علوم

بين رَحِمين الأمّ والأرض

ما أشدَّ ألم الظُّلْمة التي تُقدَح في أعين الأطفال عندما يُولدون بدلًا من النّور، فيُجبرون على أن يروا الحياة كما لا يجب أن يروها، وينظرون إليها من الأسفل، فيشغلهم ماؤها، وهواؤها، ويعتريهم بردُها، ويثقلهم ظمؤُها، ويضيق عليهم فضاؤها.
ما أشدّ ألمهم، وخوفهم عندما يسمعون بكاءهم وهم معلّقون من أقدامهم كخفاش نائمٍ في الهواء، فيعرفون حينها أنّها رحلة طويلة العناء، سريعة الانقضاء؛ فلا توجد خيارات أخرى في هذا العالم أبدًا فيما يتعلّق بالأمور كلّها، من صغيرها إلى كبيرها، ومن أكثرها بساطة إلى أشدّها تعقيدًا.
فإمّا أن تُقنَع العقول أو أن تُقفل، وكلّ الذين ينساقون وراء رغباتهم، أو جشعهم، أو خوفهم ـ وهي صفات أصيلة في الإنسان تُعبّر عنه، إلا إن قُمعت وشُذِّبت، عدا الخوف، يُكتسب ثمّ يتأصّل في النّفس ـ إنّما أُغلِقت عقولهم، فمَشَوا غير مدركين عظمة، وجوهر، وسعة ما يمكن أن يصنعه تفكيرهم، وأُقنِعوا بأنّ القشّة التي منحتهم إيّاها الأيديولوجيّات الجاهزة المقدّمة لهم، يمكن أن تُنجيهم من زمجرة بحر الحياة وقسوة أمواجه.
لذا، بدايةً: سلامٌ عليك يا وَلَدي، ثمّ دعنا، على عَجَلٍ ودون تأخُّر، أن نرسم على بطني خريطة العالم قبل أن تأتي إليه؛ فهي تُشبه الأرض في ميلها إلى الاستدارة، وفي تحتم عودتك إلى داخلها، كما أنتَ داخل بطني الآن، علّك تعرف نفسك أوّلًا، فتعرف أنّك خُلِقت بتسلسلٍ خَلقيٍّ يُثير الدهشة، ويبعث في النفس الرغبة اللامنتهية في كشف أسرار ما وراءه.
فبدأتَ من نصفين عضويَّين، فيهما مادة وراثية مصنوعة من الأحماض الأمينية، والقليل من البروتينات:
الأوّل منهما كان من صُلب أبيك، يَبلغ حجمه -على أكبر تقدير- ٦٠ ميكرومترًا، وهذا المقياس لا يُرى بالعين المجرّدة، بل يحتاج إلى مكبّرات لرؤيته.
والثاني كان منّي، والذي لا يتجاوز حجمه 100 ميكرومتر.
ثمّ إنّ من عجائب القَدَر الذي كتبه الله عليك أن اختار لك هذين النصفين دون غيرهما؛ فجعلهما يحكمان عليك صفاتك الجسديّة؛ كطولك، وشكلك، ولون بشرتك، وحتى الكثير من أمراضك.
ولو تعرف يا وَلدي المراحل التطوريّة التي مرّا بها ليكونا جاهزَين لابتدائك، لخار عقلك، ولعجز لسانك عن التعبير. ثمّ نفخ الله فيك من روحه، إكرامًا لك، وتعظيمًا لقدرك؛ لأنّك ستحمل الأمانة التي لم تحملها السماواتُ والأرض؛ والأمانة هي عمارة الأرض بالإيمان.
ثمّ ستتابع أحداث تكوينك -إن شاء الله لها ذلك- حتى تصبح أخيرًا طفلًا مكتملًا، فيُخرجك الأطباء من داخلي، ويُوسِّدونك على بطني؛ لتستريح بعد حصول أكبر معجزة على وجه الأرض.
حيث إنّ عضلات رحمي تنقبض كما لم تفعل ذلك من ذي قبل، وترتخي مفاصل حوضي وتتوسّع بفعل إشارات عصبيّة وهُرمونات تُفرَز في تلك الأثناء، وهكذا تأتي إلى الحياة، فيقطعون حبلك السّرِّي، وهذا جوهر تلك الندبة في سُرَّتِكَ التي ستبقى ملازِمَتَك طيلة عمرك.
لذا، أرجوك يا وَلدي، كلّما رأيتها، قُل: سبحان الله من أعماق روحك الطيبة، ثم تذكّر كيف كنتَ علقةً، فمضغةً مخلَّقةً وغير مخلَّقة، ثمّ ازددتَ في الخلق ما شاء الله لك ذلك؛ فانظر إلى خَلقك، وإلى بدايتك، وإلى مراحل قدومك، على أنّك معجزة تستحقّ التعظيم للخالق، الصانع، المُبدِع؛ فلا تلتفت إلى من يقول لك إنّك أتيت جرّاء الصدفة العمياء، وأنّ بداية خلقك كانت من تعفُّن ماء اللحم داخل الإناء، ثم تطوّرت عبر مئات السنين إلى أن أصبحتَ إنسانًا.
فقد كانت أُمّك مشاغبةً لدرجة أنّها وضعت في قِدرٍ ماءً ولحمًا، وانتظرت أيّامًا وليالي علّ بداية تشكُّل مخلوقٍ تظهر؛ فلم يظهر شيء، وبذلك صدّقت أُمّك على نظرية باستور القائلة:
“إنّ الحياة لا تنشأ إلا من حياةٍ سابقة.”
فأنت نشأتَ من حياتنا أنا وأبوك بأمر الله، ونحن نشأنا من حياة أهلينا بأمر الله، وأهلونا نشأوا من حياة أهليهم بأمر الله، وهكذا إلى أن يعود أصل الخلق إلى آدم عليه السلام،
ولقد خلق الله آدم عليه السلام من صلصالٍ من حمأٍ مسنون، أي من مادة الأرض التي ستطؤها قدماه، ثمّ نفخ الله فيه من روحه الحيّة، التي لا بداية لحياتها ولا نهاية لها.ولو رأيتَ عظمة انقسام خلاياك ثمّ اصطفافها أثناء تشكّلك، لذُهلتَ من إبداع الله؛ خليةٌ وراء خلية، ونسيجٌ يصحب نسيجًا،
ولا يتقدّم انقسام خليةٍ على انقسام خلية، ولا تتميّز خلية عن خلية إلا بإشارات عصبيّة، وهُرمونيّة، وجينيّة معيّنة في وقت معيّن؛
فكلّ هذه الأشياء تحصل لك دون تدخّلي أو إعطائي أوامر بذلك، على الرغم من كونها تحصل في جسدي، وداخل بطني.
فأنا لا أقول مثلًا: يجب على الخلايا المجاورة للمحور العصبي في هذا الوقت الهجرة لتشكيل -على سبيل المثال- خلايا شُوان لابني، ولا أقول لأمعائك الجميلة عن موعد دخولها من كيس المُحّ إلى بطنك.
وأزيدك من الشعر بيتًا: إنّني أيضًا لا أتدخّل في التحكُّم بشؤون ٩٩٪ من أفعال جسدي أو أكثر من ذلك؛ كضربات قلبي، وكمّية الهواء الداخل إلى رئتَيّ، ولستُ من يعطي الأوامر لجهازي الهضمي لهضم الطعام الذي أتناوله، فبمجرد أن يدخل الطعام البُلعومَ، يصبح الهضم لا إراديًا.
ولستُ من يدير شؤون خلايايَ وتفاعلاتها مع بعضها؛ فعندما أمشي، يكفي أن أبدأ بالمشي، وأترك الفعل لجسدي ليتكفّل بانقباض عضلات وارتخاء أخرى، من خلال آلاف العمليّات المعقّدة، كإرسال الإشارات بين فصوص الدّماغ أولًا، ثمّ إلى الأعصاب المسؤولة، ثمّ إلى العضلات المعنيّة.
وأمّك دائمة السؤال لجوابٍ تعرفه، إنّما لتقول: سبحان الله، عَظُم الله، وجَلَّ الله، وتبارك الله عن العيب والخطأ، من أعماق روحها في كلّ مرة.
فماذا لو وُكِل إلينا الاعتناء بخلايانا وأعضائنا، مثلما وُكِل إلينا مثلًا: الاعتناء بالعمل المؤسَّساتي، وإنشاء الدول والأمم؟
فهل كنّا زارعي الخراب في أجسادنا، مثلما نزرعه في أعمالنا التي نعملها؟
وإنّ توكيل شؤون أجسادنا الداخليّة إلينا أمرٌ لا تقدر عليه بنية تفكيرنا الحاليّة وقدراتنا، وإنّ ذلك سيُكْهِلُنا، ويُعْجِزُنا، ويوقعنا في الخطأ والإجرام في حقّ أنفسنا وخلايانا.
وأذكر لك مثلًا بسيطًا لتُصدّق كلامي، ستشاهده غدًا عندما تكبر وتقع فيه: أنّ أظافرنا تنمو باستمرار، ونحن مُوكَّلون بتقليمها، وإنّ تقليمها من بقايا الفطرة السليمة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام، لكن كثيرًا من الناس، حتّى أنا، أنسى تقليمها حالما تنبت بعض الأيام، وقد أتأخّر عنها في أخرى لانشغالي، ونسياني، وضعفي.
فماذا لو وُكِل إليّ، بنفس الطريقة، الاعتناء -مثلًا- بضربات قلبي، وتأخّرتُ عنها كما أفعل مع أظافري أحيانًا؟ أو حاولتُ اللعب بها، مثلما يلعب الشبان المراهقون بسرعة السيارات؟
فتارةً أجعلها ١٠٠ نبضة في الدقيقة، وتارةً ٢٠ نبضة، وأخرى أنسى إشغالها أساسًا، فهل هذا شيءٌ معقولٌ أو مقبولٌ في موازين الحياة؟
ودعني أُخبرك أن خلايانا وأعمالها اللاإرادية منتظمةٌ جدًا، فلا تتأخّر عن أعمالها أبدًا، بل تعمل باستمرار، وبدقّة، وحذرٍ شديدَين، بينما نُقصّر نحن في أعمالنا الإراديّة.
مثلًا: يقول لك أحدهم “كنتُ قد عزمتُ على قراءة القرآن بعد الفجر، فلم أزل بين مقبلٍ ومُدبر، وفاعلٍ ومُتأخر، حتى تركتُ القراءة أخيرًا”، ويدخل الكثير من الطلاب إلى الجامعة، فيلتزم القليل منهم بالدراسة، ويفشل الكثير؛ وهذا بالذات ما جعلني أنفر من التأخر والتأخير في الواجبات والحقوق.
وعندما أكون نائمة، وأهمّ بالتراخي والانسحاب من واجباتي، أتذكّر نشاط خلايا أمعائي، وأتذكّر كيف تعمل بنشاطٍ دؤوب بلا توقف، فأقفز عن السرير كمن أضاع نصف عمره؛ لأنني أستنكر وأستكثر أن تكون إرادة أمعائي أعظم من إرادتي.
وإن نظرتَ أنت أيضًا إلى حياتك بهذا اليقين والدهشة، سترى الأشياء بعينٍ مصبوغةٍ بالفطرة السليمة، من فوق؛ بغيةَ الرؤية الواضحة المستكشِفة، لا العُلوّ ولا التكبر.
ثمّ لتعرف ثانيًا، من خلال الخريطة، العالمَ الذي ستكون فيه. لذا تابعْ معي خطوط الرسم هذه، وانظر أوّلًا إلى بحر مرمرة، وإن لم تستطع النظر بعد، فاستعمل حواسك، واشعر بيدي وهي تنتقل على بطني. وكيف لي أن أذكر كلمة “البحر” دون أن أُخبرك عن حبّي العميق للبحار؟

رَحِمين الأمّ والأرض 2 1 بين رَحِمين الأمّ والأرض

وأظنّ أنّ لغات العالم كلّها لا تكفيني للتعبير؛ فالبحار عوالم واسعة، كبيرةٌ جدًا، متشعّبة، لا يعرف الناس عنها الكثير، على الرغم من كلّ المحاولات الحثيثة لاكتشافها ومعرفتها.
فهي تُغطّي ثلثي الكرة الأرضية، ومياهُها متّصلةٌ مع بعضها البعض؛ يعني الماء الذي في بحر مرمرة قد يصل -بفعل الأمواج– إلى المحيط الأطلسي.
ولو تحدّثنا عن الأمواج، لرأيتَ أُمّك معندةً على أنّ عالم ماء البحر، بشكل عام، يجب أن يحتوي على ثلاثة أسطح، فقد سمعتُ في القرآن أن الله يقول: “أو كظلماتٍ في بحرٍ لُجّيٍّ يغشاه موجٌ من فوقه موجٌ من فوقه سحاب”، فيجب أن يكون هناك طبقة راكدة، ثم تيّاران لحركة الأمواج، وهذا تخيّلي من فهمي للآية.
وإلى الآن لم أجد وقتًا كافيًا لأنعم بالحقيقة وبالاطّلاع عليها، لكنني سأفعل، أو ستفعل، أو سيفعل غيرنا؛ فالإحاطة الشمولية بالأشياء في وقت وتاريخ محدّدين تُعجز العقل البشري.
وكما زُيِّن للإنسان الرغبة في الزواج، وجمع الأموال، وامتلاك المتع كلّها، كذلك حُبّب إليه رفع الجهل الموصوف به. فمنذ القِدم، والإنسان يخوض في رحلة البحث عن الحقائق، وتفكيك المعضلات، وحلّ شفراتها المستعصية.
فلو أخذنا نظرةً إلى التطوّر في علم الطبّ –على سبيل المثال– لذهلنا من الكمّ الهائل من التراكمات المعلوماتيّة؛ حيث بُدِئ الأمر في العصر القديم بالخرافات، والشعوذات، والتمائم، وعندما عرف الإنسان أنّ ما يفعله محض وهم، شرع في رحلة البحث عن الصواب، حتى فكّ نهاية شفرته الوراثية كاملةً في عام 2022.
وهذا الأمر لا ينطبق فقط على المجال الطبيّ؛ فالإنسان كائنٌ متكيّفٌ مع ذاته أوّلًا، يُحبّ أن يكتشفها، ثمّ مع الدوائر التي تلتصق به من المخلوقات، والعُمران الذي يراه، فالأبعد إلى ما بعد الأرض، وصولًا إلى المجرّات، وعالَم الفلك العظيم.
وإنّ ما يُميّز الإنسانيّة هو التغذية الراجعة لنفسها، وللاكتشافات حولها.
فلو لم يكن في الإنسان رغبةٌ مُلحّة في التنقيب وراء الأشياء، لتوقّف العلم إلى ما قبل غاليليو، مُقرًّا أنّ الشمس تدور حول الأرض، ولانتهى تطلّع الإنسان ليرى إبداع الخالق في الكون.
لكن الطاولة قُلِبَت، ونهض الإنسان في وجه كلّ حائلٍ بينه وبين تقدّمه العلمي والمعرفيّ، وفُصلت الكنيسة عن العلم، وأُحيلت جانبًا. ولو أصرّت الكنائس آنذاك على موقفها، واستمرّت في تعنيف الاختراعات العلميّة، لأنكرها الناس، ولقوبلت بالرّفض والنّبذ.
وهكذا يظلّ الإنسان في رحلةٍ لا تنتهي، يطرق أبواب المجهول، ويهدم الأسوار التي تُعيقه عن الفهم. فما بين خليّةٍ دقيقةٍ تحمل سرّ الحياة، ومجرّةٍ بعيدةٍ تختزن ألغازها، يبقى العقل البشريّ في حالة عطشٍ دائمٍ للحقيقة.
ولعلّ سرّ تفرّد الإنسان ليس فيما توصّل إليه فحسب، بل في شجاعته على الاعتراف بجهله، وإصراره على تحويل هذا الجهل إلى معرفة. فالمستقبل ما زال يخبّئ له عوالمَ لم تَطَأْها قدم، وأسرارًا لم تُفكّ رموزها بعد، لتظلّ قصّة الإنسانيّة حكايةَ بحثٍ لا تنتهي، وتظلّ الأسئلة أكبر من الأجوبة، شاهدةً على أنّ رحلة الاكتشاف هي نفسها جوهر الوجود.
واتركنا يا ولدي من الحديث عن البحار، لأنّه حديثٌ يطول، ودعنا نعود إلى شاطئ بحر مرمرة، الذي أتت إليه أمّ السلطان محمد الفاتح، مشيرةً إلى ولدها قائلةً:
“انظر يا بُنيّ إلى تلك المدينة العظيمة خلف البحر، هي القسطنطينية التي بشّر النبيّ صلى الله عليه وسلم بفتحها؛ فلتكن أنت الأمير الذي يفتحها، ولا ترضَ بغير ذلك مجدًا.”
ثمّ دعنا ننزل بخطوط العرض إلى الأسفل، وبالتحديد هنا، إلى المنطقة التي كان صلاح الدين الأيوبي فيها صغيرًا، لاعبًا في الشارع، عندما شاهده أبوه، فأخذه من وسط الصبية، ورفعه عاليًا بيديه، وكان أبوه رجلًا طويلًا، وقال له:
“ما تزوّجتُ أُمَّك وما أنجبتُك لكي تلعب مع الصبية، ولكن تزوّجتُ أُمَّك وأنجبتُك لكي تُحرّر المسجد الأقصى.”
وتركه من يده، فسقط على الأرض، فنظر أبوه إليه، فرأى الألم على وجهه، فقال له:
ـ آلمتك السقطة؟
فقال صلاح الدين: آلمتني!
فقال له أبوه: لمَ لم تصرخ؟
فقال: ما كان لمحرِّر الأقصى أن يصرخ.
ولو صعدنا نحو الأعلى قليلًا، لَبَانَت لنا ماليزيا، وسمعنا عن الطبيب البطل مهاتير، الذي كانت له كُنّاشة صغيرة يُدوّن فيها كلّ شيءٍ يُعجبه مما يشاهد في الأماكن التي يزورها حول العالم، على أمل أن يصنع مثلها في ماليزيا.
ثمّ تولّى المنصب السياسي، وقد كانت ماليزيا قبله دولة حديثة الاستقلال، زراعيةً فقيرة، منقسمةً عِرقيًا، وتعتمد على صادرات المواد الخام، فأطلق سياسة التصنيع، والتعليم، والهُوية الوطنية، ونقلها من اقتصادٍ منهار إلى دولة ناهضة.
ودومًا ما يخطر على بالي مهاتير، وأسأل نفسي: ماذا لو أكمل مهاتير العمل في المجال الطبي، متعلّلًا بأن لا علاقة له بالوضع السياسي أو الاجتماعيّ للبلاد؟
وأنا أعرف تمامًا كيف يعشق الأطباء مهنتهم، فالطبّ مهنة سامية نبيلة، والأطباء يُفنون حياتهم في الدراسة، على أمل أن يصلوا إلى مرحلةٍ يستطيعون فيها معالجة المرضى وتخفيف آلامهم، وإنّ فراق الطبيب عن مهنته كفراق الروح عن الجسد.
لكن مهاتير آثر وضع البلاد المنهار على نفسه، وشارك في عملية إعادة صنع الإنسان، وهذا ما جعل ماليزيا تعيش النهضة، وتتنفّس الكرامة والحرية.
ولو نزلنا إلى الأسفل، حيث نهضة رواندا التي صنعها بول كاغامي، والتي تُعدّ من أبرز قصص التعافي السريع في إفريقيا بعد مأساةٍ مروّعة، إذ تحوّلت من دولة دمّرتها حرب إبادة، إلى نموذجٍ للتنمية والاستقرار خلال نحو ربع قرن؛ فهذا شيءٌ مذهلٌ جدًا يا ولدي.
ودائمًا ما أسأل نفسي عن أمه: كيف ربّته؟ وكيف صنعته؟
فقل لي بحق الله: كيف صنعته؟

ذاكرة الروحِ وأغنياتُ المكان 01 1 بين رَحِمين الأمّ والأرض

ولو جئنا إلى كارابوك، حيث أنا هنا، في هذه المدينة المعلّقة بين السماء والأرض،
ولنعد معًا بالزمن قليلًا، وبالتحديد قبل سنتين أو أقل قليلًا، فقد تمّت دعوتي لحضور حفلة تخرّج في ذلك الوقت، ومن طبائعي أنني لا أردّ دعوة، وخاصةً إن كانت فيها مشاركة لأفراح الناس من حولي.
وفي الغالب أعود بطاقةٍ كبيرة، وبراحةٍ غامرة، وخاصةً عندما أرى السعادة تفيض على عيون الناس، والأمل في قلوبهم.
غير أن تلك الدعوة كانت كريمةً جدًا، حيث إنّ تخرّج تلك الدفعة كان باسم دفعة طوفان الأقصى؛
طوفان الأقصى الذي أعاد رسم قناعات العالم من جديد، فاجتمعت عظمة الزمان بعظمة الموضع.
وقد كان من بين الخريجين شخصٌ حُكم عليه بالنفي من بلاده إلى الأبد، بسبب مشاركته في إحدى ثورات الربيع العربي، وهو ابن الثالثة عشرة من عمره، وحُكم على أهله بالسجن داخل البلاد.
فهم أحرارٌ بالاسم، في بقعتهم الجغرافية، لكن لا يستطيعون السفر حتى إلى دولةِ جوار!
فكان هذا جزاءه أن شارك في ثورةٍ أُخمِدت بعد قتل أكثر من ٢٦٠٠ شخص في يومٍ واحد،
وما زال العالم الإسلاميّ أجمع يتمنّى أن تنتفض تلك الدولة مرةً أخرى، وأن تنال الحريّة لنفسها ولمن حولها.
وجلستُ أنتظر خطابات الخريجين، وكلي آذانٌ صاغية، أريد أن أعرف عن مساعيهم، وإصرارهم، وآمالهم، وطموحهم. وقد أُلقيت، بعد فقرتين أو ثلاث، قدّمها القائمون على الحفل، خُطَبٌ كثيرة، حتى وصل الدور أخيرًا إلى الشابّ ذاك، الذي نبّأتُك في الأعلى عن أخباره.
وكان قد حضّر خطابًا بورقةٍ أخرجها من صدره، ليقُصّه في موضعٍ كريمٍ كهذا، فكان وحيدًا حائرًا، وقد وقفت دمعةٌ في طرف عينه، رأيتُها بينما لم يلمحها أحد، وخلتها واقعةً لا محالة؛ فوقعت، ثمّ مسحها وتقدّم بادئًا القراءة، فاهتزّ صوته، واختنقت عبراته، وكاد أن ينفجر بالبكاء، لولا أنّه مزّق الورقة أمام الحضور، وقال بلهجته العاميّة:
“لو أكملتُ ما في الورقة، لبكيتُ ولجفّت دموعي.”
وعندما سمعتُ ذلك، ما كان منّي إلّا أن أبكي، وكأنني بكيتُ عنه، وراحت تنهمر دموعي، وكأنّها شلالٌ من الماء، ينبع ماؤه من قلبي، وقد شهقتُ بعد أن كتمتُ الصوت لأكثر من خمس دقائق، فلمحت دموعي جارتي في المجلس، وكانت سيدةً طيبة، لم أكن أعرفها من ذي قبل، فسألتني عن السبب، فقلتُ لها: لا شيء، فقط حساسية وزكام.
لكن في الحقيقة، أنا نفسي لا أعرف السبب.
ودومًا ما يخطر على بالي السؤال، فأُجيب:
لربما كان الموقف يحتاج دموعَ الشاب، لكنّه كان عصيّ الدمع، أبيَّ الانكسار، فكفلت دموعي ذلك، أو لربما حزنتُ كثيرًا أن يُترك طفلٌ بعمر الثالثة عشرة، وحيدًا، غريبًا، مُهجَّرًا، وقد رأيتُ أثناء تدريسي للأطفال، كيف يتعذّب الذين يعيشون منهم بلا أمهاتٍ وآباء، وكيف يضيق حالهم، وعيشهم، أو لربما آلمتني أشواكُ طريقه، وخدوشه الظاهرة على قسمات وجهه، والحِمل الكبير الذي على ظهره، أو لربما كانت حال بلادنا من حال بلادهم، فبلادُنا نُكبت مرتين؛ مرّة في مثل حالهم، في السبعين من القرن الماضي، بتهجير كلّ الأصوات الحرّة، أو قتلهم وتعذيبهم وتشريدهم، فأُخمِدت، لكن لم تذهب ريحها.
ومرّةً أخرى، كانت تعيشها البلاد أثناء حديثه، أو لربما جمع السبب كلّ ما ذكرتُ في الأعلى؛ فكلّه وارد، وكلّه محتمل.
وبعد أن سألتني الجارة، وأجبتُها بجوابٍ سريع لا يُقنع حتى عقلَ طفلٍ صغير، خرجتُ سريعًا من الحفل، أحاول الهروب، لربما من تَكَاثُفِ الأسئلة، أو من صوتِ عبثٍ، وعصفِ الحنايا التي في داخلي، كان يقول:
تخرّج الطبيب في تلك الدفعة، فكان شخصًا عاديًا، يعيش فترةً ثم يموت، وتخرّج المهندس، والمعلّم، والحقوقيّ، فكانوا كذلك؛ لكن تخرّج هذا الشاب، فكان قصةً خالدة، تشفُّ عن كلّ أولئك الذين قضَوا نحبَهم في سبيل السّلام والحرية والكرامة.
فسلامٌ على ذلك الشاب، أينما حلّ، وأينما قضى، وأينما ذهب.

رَحِمين الأمّ والأرض 1 بين رَحِمين الأمّ والأرض

ما رأيك يا ولدي أن نكتفي بهذا الحدّ اليوم؟
فلقد تعبتُ، لأنّ جسدي الصغير يحمل حوالي ١٠ كيلوغرامات زيادةً عن وزنه الطبيعيّ.
فهل تعلم أنّ المكان الذي أنت فيه الآن، كان قبل أن تأتي إليه، وزنه -على أكثر تقدير– ١٠٠ غرام، بحجم قبضة يدي؟
وعندما كتب الله أن تكون فيه، أصبح وزنه -على أقل تقدير– ١٥٠٠ غرام، وداخله حوالي ٩ لترات من السائل الأمنيوسي.
وهذا شيء غريبٌ عجيب، فحتى أستاذتي التي لا تعرف عن الله كثيرًا، قالت: إنّ هذا شيء في قمّة الروعة والغرابة، ووقفت لمدة عشر دقائق لا تستطيع الكلام بعد أن قالت ذلك. إنما ليعلم الناس يا ولدي أنّ الطبّ، والحياة، وكلّ الأمور، أسباب، وأنّ الله ربّ الأسباب.
وهذا هو الحال مع كلّ الأمور في الحياة، فالمهم: عند وقوع الحدث، كيف تصرّفنا حياله؟
وكيف انتصرنا فيه لديننا وعقيدتنا؟
فأنت الحدث، وسيُحاسبني الله على تصرّفي معك.
وها أنت تتحرّك، وهذا دليل على تفاعلك مع الأمور التي أرويها لك.
فما أجمل حركاتك! وما أسعدني بها!
ودعني أيّها الجنين الصغير الجميل، أُخبرك أنني اليوم –وأنا أعبث لا أتذكّر بماذا– جرحتُ يدي، ففرحتُ قليلًا.
وها هي حركاتك تدلّ على استغرابك من فرحي بجرحي.
واستغرابك شيء طبيعيّ، فهل يفرح أحدٌ بوجعه؟
لكن لو تعلم لماذا فرحتُ، لعذرتني.
وإليك ذلك:
العلم يقول إنّ الأم الحامل، عندما تُصاب بجرح أو مرض، تهاجر خلايا من جنينها إلى مكان الجرح، لتساعدها على الشفاء بشكل أسرع.
فكنتُ سعيدةً بمساعدتك تلك.
فإذا كانت خلاياك –وأنت غير عاقل– تبرّني، فكيف ببرّك وأنت عاقل؟!
غير أنّ خلاياك تهاجر إليّ باستمرار، وتبقى داخل جسدي طيلة حياتي، وهذا ما سيفسّر مستقبلًا شعوري بك، وبمرضك، وبتعبك، حتى وأنت بعيد عني، وستصدق كلّ نبوءاتي عنك؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم:
أمّك، ثم أمّك، ثم أمّك.”
لأنّ عقوق الأبناء يوجع الأمهات من الداخل قبل الخارج.
مجيئك قد اقترب يا ولدي، وأنا أنتظر موعد اكتمالك، أو اكتمال الطين.
وهل تعلم أن في نفس يوم مجيئك، سيأتي إلى الدنيا –بشكل تقريبي– ٤٠٠ ألف طفل حسب ما هو مسجّل في نسب الولادات العالميّة؟
لكن الرقم أكثر من ذلك، لأنّ الدول التي تعاني من الحروب قد لا ترصد المواليد في نفس اليوم.
يعني: ستأتي إلى الدنيا، وسيأتي غيرك الكثير، وسيموت أناس بنفس النسبة، أو أقل، أو أكثر.
وهذا شيءٌ غريب ومدهش.

رَحِمين الأمّ والأرض 3 بين رَحِمين الأمّ والأرض

ستأتون كلكم بنفس الطريقة، لكن بظروف مختلفة.
ثمّ سيكون لكلّ منكم مسارٌ مختلف في الحياة: الطبيب، والمهندس، والعالِم، والقائد، والسياسيّ، والعامل، والمُدرّس، والمتسوّل، والصالح، والطالح، والسارق، والقاتل.
لذا، إن لم يكن عملك نابعًا من قناعتك وقلبك بنيّةٍ حسنة، فسيُصبح أبترَ، كأعمال ملايين الناس غيرك.
وإن لم تكن مستعدًّا للموت من أجل كلماتك، فسأعلّمك من الآن أنّها ستموت قبلك، أو قد لا تعيش أبدًا، لذا: لا تقلها.
فهذا سيّد قطب يختصر ما قلتُ بهذه الكلمات حيث قال:
إنّ كلماتنا ستبقى عرائس من الشموع، ميتةً باهتة، لا حراك فيها، جامدة؛ حتى إذا متنا من أجلها، انتفضت حيّة، وعاشت بين الأحياء”. والأحياء لا يتبنّون الأموات!
وبعد كلّ ما ذكرته في الأعلى، ورغم كلّ ما يعصف بالأمّة من رياحٍ هوجاء، وإلى الآن رجالُ الأمّة ونساؤُها يتقاتلون على قضيّة عمل المرأة؛ فبين محلِّل، ومحرِّم، ومتحدّث، وصامت.
وياليتنا يا بُنَيّ نملك الرّفاهية التي تُمكِّن نساءنا من الجلوس في المنازل، والاهتمام بشؤونها، والحيرة في تصميم أثاثها، والعبث بالوقت بين الطبخ، وفَرقعة الزيت، وقتال الأطباق، وصرف الجهد على المبالغة في اختيار حسن الثياب، ودرجة مطابقة طلاء الأظافر للألوان، وفي تصفيف الشعر، وتسريحه، وتعطيره؛ فإنّ هذا، والله، من رغدِ عيشه ونعيمه ونِعمائه، ولا يُستدعى ذلك إلا بحلّ مشاكل الأمّة الكبرى.
ومن يقرأ في فقه الأولويّات، يقف في المنابر مُنادِيًا بأنّنا في زمانٍ يستوجب على النساء الكدح، والعمل، والدراسة، كتفًا إلى كتف مع الرجال، متراصّين كلّهم في الصف، قلبًا وقالبًا.
لأنّنا مذ وُلِدنا، قُمّطنا بالهوان بدلًا من العزّة، واتّسعت أعيننا على الدماء والأشلاء، وما عرفنا معنى دفء البلاد أو الهويّات.
فبلادُنا منذ زمنٍ بعيد، ضمن إطار العالم الثالث المستعبَد، وتضجّ قلوب الناس فيها يا ولدي بفواجع الدهر وعثراته، وإنّ الاستبداد استفحل، والظلم أكمل حلقاته، والجور طال؛ فحتى يأتي ذلك الوقت الذي يُؤذَن فيه للمِحن الحضارية بالزوال، ويُمكَّن لعيش النساء اللاتي سيأتين بعدنا عيشةً كريمة، علينا أن لا نَحيد عن النضال، والكفاح، والسعي الحثيث، كلٌّ في مقامه ومقاله.
وإنّ بناء الأمّة مسؤوليةٌ في أعناق الجميع، لذا علينا كلُّنا النهوض، كنهضة رجلٍ واحد، لإحياء شيءٍ واحد، أو الموت في سبيل شيءٍ واحد.
هذا كلّ شيءٍ الليلة، نُكمل غدًا، أو بعد غد، أو عندما تأتي إلى الحياة، فتُصبح بمجيئك فوق الأرض، ثم تعيش فيها ما شاء الله لك ذلك، ثم تعود إلى داخل الأرض، وإلى ذات الضيق الذي أنت فيه الآن.

فيا ضيعةَ عمرك إن مشى سُبَهْلَلًا.
أمك، أو أمّ أولاد المسلمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى