أدب

تشريحٌ روحيٌّ في مرآة نائبٍ في الأرياف

إنها الرواية الأولى التي أقرؤها للحكيم.. اشتريتها صدفة من معرض الكتاب حين لم أجد الكتاب الذي قصدت إليه (سجن العمر).. فتحقق فيها المثل “ربّ صدفة خير من ألف ميعاد”.
رواية قوامها “التشريح” الدقيق المفصل. ذكّرتني مادة التشريح التي درستها خلال السنة الأولى في كلية الطب البشري، حين قمنا بتشريح جثة إنسان! نعم.. “بعد أن خرجنا بالأمس من بين الكتب؛ تلك الكتب التي أرَتنا وأفهمتنا أن الإنسان شيء عظيم، أنه هو محور الكون، وأنه المصطفى الملحوظ دون بقية المخلوقات بعناية الخالق الأعظم، وأنه الكائن النوراني الروحاني الذي سوف يُبعث؛ هذا الإنسان لم يتح لكثير من الناس أن يطلعوا على تركيبه من الداخل؛ فإذا ما اطلع أحدنا على ذلك سرَت في نفسه صدمة يختلف تفسيرها باختلاف مزاج الشخص وطبيعته وثقافته..” ذلك أننا -بكل أسف- لا نطّلع على داخله إلا بعد موته؛ لا لنعرفه.. بل لننسى أنه كان يومًا وجودًا قبل انطفاء شعلة حياته وتوقف نبضات قلبه.. فليس أقل من الإسراع بدفنه، لنحفظ عليه كرامة ذكراه حين كان دمًا يغلي.. وأفكارا تسري.. ومشاعر تتوقد.. وروحًا تؤثر.
“لا ينبغي أن نرى أنفسنا من الداخل”.

روحيٌّ في مرآة نائبٍ في الأرياف سجن العمر توفيق الحكيم 2 تشريحٌ روحيٌّ في مرآة نائبٍ في الأرياف

