذه الأفعال في حبكة متماسكة.9 إنه يجيب عن أسئلة: “من فعل ماذا؟ ومتى؟ وبأي ترتيب؟”. قوة السرد تكمن في قدرته على تنظيم التجارب الفوضوية وتقديمها في قالب مفهوم له بداية ووسط ونهاية، وغالباً ما يحمل رسالة أخلاقية واضحة.9
على النقيض، ينتمي سؤال “لماذا” إلى عالم “التحليل” (Analysis). غاية التحليل ليست حكاية القصة، بل شرح “لماذا” كانت هذه القصة ممكنة أصلاً. إنه يسعى إلى “تفكيك الظاهرة إلى أجزائها المكونة وفهم العلاقات بينها”.7 لا يهتم التحليل بالحدث بقدر ما يهتم بالظروف والبنى والأنظمة التي مكّنت الفاعلين وحدّت من خياراتهم. هدفه هو تحديد “لماذا تقع الظواهر”.10
إن هيمنة سؤال “الكيف” ليست مصادفة، فالأسباب القريبة أو السطحية تمتلك جاذبية نفسية ودرامية قوية.
تقدم الأسباب القريبة راحة معرفية وعاطفية. إنها تختزل التعقيد المربك للواقع في تفسيرات بسيطة وثنائية (أبيض وأسود)، مما يقلل من القلق الناجم عن الغموض.12 وبحسب علم النفس السردي، فإن القصص “تجعل التجارب الفوضوية آمنة” عبر صياغتها في حكايات سببية مفهومة.9 إن إلقاء اللوم على “خائن” أو “مؤامرة” أسهل نفسياً من مواجهة الحقيقة المرعبة المتمثلة في وجود نظام فاسد ومعطوب بشكل عميق، لا يملك الفرد سيطرة عليه.
سؤال “الكيف” درامي بطبيعته. إنه ينطوي على أفعال ونوايا وصراعات بين شخصيات. إنه مادة الأخبار العاجلة والقصص المثيرة التي تستهلكها وسائل الإعلام. أما سؤال “اللماذا”، الذي يتعامل مع اتجاهات بطيئة الحركة مثل التدهور المؤسسي، أو الضغوط الديموغرافية، أو عدم استدامة الاقتصاد الريعي 3، فهو مجرد وممل، ويفتقر إلى الإثارة السردية اللازمة لجذب انتباه الجمهور العام.
في المقابل، تتسم الأسباب البنيوية بالتعقيد والتجريد، مما يجعلها أقل جاذبية وأصعب على الفهم.
الأسباب البنيوية ليست أحداثاً يمكن الإشارة إليها، بل هي “ظروف” و”أنظمة”. تشمل مفاهيم مثل “صفقة ديمومة السلطة” ، والفساد الاضطراري ، ورأسمالية المحسوبية ، وتفكك البنُى الاجتماعية ، وعزلة المجتمع المدني. هذه ليست نقاط فشل فردية، بل هي أنظمة شاملة تعمل على مدى عقود، مما يجعل من الصعب تحديدها وسردها في قصة بسيطة.
على عكس السبب القريب الذي يحدد “شريراً” واحداً، فإن السبب البنيوي يورط نظاماً بأكمله، وبالتالي، كل من يشارك فيه بدرجة أو بأخرى. إنه يوزع المسؤولية بدلاً من تركيزها، وهو ما قد يكون أكثر دقة من الناحية التحليلية، ولكنه غير مُرضٍ نفسياً وسياسياً. إذا كان “النظام” هو المشكلة، فلا يوجد شخص واحد يمكن معاقبته لتحقيق شعور بالعدالة أو الخلاص.
إن هذا التفضيل للسبب القريب ليس مجرد اختيار تحليلي، بل هو في جوهره اختيار “أخلاقي” مبسط. بالاستلهام من النقاشات في الفلسفة القانونية، يمكن القول إن تحديد “السبب القريب” غالباً ما يكون “سؤالاً معيارياً مقنعاً حول المسؤولية” أكثر من كونه وصفاً محايداً للواقع.14 عندما يحدد المحلل “الخيانة” كسبب للهزيمة، فهو لا يقوم بعملية تشخيصية بقدر ما يصدر حكماً أخلاقياً على شخصية الخائن. هذا الإجراء، أي الإدانة الأخلاقية، له صدى عاطفي قوي ويخلق فئات واضحة: “نحن” المخلصون و”هم” الخونة، “نحن” الأخيار و “هم” الأشرار. هذا الإطار الأخلاقي يتجاوز تماماً الأسئلة التحليلية الباردة والمجردة من العاطفة التي يطرحها سؤال “لماذا”: لماذا كان النظام هشاً؟ ما هي الحوافز الاقتصادية التي أدت إلى هذا السلوك؟ ما هي درجة التحلل المؤسسي التي سمحت بحدوث ذلك؟ وهكذا، يتحول المحلل من طبيب يشخص المرض إلى قاضٍ يصدر الأحكام، وهو دور أسهل وأكثر شعبية، ولكنه عقيم تماماً من حيث القدرة على فهم الواقع وتغييره.
لماذا نُفضّل “الكيف” على “اللماذا”؟
إن تفضيل “الكيف” على “اللماذا” ليس مجرد نزعة عابرة، بل هو نتاج جذور عميقة ومتشابكة: تعليمية، وسياسية، وإعلامية. هذه الجذور لا تعمل بشكل منفصل، بل تشكل حلقة مفرغة قوية تعزز بعضها بعضاً، وتؤدي إلى ترسيخ هذا النمط من التفكير السطحي.
الجذر التعليمي: مصنع للذاكرة لا للعقل
تُوضع أسس هذه الأزمة الفكرية في الفصول الدراسية. فالأنظمة التعليمية في معظم أنحاء العالم العربي تعطي الأولوية القصوى للتلقين والحفظ عن ظهر قلب على حساب التفكير النقدي والمشاركة الفعالة. الهدف هو إنتاج طالب قادر على استرجاع المعلومة، لا طالب قادر على مساءلتها. ويظهر هذا بشكل صارخ في تدريس مادة التاريخ، التي من المفترض أن تكون ميداناً للتحليل البنيوي. فبدلاً من تدريسها كعملية تحليل للقوى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي شكلت الأحداث، يتم تقديمها كسلسلة من التواريخ والأسماء والمعارك التي يجب حفظها. النتيجة النهائية هي تخريج أجيال من المتعلمين الذين يتقنون ترديد “السرديات” الرسمية، لكنهم يفتقرون إلى الأدوات المفاهيمية والعادات الفكرية اللازمة للتحليل النقدي والبنيوي. يصبح “المثقف” في هذا السياق مستودعاً للمعلومات، وليس محركاً للتساؤل.
تتمتد هذه المنهجية التعليمية إلى عالم العلوم الإنسانية والاجتماعية في مرحلة التعليم الجامعي، حيث لا تتحول الجامعة بالضرورة إلى فضاء للتساؤل الحر، بل إلى مرحلة متقدمة من نفس النموذج التلقيني. ففي أقسام العلوم السياسية والاجتماع والتاريخ، غالباً ما يتم التركيز على استيعاب وحفظ النظريات الكبرى – سواء كانت غربية المنشأ أو محلية – كنصوص شبه مقدسة وليس كأدوات تحليلية قابلة للتطبيق والنقد. يصبح الهدف هو قدرة الطالب على “شرح” ما قاله منظر ما عن السلطة، وليس استخدام أدوات هذا المنظر لتشريح آليات السلطة في مجتمعه. يتحول الأستاذ الجامعي إلى “محاضر” مهمته نقل المعرفة المكتملة، والطالب إلى “متلقٍ” مهمته استرجاعها في ورقة الامتحان. هذا النظام ينتج خريجين ومثقفين يجيدون “الاستشهاد” بالنظريات، لكنهم يفتقرون إلى القدرة على “الاشتباك” مع الواقع وإنتاج تحليل بنيوي أصيل لمشكلاته. وهكذا، بدلاً من أن تكون الجامعة مصنعاً للعقول النقدية القادرة على طرح سؤال “لماذا”، فإنها في كثير من الأحيان تكرّس إنتاج “الذاكرة العالمة” التي تكتفي بسرد إجابات “الكيف” التي قدمها آخرون.
الجذر السياسي: سقف الحرية كحد للمعرفة
إن الاختيار بين “الكيف” و”اللماذا” ليس اختياراً فكرياً حراً، بل هو مقيد بشدة بالبيئة السياسية. تحليل “كيف” وقع حدث ما عبر إلقاء اللوم على خائن أو مؤامرة خارجية هو تحليل “آمن” سياسياً، لأنه لا يمس بنية السلطة القائمة. بل على العكس، قد يخدمها عبر توجيه الغضب الشعبي نحو أهداف خارجية. في المقابل، فإن طرح سؤال “لماذا” – لماذا كانت الدولة هشة؟ لماذا فشل الاقتصاد؟ لماذا المؤسسات فاسدة؟ – هو تحليل “خطر” بطبيعته. إنه يوجه النقد مباشرة إلى النظام الحاكم، ويشكك في شرعيته وكفاءته. ولذلك، تستهدف الأنظمة السلطوية بشكل منهجي الجامعات والمفكرين لإسكات هذا النوع من التفكير النقدي تحديداً، وسحق الحرية الأكاديمية.4 نتيجة لذلك، تنتشر ثقافة “الرقابة الذاتية”؛ حيث يتعلم المحللون والصحفيون والأكاديميون تجنب أسئلة “لماذا” ليس لأنهم لا يعرفون كيف يطرحونها، بل لأنهم يدركون تماماً التكلفة المهنية والشخصية الباهظة لطرحها. يصبح اللجوء إلى السببية السطحية استراتيجية للبقاء.
الجذر الإعلامي: طغيان الحدث على السياق
تتفاقم هذه المشكلة بفعل طبيعة وسائل الإعلام الحديثة. فدورة الأخبار مدفوعة بـ “الحدث” العاجل، والمثير، والمرئي. انفجار سيارة هو خبر، لكن عقوداً من تدهور البنية التحتية والتهميش الاجتماعي التي قد تكون أدت إليه ليست خبراً. بنية الإعلام نفسها تمنح الأولوية لـ “الكيف” على حساب “اللماذا”. في السياق العربي، يتم تسليح هذه النزعة. فوسائل الإعلام التي تسيطر عليها الدولة ليست مجرد ناقل سلبي للأخبار، بل هي أداة فاعلة في تشكيل الرأي العام.20 تعمل هذه الوسائل بشكل متعمد على تضخيم سرديات التهديدات الخارجية والمؤامرات الداخلية. وقد أظهرت الأبحاث التي أجريت على الإعلام في مصر وسوريا وجود علاقة مباشرة بين اندلاع الاحتجاجات وزيادة تركيز إعلام الدولة على مثل هذه التهديدات.6 التأثير المقصود والمتحقق هو “زيادة احتمالية أن يعطي الجمهور الأولوية للتهديدات الخارجية على المشاكل الداخلية، وتحسين ثقة الجمهور في الحكومة”.6 يخلق الإعلام بيئة فكرية يتم فيها تقديم الأسباب السطحية والخارجية على أنها المحرك الرئيسي للأحداث، مما يحصّن النظام ضد المساءلة عن إخفاقاته البنيوية.
هذه الجذور الثلاثة تشكل معاً حلقة مفرغة مدمرة. فالتعليم ينتج مواطنين غير مؤهلين للتفكير النقدي ومتقبلين للسرديات البسيطة. وهؤلاء المواطنون يصبحون فريسة سهلة لإعلام الدولة الذي يغذيهم بنظام غذائي فكري قائم على المؤامرات والأسباب السطحية لصرف انتباههم عن إخفاقات النظام. والنظام السياسي يقمع بقوة القلة التي تحاول كسر هذا النمط عبر طرح أسئلة “لماذا” الخطرة. وهذا النقص في التحليل العميق يؤدي إلى فشل السياسات، مما يخلق المزيد من الأزمات التي يحتاج النظام بدوره إلى تبريرها عبر المزيد من التلاعب الإعلامي والقمع السياسي، وهكذا دواليك. كل عنصر في هذه الحلقة يعزز العناصر الأخرى، مما يخلق آلية مغلقة تؤدي إلى جمود فكري وسياسي متزايد.
ماذا نخسر حين نكتفي بـ “كيف”؟
إن الاكتفاء بسؤال “كيف” وتجاهل سؤال “لماذا” ليس مجرد قصور فكري، بل له عواقب وخيمة وملموسة على قدرة المجتمعات على التطور والبقاء. إنه يؤدي إلى حلقة من الفشل المزمن، وتكرار الأزمات، وشلل التفكير الاستراتيجي.
النتيجة المباشرة والأكثر خطورة لهذا الفشل الفكري هي فشل السياسات العامة. فالتشخيص الخاطئ للمشكلة يؤدي حتماً إلى وصفة علاج خاطئة. إذا تم تشخيص مشكلة الهزيمة العسكرية على أنها “خيانة الجنرال س” أو تمرد الجماعة الفلانية (تفسير “الكيف”)، فإن الحل المقترح سيكون “إعدام الجنرال س” ، أو “دحر وإبادة الجماعة” . ولكن إذا كانت المشكلة الحقيقية هي “نظام ترقيات مُسيَّس وفاسد ينتج ضباطاً غير أكفاء وغير موالين” (تفسير “اللماذا”)، فإن إعدام جنرال واحد لا يفعل شيئاً لمنع ظهور جنرال آخر مثله ، وبالمثل فإن إنهاء تمرد جماعة معينة، سيفتح الباب لتمرد جماعات أخرى. وهكذا يبقى النظام معطوباً. هذا يفسر الظاهرة الملحوظة في العالم العربي، حيث تطلق الحكومات باستمرار “إصلاحات سطحية” في قطاعات حيوية مثل التعليم ومكافحة الفساد، وهي إصلاحات لا تحقق أي تأثير يذكر لأنها ترفض بعناد معالجة الجذور البنيوية والسياسية العميقة للمشكلات.13
عندما لا يتم تحديد الأسباب الجذرية للفشل بشكل صحيح، فإن المجتمعات والدول تكون محكوماً عليها بتكرار هذا الفشل. من خلال التركيز على تفاصيل “كيف” الفريدة لكل أزمة (المتآمرون الجدد، تفاصيل الخيانة هذه المرة)، يتم حجب نمط “لماذا” المتكرر (نفس الهشاشة المؤسسية، نفس نقاط الضعف الاقتصادية). كل أزمة جديدة تُعامل على أنها دراما منفصلة بأبطال جدد، في حين أنها في الواقع مجرد عرض آخر لنفس المأساة البنيوية. نصبح خبراء في مسرحيات انهياراتنا، لكننا نبقى جهلة بهندسة هشاشتنا.
العقل المهووس بسؤال “كيف” هو عقل استرجاعي بطبيعته؛ إنه دائم الانشغال بتحليل “ماذا حدث للتو”. أما العقل المدرب على طرح سؤال “لماذا”، فهو قادر على التفكير الاستشرافي. فمن خلال فهم البنى والاتجاهات الكامنة، يمكنه توقع “ما الذي من المحتمل أن يحدث بعد ذلك”. إن الفشل في إجراء تحليل بنيوي عميق يجعل التخطيط الاستراتيجي مهمة مستحيلة. وهكذا يؤدي التركيز على الأزمات الفورية (مثل الإرهاب أو نزاع سياسي معين) إلى “جهود مختلة في إيجاد حلول حقيقية”، وذلك بسبب تجاهل المحركات الحقيقية طويلة الأمد لعدم الاستقرار، مثل الديموغرافيا والفساد وفشل الأنظمة الحاكمة.21 نبقى في حالة دائمة من “إدارة الأزمات”، ونفقد تماماً القدرة على “منع الأزمات”.
في عمقها، العلاقة بين النخب الحاكمة التي تروج لسرديات “الكيف” والجماهير التي تستهلكها هي شكل من أشكال التكافل النفسي القائم على شعور متبادل، وإن كان غير متكافئ، بانعدام القدرة. يشعر الجمهور بالعجز أمام المشاكل البنيوية المعقدة والساحقة (انهيار الأمن والخدمات، انعدام المساواة، الفساد). تحليل “لماذا” يؤكد هذا العجز من خلال الكشف عن حجم التدهور المنهجي، دون تقديم حلول سهلة، وهو أمر مؤلم نفسياً. أما سردية “الكيف” (على سبيل المثال، “عملاء أجانب يسببون التضخم” ،أو “فاسدون أخلاقياً لا يراعون الشعب”)، فتقدم نوعاً غريباً من التمكين الوهمي. إنها تحدد عدواً معيناً يمكن هزيمته، وتوحي بأنه إذا تم إيقاف هذا الفاعل الخارجي، فسيتم حل المشكلة. إنها توفر هدفاً للغضب ومساراً بسيطاً، وإن كان خيالياً، للحل. في المقابل، فإن النخبة الحاكمة، رغم قوتها السياسية، غالباً ما تكون عاجزة فكرياً وعملياً، وتفتقر إلى القدرة أو الإرادة لتنفيذ إصلاحات بنيوية عميقة. من خلال الترويج لسردية “الكيف”، تسقط النخبة صورة من السيطرة والفعل (“نحن نحارب المتمردين!”). إنه أداء للحكم يخفي عجزاً حقيقياً عن الحكم بفعالية. وهكذا، يتواطأ الطرفان في وهم مشترك: يتلقى الجمهور سردية تجعل عجزه يبدو مؤقتاً وموجهاً، بينما تستخدم النخبة نفس السردية لإخفاء إفلاسها الاستراتيجي.
إن التمييز بين “كيف” و”لماذا” ليس ترفاً أكاديمياً أو تمريناً فلسفياً. إنه الخط الفاصل الجوهري بين المجتمعات التي تتعلم وتتكيف وتنمو، وتلك التي تصاب بالجمود وتتعرض للانهيارات المتكررة. إنه الفرق بين التشريح الذي يؤدي إلى المعرفة، والتشييع الذي يكرس الجهل.
إن الطريق إلى الأمام لا يكمن في إيجاد فاعلين جدد نلومهم على “كيف” تسوء الأمور. بل يكمن في تغيير “نوعية” الأسئلة التي نطرحها كمجتمع، في تحويل طاقتنا الفكرية الجماعية من سرد كوارثنا إلى تشخيص مواطن ضعفنا.
يبقى السؤال المفتوح، الذي يجب أن يتردد في ضمير كل مفكر ، هو ذلك السؤال الذي انطلقنا منه: إلى متى سنظل نتقن رواية “كيف” سقطنا، بدلاً من أن نتجرأ على طرح سؤال “لماذا” كنا أصلاً مهيئين للسقوط؟
المصادر:
- Proximate and ultimate causation – Wikipedia, accessed October 22, 2025, https://en.wikipedia.org/wiki/Proximate_and_ultimate_causation
- .Arab Political Economy: Pathways for Equitable Growth | Carnegie …, accessed October 22, 2025, https://carnegieendowment.org/research/2018/10/arab-political-economy-pathways-for-equitable-growth?lang=en
- The Robustness of Authoritarianism in the Middle East – Brandeis University, accessed October 22, 2025, https://www.brandeis.edu/politics/people/faculty/pdfs/bellin-robustness-authoritarianism-middle-east.pdf
- Academic Freedom Under Attack: Authoritarian Regimes and the …, accessed October 22, 2025, https://www.wilsoncenter.org/event/academic-freedom-under-attack-authoritarian-regimes-and-battle-knowledge
- Media manipulation at home and abroad : evidence from the Arab …, accessed October 22, 2025, https://purl.stanford.edu/cg208fm9826
- History essay question – what is the difference between an analysis or narrative approach? : r/AskAcademia – Reddit, accessed October 22, 2025, https://www.reddit.com/r/AskAcademia/comments/4e3kke/history_essay_question_what_is_the_difference/
- what the difference is between a narrative and a discourse? – ResearchGate, accessed October 22, 2025, https://www.researchgate.net/post/what_the_difference_is_between_a_narrative_and_a_discourse
- NARRATIVE ANALYSIS, accessed October 22, 2025, https://staff.bath.ac.uk/psscg/QM-Nar-lec.htm
- quillbot.com, accessed October 22, 2025, https://quillbot.com/blog/frequently-asked-questions/whats-the-difference-between-explanatory-and-descriptive-research/#:~:text=The%20aim%20of%20explanatory%20research,something%20as%20is%2C%20without%20intervention.
- Introduction, accessed October 22, 2025, https://us.sagepub.com/sites/default/files/upm-binaries/44129_1.pdf
- Conspiracy theories and right-wing extremism – Insights and recommendations for P/CVE – Migration and Home Affairs, accessed October 22, 2025, https://home-affairs.ec.europa.eu/system/files/2021-04/ran_conspiracy_theories_and_right-wing_2021_en.pdf
- Poverty, inequality and the structural threat to the Arab region | The …, accessed October 22, 2025, https://www.belfercenter.org/publication/poverty-inequality-and-structural-threat-arab-region
- Proximate Cause Explained: An Essay in Experimental Jurisprudence – The University of Chicago Law Review, accessed October 22, 2025, https://lawreview.uchicago.edu/sites/default/files/KnobeShapiro_ExperimentalJurisprudence_88UCLR165.pdf
- Proximate Cause Explained: An Essay in Experimental Jurisprudence, accessed October 22, 2025, https://lawreview.uchicago.edu/print-archive/proximate-cause-explained-essay-experimental-jurisprudence
- Arab world’s education systems need radical reform | Arab News, accessed October 22, 2025, https://www.arabnews.com/node/1303176/%7B%7B
- HOTS in Arabic Learning: A Study of The Implementation of HOTS on Students’ Critical Thinking Ability – ResearchGate, accessed October 22, 2025, https://www.researchgate.net/publication/365029514_HOTS_in_Arabic_Learning_A_Study_of_The_Implementation_of_HOTS_on_Students’_Critical_Thinking_Ability
- Promoting Critical Thinking Practices in International Schools: A Comparative Look at the Arab Gulf, USA, and Africa – The Canadian Council on Progressive Education, accessed October 22, 2025, https://theccope.org/promoting-critical-thinking-practices-in-international-schools-a-comparative-look-at-the-arab-gulf-usa-and-africa/
- Shaping Narratives – Media and Conflict in the Arab World – ECREA, accessed October 22, 2025, https://ecrea.eu/page-18206/13435467
- The Role of Media in Shaping Social Protection Narratives in the Arab Region, accessed October 22, 2025, https://www.arab-reform.net/publication/the-role-of-media-in-shaping-social-protection-narratives-in-the-arab-region/
- The Greater Middle East: From the “Arab Spring” to the “Axis of …, accessed October 22, 2025, https://www.csis.org/analysis/greater-middle-east-arab-spring-axis-failed-states
- Yemen’s Tragedy: War, Stalemate, and Suffering | Council on Foreign Relations, accessed October 22, 2025, https://www.cfr.org/backgrounder/yemen-crisis
- Yemen: National Chaos, Local Order | 2. Yemen’s Civil War: A Structural Analysis – Chatham House, accessed October 22, 2025, https://www.chathamhouse.org/2017/12/yemen-national-chaos-local-order-0/2-yemens-civil-war-structural-analysis
- The Houthi War Machine: From Guerrilla War to State Capture – Combating Terrorism Center at West Point, accessed October 22, 2025, https://ctc.westpoint.edu/houthi-war-machine-guerrilla-war-state-capture/
- The Houthis: From the Sa’ada Wars to the Saudi-led Intervention, accessed October 22, 2025, https://sanaacenter.org/publications/analysis/10205
- The Houthi Takeover of Yemen Is 10 Years Old. It Must Not Reach 20, accessed October 22, 2025, https://www.washingtoninstitute.org/policy-analysis/houthi-takeover-yemen-10-years-old-it-must-not-reach-20
- The Houthi Takeover in Yemen: How Did We Get Here? – IPI Global Observatory, accessed October 22, 2025, https://theglobalobservatory.org/2015/01/houthi-takeover-yemen-unrest/
- From the Army’s Fragmentation and Restructuring to Acquiring Hypersonic Capabilities… Manufacturing Change – YemenExtra, accessed October 22, 2025, https://www.yemenextra.net/2025/05/28/from-the-armys-fragmentation-and-restructuring-to-acquiring-hypersonic-capabilities-manufacturing-change/
- Yemen’s Houthi Takeover | International Crisis Group, accessed October 22, 2025, https://www.crisisgroup.org/middle-east-north-africa/yemen/yemens-houthi-takeover
- Yemen and the Dynamics of Foreign Intervention in Failed States | Inquiry Journal – University of New Hampshire, accessed October 22, 2025, https://www.unh.edu/inquiryjournal/blog/2022/04/yemen-dynamics-foreign-intervention-failed-states

نريد هذا المقال pdf
جزاك الله خيرًا ورفع الله قدرك، قبل يومين كنت في طريق العودة من الجامعة فعبث في ذاكرتي صور شهداء قيصر والمساجين السياسين في سوريا قبل التحرير وكنت طول الطريق محتقنة وتعجبت فقد خطر على بالي لأول نرّة السؤال لماذا استطاع السجانين_ بالنهاية هم بشر_ التحول من الإنسانيّة إلى الوحشية بهذه الطريقة وكيف استطاعوا الضرب والتعذيب حتى بأجسادهم وكنت مستغربة بالضبط كما ذكر في المقالة فلم يتناول أحد السؤال لماذا ؟ وإنما كان حتى لحظة قراءتي للقالة تسرد أحداث سجون النظام البائد بكيف وانتابني طوال الطريق الخوف الشديد من إعادة صنع نظامنا الحالي لنفس الشخصيات والنفسيات التي صنعها النظام البائد ولنفسد العصى ولكن بإيد أخرى فلا حول ولا قوة إلا بالله .
تعقيبًا على الكاتب ضياء خالد
في نقد الاختزال السردي للكيف والدعوة إلى المنهج المركّب
في المقال الموسوم بـ “أزمة الكيف واللماذا: كيف يغتال الوصف التفسير في العقل التحليلي العربي؟”، طرح الكاتب سؤالًا مهمًا: لماذا تتوقف تحليلاتنا السياسية والاجتماعية عند وصف ما حدث بدل تحليل ما جعل حدوثه ممكنًا؟ سؤال مشروع، لكن الإشكال لا يكمن في كثرة الوصف بل في سوء فهم طبيعة “الكيف” ووظيفته التحليلية.
الكاتب افترض أن -الكيف- بطبيعته سرديٌّ سطحيٌّ وأن -اللماذا- هو مفتاح العمق البنيوي، غير أن علم الاجتماع السياسي لا يقر بهذه الثنائية القاطعة. فـالكيف ليس حكايةً تُروى بل آلية تُفكّك، و-اللماذا- ليس تعويذةً فلسفية للغوص في الأعماق بل استنتاج سببيٌّ يُبنى على فهمٍ تشغيليٍّ للبنية. في العلوم الاجتماعية الحديثة -الكيف- ليس مرحلة الوصف بل أداة تشريحٍ وظيفيٍّ للواقع. عندما سأل ماكس فيبر “كيف تعمل البيروقراطية؟” لم يكن يروي قصة إدارة، بل كان يفكك العقلانية المؤسسية التي جعلت الدولة الحديثة ممكنة. وعندما حلل تشارلز تيلي كيف تصنع الحرب الدولة وتبنيها؟ لم يبحث عن “لماذا” الغائية بل عن الآليات المادية والرمزية التي تنتج السلطة.
التحليل الكيفي، بهذا المعنى، هو تحليلٌ تشغيليٌّ–ميكانيزمي، لا يقف عند الوصف بل يتجاوزه إلى تفكيك آليّات الواقع:
كيف تتوزع الولاءات؟
كيف تنتج الأنظمة هشاشتها؟
كيف يُعاد إنتاج الفساد؟
هي أسئلة في قلب علم الاجتماع السياسي، وليست نقيضًا للعمق أو التحليل البنيوي.
في المقابل، -اللماذا- هي أداة التفسير السببي التي تُجيب عن: لماذا تتولد هذه النتائج من تلك البُنى؟
لكن المشكلة تظهر حين تُستعمل -اللماذا- كبديلٍ عن التحليل نفسه، أي حين تتحول من سؤالٍ معرفي إلى شعارٍ نقدي يوحي بالعمق أكثر مما ينتجه.
فلا يكفي أن نقول “لماذا سقطت الدولة؟” ما لم نعرف كيف كانت تعمل.
التحليل الذي يبدأ بـلماذا دون كيف يقفز فوق الوقائع إلى التجريد،
والذي يكتفي بـكيف الوصفية دون التشريحية التي تصله بلماذا يغرق في التفاصيل دون أن يبني تفسيرًا.
والمنهج الجدّي هو الذي يربط السؤالين في نسق معرفي واحد:
من التشغيل إلى العلّة ومن البنية إلى النتيجة.
إن العقل التحليلي العربي لن ينهض بإستبدال لماذا بكيف،
بل بتجاوز الثنائية نحو منهجٍ تركيبيٍّ يربط بينهما.
فـ“الكيـف” هنا يُستخدم لتفكيك البُنى وآليات اشتغالها،
و“اللماذا” تُستخدم لتفسير النتائج التي تنتجها هذه الآليات.
المنهج المركّب يبدأ بـالملاحظة والتحليل التشغيلي (كيف تعمل المنظومة؟)
وينتهي بـالاستنباط السببي (لماذا أنتجت هذه النتائج؟)
هو منهجٌ يزاوج بين الميكانيزم والسياق، وبين الحقل البنيوي والعوامل التاريخية بدل أن يضعه في فخ المفاضلة بين سؤالين متكاملين أصلًا.
في مثال سقوط صنعاء عام 2014.
يمكن تفسيره بسردية “الخيانة” (الكيـف السطحي)،
أو بالهشاشة البنيوية للدولة اليمنية (اللماذا البنيوية).
لكن التحليل الأعمق لا يقف عند أحدهما، بل يركّز على:
• من يتخذ القرار؟
• كيف تُوزَّع الصلاحيات؟
• كيف تنتقل الموارد؟
• أين يحدث الخلل في التدفق؟
فعوض أن نذهب رأسًا فنسأل “لماذا فشلت الدولة اليمنية؟” نقوم بتحليل الوظيفة التشغيلية للنظام.
فنسأل: “كيف تتخذ القرارات داخل أجهزة الدولة؟ كيف تُدار الموارد؟ كيف تُعامل الأخطاء؟”
كيف تُنتج البنية الزبائنية الولاءات داخل الجيش؟
هل نلوم الفاعلين هنا أم ندين البُنى أم نقرأ منطق التفاعل بينهما؟
فكل ضابطٍ موالٍ لشخص لا لمؤسسة هو نتيجة لكيفية اشتغال الدولة الزبائنية وليس فقط شاهدًا على لماذا سقطت.
إن أزمة الفكر العربي ليست في غياب “اللماذا”،
بل في غياب المنهج الذي يصل بين السؤالين دون أن يحوّلهما إلى خصمين.
فـ“الكيـف” لا يغتال التفسير و“اللماذا” لا تصنع العمق وحدها.
إذا حصل هذا الوصل فسيكون اختزال الفشل في عجز النظام الجمهوري ليس تحليلًا بل تبريرًا جديدًا بلباس علمي.
فالنظام لا يسقط لأنه غير مناسب للمجتمع، بل لأنه أُدير بمنطقٍ عطّل مؤسساته وأفسد توازناته.
ما يجب أن ندرسه ليس “لماذا وُلدت الجمهورية هشة” بل “كيف صارت كذلك؟” فالفكرة لا تُدان بل تُختبر في آلياتها.
هناك فقط يبدأ علم الاجتماع السياسي الحقيقي:
من تفكيك تشغيل الدولة لا من نعيها وتشييعها!