افتتحها بكلمات معجِبة:
 “لماذا أدوّن حياتي في يوميات؟ ألأنها حياة هنيئة؟ كلا! إن صاحب الحياة الهنيئة لا يدونها، إنما يحياها. إني أعيش مع الجريمة في أصفاد واحدة. إنها رفيقي وزوجي أطالع وجهها في كل يوم، ولا أستطيع أن أحادثها على انفراد. هنا في هذه اليوميات أملك الكلام عنها، وعن نفسي، وعن الكائنات جميعًا. أيتها الصفحات التي لن تنشر! ما أنت إلا نافذة مفتوحة أطلق منها حريتي في ساعات الضيق!”..
“يخيل إليّ أن مِن الناس مَن يلقي الكلمة يدفع بها عن نفسه فإذا فيها الاتهام الصارخ. ولعل كلًّا منهم يحمل في طيات كلامه دليل إجرامه، كما يحمل المريض في دمه جراثيم دائه!!”.
الجهل!
هناك في الأرياف، أريافنا، حيث توزن القضايا في ميزان “دقيق” يراعي الفروق بين المخالفات والجنح وقضايا القتل! إذ لا بد من مراعاة الوزن في عدد صفحات كل قضية “والقضايا مقامات”..
هناك في بلادنا.. حيث يشقى الناس كلهم بالتعبير.. عالِمهم وجاهلهم.. سواءً بسواء؛ مَن حُرم القدرة على التعبير ابتداءً لجهله بحقيقة الشعور الرابض في أعماق نفسه، ومَن وُهب التعبير وامتلك نواصيه ولم يتمكن من إطلاقه.. وإن الأخير -لعمري- هو أشقى الناس!
هناك في بلادنا.. حيث “العدل” و”الشعب” وو… كلمات لم يزل معناها غامضًا عن العقول. كلمات كل مهمتها أن تُكتب على الورق وتلقى في الخطب كغيرها من الألفاظ والصفات المعنوية التي لا يحس لها وجود حقيقي..”.
في سرد هادئ مسترسل يلتذّ به خاطر قارئه، ويجعله يضحك في نفسه بقدر ما يتألم.. وربما يكتب.. “إن القلم لنعمة لأمثالنا ممن كُتبت عليهم الوحدة، ولكن القلم كالجواد ينطلق أحيانًا من تلقاء نفسه كالطائر المرح، وأحيانًا يحرن ويثب على قدميه ويأبى أن يتقدم كأن في طريقه أفعى رافعة الرأس”.
القانون! وما أدراك ما القانون!
 لو عمدنا إلى تشريح بنود القانون في بلادنا الحبيبة للخلوص إلى فلسفته لوجدنا عجبًا!
هل ينبغي للقانون -حتى يكون قانونًا بحق- أن يتناقض مع الجمال والمنطق والرحمة؟!
“هل يُجرم الجمال! أم نحن المجرمون إذ نظن السوء بالجمال؟ إن من العسير على نفسي أن أتصور الجمال غير مقترن بالفضيلة. الجمال الحق والفضيلة الحقة شيء واحد”.
التعقيد!
هناك في قُرانا الوادعة الجميلة.. حيث يتصارع تعقيد القوانين مع سذاجة الناس وبساطتهم وخصوصية علاقاتهم وتقاليدهم وأعرافهم وجهلهم بالمصطلحات؛ “إن هذه الجرائم التي اخترعها القانون اختراعًا ليحمي بها مال الحكومة أو مال الدائنين ليست في نظر الفلاح جرائم طبيعية يحسها بغريزته الساذجة. إنه يعرف أن الضرب جريمة والقتل جريمة والسرقة جريمة. لأن في ذلك اعتداءً ظاهرًا على الغير،  وأن الرذيلة الخُلقية فيها بديهية جلية، ولكن التبديد… كيف يفهم أركانه وحدوده؟ إنما هو جريمة قانونية يظل يتحمل وزرها دون أن يؤمن بوجودها”.
تلك التعمية -بقصد أو بغير قصد- تجعل نصوص القانون أسلحة في يد المتنفذ يضرب بها على من يريد ضربه في الوقت الذي يختاره..
الوقت!
“وليس أشق على النفس ولا أدعى إلى إضاعة الوقت من انتظار النتيجة، إذا كانت الفريسة حاضرة تحاورنا وتداورنا ولا تقع حتى تقع معها نفوسنا”.
هل كنتَ تعرف “أن المستشارين ينطقون بادئ بدء بالحكم. ثم ينصرفون بعد ذلك إلى كتابة الأسباب. والمنطق الذي يتصوره هو أن يكون الأمر على العكس”؟
القداسة!
“وماذا يبقى من تلك الأشياء العظيمة المقدسة التي لها في حياتنا البشرية كل الخطر لو نزعنا عنها ذلك “الرمز” أيبقى منها أمام أبصارنا اللاهية غير المكترثة غير جسم مادي حجر أو عظم لا يساوي شيئًا ولا يعني شيئًا. ما مصير البشرية وما قيمتها لو ذهب عنها “الرمز”… “الرمز” هو في ذاته كائن لا وجود له. هو لا شيء. وهو مع ذلك كل شيء في حياتنا الآدمية. هذا “اللاشيء” الذي نشيد عليه حياتنا هو كل ما نملك من سمو نختال به ونمتاز على غيرنا من المخلوقات. هنا كل الفرق بين الحيوانات العليا والحيوانات الدنيا.” يشبه تشريح “فلسفة القانون” تشريح “جثة قتيل” بحثًا عن دليل إدانة يشير إلى قاتله..
“وهذه المصيبة ككل مصيبة لها وجهها الآخر الباسم يطل على ناحية أخرى”.
السُّلطة!
يقول ابن خلدون: “الناس على دين ملوكهم”. ويقول الحكيم: ” العمدة “كالجرادة” يتخذ شكل الأرض التي يولد فيها. فالأرض الخضراء تخرج الجراد الأخضر، والأرض القحلاء تخرج الجراد الأغبر.”
وهو “جرادة” في الحالتين!
وما دام الأمر كذلك “فإن كأس الإذلال تنتقل من يد الرئيس إلى المرءوس في هذا البلد حتى تصل في نهاية الأمر إلى جوف الشعب المسكين وقد تجرعها دفعة واحدة”.
الشر!
وبعد كل تلك التشريحات يبقى “الشر هو الشر دائمًا. في الشرق والغرب.. في بلاد الحضارة أو بلاد الفطرة. بين ما يشغل بالَ الرجل المتحضر وما يشغل بالَ الرجل المتأخر!  ولكن الشر الناتج عن سبب كبير لأجدر بالتقدير من شر نشأ عن سبب تافه حقير! إن الحضارة العظيمة لا تزيل الشر ولا تمحو الجريمة، ولكنها توجد الشر العظيم والجريمة العظيمة!”.
أختم بشكر أستاذي الذي شجعني على قراءة هذه الرواية، وأخبرني أنها من الأعمال الرائدة عند توفيق الحكيم. وأنها لاقت قبولًا واسعًا بين جماهير القراء وترجمت للغات عدة.. وهي تصنف من الروايات الناقصة (غير المكتملة). وأفكر الآن في كلامه عنها بوصفها تجربة مبتورة (كاللوحات الناقصة)! وكيف يستقيم كتابة نهاية لتلك اليوميات!!
بل إنّ الطبيعي أن تنتهي دون أن تنتهي.. ولو لم يخبرني بذلك لما انتبهت له.. ربما تغيرت تفاصيل كثيرة في ظاهر حياتنا هذه الأيام، لكن جذور المشكلات هي هي لم تتغير حتى هذه الساعة (إلا ما رحم ربي).
الآن، عظُم تقديري للدعاء بحسن الخاتمة.. ونعمة الستر تحت الأرض بعد الستر فوقها، ويوم العرض.

‫2 تعليقات

  1. أبدعتي عزيزتي ذكاء في التشريح الأدبي و الغوص بين الجسد و الروح ، الرمزية في حياتنا حقيقة تستخدمها احيانا للإلهام او نتخذها ذريعه للانسياق
    شكرا على اعادة إبراز روايات هامة للكاتب العميق توفيق الحكيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى