أشتات

قراءة في تاريخ المقالة الأدبية وآفاقها

المقالةُ الأدبيّة؛ هل طُويتْ صفحتها، وأفل نجمها، وذهب الذي كان لها؟!
حين نشأت المقالة الأدبيّة عند مونتيني ( 1533 – 1592 ) كانت ضربًا من التأمُّل، وإدارة الكلام على نصوص قديمة؛ جعل منها الكاتب كالمرآة يرى فيها نفسه، وخلجات ضميره. كان مونتيني على جانب من أناقة الفكر، وأناقة اللفظ؛ تلتقي عنده روح الشعر، بروح الفلسفة على مهاد من التساؤل والشكّ. وكان كلّما مضى مع هذا الضرب الجديد من الكتابة؛ انبسط له الكلام ، ولانت جوانبه ، وزاد الماء فيه ؛ إنّه يكتب ليُعرب عن نفسه في اختلاف الأحوال عليها ؛ صنيعَ الشاعر إذ يُبين عمّا ينتابه.
غير أنّ المقالة، حين ذهبت إلى إنكلترا، وعالجها فرنسيس بيكون ( 1561 – 1626)؛ مسّها شيء من الجفاف، وكادت تصبح فكرًا خالصًا. وإذا كان كلا الكاتبين ذا عرق في أرض الفلسفة؛ فإنّ فلسفة مونتيني مغموسة بدم القلب، وفلسفة بيكون ترصد الظواهر في اختلافها، وتشابهها، وتؤسس منهجًا جديدًا في مزاولة العلم. وقد صبغت كلتا الفلسفتين كتابة صاحبها بصبغتها؛ فجاءت مقالة مونتيني منسوجة من الفكر والعاطفة، على اعتدال في المقادير؛ على حين رجحت كفّة الفكر في مقالة بيكون، وشالت كفّة العاطفة .
لكنّ الأدب الإنكليزي سيشهد، في القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، أقلامًا تُعلي من شأن المقالة الأدبيّة، كمثل: جوزيف أديسون، وتشارلز لام، ووليم هازلت، وآخرين ممّن يعود بهم الميزان فيعتدل بين الفكر والعاطفة .
على أنّ من مزيّة المقالة الأدبيّة أن ليس لها قالب صارم الملامح، كقالب القصيدة، أو قالب القصّة؛ وإنّما هي في جوهرها حديثٌ يُلقيه صديق إلى صديقه؛ فيه الصدق، والهدوء، والبوح الخفي، وضرب من التأمّل، وشيء من المناجاة؛ ثمّ لا بدّ أن يكون حديثًا ممتعًا .
وقد ارتبطت المقالة الأدبيّة بالصحافة، واغتذت منها؛ ما خلا مقالة مونتيني فإنّها نشأت في معزل عنها، ونُشرت ، أوّل ما نُشرت، في كتاب. غير أنَّ أثر الصحافة لا يخفى في رسم ملامح المقالة، وفي إشاعتها بين الناس.
ولم تعرف العربيّةُ المقالةَ الأدبيّة قبل القرن التاسع عشر؛ وإن كانت قد عرفت، من قبل، في أعصر ازدهارها ، ضروبًا من الكتابة تشبه المقالة بنحو ما؛ كمثل الرسائل، والفصول. نعم لم تعرفها، بما هي عليه من شرائط، إلّا حين اتّصل العرب بالغرب في طلائع النهضة الحديثة، وعرفوا الصحافة، فعرفوا معها المقالة. لكنّها كانت مقالة من دون فن؛ كانت تتوخّى بسط الأفكار وشرح المعاني، وأقصى ما تروم؛ أن تتخفّف اللغة من ثقلها الذي ألقى به عليها عصر طويل من الجمود.
كانت العربيّة في القرن التاسع عشر ثقيلة الخطى، يثقلها زمن راكد، كثيرة الألفاظ، قليلة المعنى؛ فلمّا نشأت الصحافة، وعُرفت المقالة؛ أخذت اللغة تنفض ما ران عليها شيئًا فشيئًا؛ فتهبط من المعجمات إلى حياة الناس؛ لتعبّر عن أشيائهم، ومشاعرهم، وأفكارهم. ولقد كان من رادة ذلك؛ رفاعة الطهطاوي ( 1801 – 1873 )؛ الرائد الأصيل الذي أحسن المواءمة بين تراثه العربيّ الإسلاميّ، والثقافة الفرنسيّة؛ فلانت العربيّة بين يديه، واتّسعت، واتّجهت نحو سبل العصر. ثمّ كان من أمر جمال الدين الأفغاني ( 1838 – 1897 ) ونزوله مصر، ما كان، فأيقظ الأنفس، وشحذ الهمم، وألقى في روع من حوله نزوعاً نحو التجدّد، وأشاع ضربًا من العقلانيّة. كان في الحلقة التي انتظمت حوله؛ محمّد عبده ( 1849 – 1905 )، وأحمد لطفي السيّد (1872 – 1963) ، وآخرون، وكلّهم أفاد منه شيئًا؛ فقد كان محمّد عبده فقيهًا، ولكنّه مع الفقه كان أديبًا كاتبًا، يحبّ الشعر، ويتذوّق الجياد من القصائد؛ فأراد أن يجدّد النظر في البلاغة، وقد أثقلتها نزعة عقليّة بعيدة عن جوهرها؛ فأقرّ كتابي عبد القاهر: دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة في الأزهر، وأجرى دراسة البلاغة عليهما، وأقرّ معهما درس الأدب، وأسند القيام به إلى سيّد بن علي المرصفي الذي تخرّج به طه حسين، وأحمد حسن الزيات، ومحمود محمّد شاكر، وغيرهم من أيمة البيان في مطلع هذا العصر. وكان محمّد عبده، مع ذلك، يكتب في شؤون الدين والعقيدة ، وكان يناظر من يرمي الإسلام من المستشرقين، ويردّ عليهم أقوالهم؛ وكلّ ذلك يقتضي منه عربيّة طيّعة قادرة على استيعاب الأفكار، والإبانة عنها. وقد صحبه، على أدبه وفكره ومكانته ، مصطفى لطفي المنفلوطي ( 1876 -1924 ) ووجد منه حدبًا ورعاية؛ فمضى يكتب نظراته، وعبراته؛
ويزيد من الفن في المقالة، فلقي أدبه إقبالًا من جمهور القرّاء من أجل غزارة عواطفه، وتلهّب مشاعره، واستقامة ألفاظه .
أمّا أحمد لطفي السيّد فقد أخذ عن جمال الدين الأفغانيّ الجانب العقليّ؛ ثمّ مضى به إلى غايته ؛ إذ ألّف ، وإذ ترجم، وكان من الذين جعلوا العربيّة تسع الفكر الفلسفيّ حين ترجم جملة من آثار أرسطو. وكان قد عرف المقالة، ومكانتها في الأدب الغربيّ، وتشرّب هيكلها؛ فلمّا أنشأ صحيفته (الجريدة) أتاح للمقالة حيّزًا كبيرًا فيها. كان يبني مقالته التي ينشرها في (الجريدة) بناء رصينًا محكمًا، يهيئ لها الألفاظ الواضحة الفصيحة، والجمل المتينة، والفقرات المترابطة التي يأخذ بعضها برقاب بعض، والمعنى الذي يتحدّر منها تحدّرًا؛ غير أنّه، مع هذا كلّه، لم يكن يتوخّى وجه الفن، وإنّما هو يريد أن يُبين عمّا لديه إبانة صحيحة واضحة .

في تاريخ المقالة الأدبيّة وآفاقها قراءة في تاريخ المقالة الأدبية وآفاقها

وكان ممّن كتب المقالة أيضًا، في أُخريات القرن التاسع عشر، وأُوليات القرن العشرين؛ ولي الدين يكن ( 1873 – 1921 ) فجعل منها مجلى نقد أراد به السياسة والمجتمع، مع عناية حسنة بالألفاظ وبنائها. ومثله كان صنيع أحمد شاكر الكرمي ( 1894 – 1927 )، على قصر حياته، فقد زاول المقالة، وجعلها على جادّة النقد، وتطلّب الإصلاح؛ فكانت جمله قصيرة نافذة ، وكان أسلوبه نقيًّا صافيًا لا كدر فيه، قد جاءت ألفاظه مفصحة عن معناه. ولو امتدَّ به العمر لكان كبير الشَّأن في المقالة .
وتخطو المقالة الأدبيّة، في تلك السنوات الأولى من القرن العشرين، خطوات فيها الإجادة في المحتوى، وفي طريقة الأداء؛ وقد نهض بجانب من ذلك محمّد السباعيّ ( 1874 – 1931 ) إذ كان على حسن بيان، ومتانة نسج، وتدفّق مشاعر . وكان من كتّاب صحيفة (الجريدة). ومن آثاره في ميدان المقالة التي ضمّها في كتب: (الصور) ،و(السمر)، و(خواطر في الحياة والأدب) ، و(مملكة الحبّ).
وكلّ أولئك الكتّاب إنّما عبّروا عن عصرهم أحسن تعبير ؛ عبّروا عن المجتمع وما يضطرب فيه ، وعبّروا عن الأنفس وما ينتابها ، ويختلف عليها من حالات ، ثمّ إنّهم مرّنوا العربيّة، ووصلوا أطرافها بأطراف العصر .
لكنّهم جميعًا كانوا كالتمهيد لمن سيبلغ بالمقالة الأدبيّة ذروة رفيعة، ويجعل منها، مدّة سنوات، الفن الأدبيّ الأوّل؛ أريد طه حسين ( 1889 – 1973 )، وأحمد حسن الزيّات ( 1885 – 1968 )، وإبراهيم عبد القادر المازني ( 1890 – 1949 )، ومصطفى صادق الرافعي ( 1880 – 1937 )، وعبّاس محمود العقّاد ( 1889 – 1964 )، وأحمد أمين ( 1886 – 1954 ) وأمثالهم ممّن هم في طبقتهم، أو دونها قليلًا .
وقد كان من شأن طه حسين؛ أنّه بدأ شاعرًا يقول المنظوم في الأغراض السائدة يومئذٍ؛ يُلقي القصائد في المحافل، وينشرها في الصحف؛ ويستصعب النثر، وكان صاحبه الزيّات أوثق صلة بالنثر منه. ثمّ أدرك ضآلة نصيبه من النظم؛ فمال إلى النثر مستصحبًا روح الشعر معه، وأخذ يكتب المقالة على ما استقر في صحيفة (الجريدة) من قالب لها؛ لكنّه لم يكتف بصحّة الهيكل، وترابط الفِقَر؛ وإنّما بناها على ألفاظ متخيّرة، وفكر متوثّب، وعاطفة متّقدة، وخيال رفيع، وجعلها واسعة الميدان، غير مقتصرة على منحى بعينه؛ تمتدّ أطرافها من التاريخ القديم، إلى الساعة التي هو فيها. وكلّ شيء متاح له أن يكتب فيه؛ بل ما أن تمتدّ يده إلى أمر ما حتّى تدبّ فيه الحياة. وقد سارت مقالة طه حسين سيرورة عظيمة؛ فكان إذا كتب، وهو في القاهرة، قرأ مقالته من في المغرب، ومن في المشرق. ومقالته أدبيّة نقديّة في كلّ أحوالها؛ كتب عن الشعر القديم؛ فقرّب مداره من الناس، وصار كتابه: (حديث الأربعاء) من معالم الأدب العربيّ في صدر القرن العشرين. وكتب المقالة مستمدّةً من الحياة ، كما يستمدّ الشاعر قصيدته، أو القصصيّ قصّته، فنشر (من لغو الصيف إلى جدّ الشتاء) ، و(جنّة الحيوان) ، و(مرآة الضمير الحديث) وغيرها .
أمّا الزيّات فإنّه مُعرق في مزاولة الكتابة؛ يفتنّ في تجويدها، وإقامتها على ضرب من الازدواج، وعنصر من النغم. نشأ كصاحبه طه حسين على المائدة نفسها؛ فاستوعب القديم، شعرًا ونثرًا، وضمّ إليه الأدب الأوربيّ؛ فأقام مقالته على عنصري؛ الأصالة والحداثة. ثمّ أراد أن ينشئ مجلّة أسبوعيّة ؛ تقوم أوّل ما تقوم؛ على المقالة؛ فأنشأ مجلّة (الرسالة) في سنة 1933، وبقيت تصدر عشرين سنة. ولقد شعر الزيّات أن الميدان متاح للمقالة ؛ فقد مضى كبار الشعراء؛ كأحمد شوقيّ ، وحافظ إبراهيم ؛ ولم يبلغ أن يسدّ مسدّهما أحد، ولم تكن القصّة قد استوت، ولم يكن كتّابها قد بلغوا منزلة رفيعة في الأدب؛ ولم يكن في الصدارة غير المقالة وكتّابها. فلمّا صدرت (الرسالة) أقبل عليها القرَّاء في البلاد العربيّة كلّها، وأحلّوها، من أنفسهم، منزلة سامية. وأينما سارت (الرسالة) سارت معها المقالة الأدبيّة . كان الزيّات يكتب الافتتاحية، كلّ أسبوع، وكانت أقلام طه حسين، والعقّاد، والمازني، والرافعي، وزكي مبارك، ومحمّد عوض محمّد، ومن في طبقتهم؛ تزين صفحاتها. وكلّهم جمعوا مقالاتهم، من بعد، ونشروها في كتب؛ وقد جمع الزيّات افتتاحيّات (الرسالة) ونشرها بكتاب عنوانه؛ (وحي الرسالة)، ذي أربعة أجزاء .
وقد كان من حميد أثر ( الرسالة ) ؛ أنّها أتاحت لجيل جديد من كتّاب المقالة أن ينشأ على صفحاتها ؛ كمثل علي الطنطاوي ، وشكري فيصل ؛ وكلاهما من سوريا . وكمثل زكي نجيب محمود ، وعبد المنعم خلّاف ، وآخرين من مصر .
لقد قُدّر للمقالة أن تسود في الثلاثينيّات والأربعينيّات ، وأن تزاولها خيرة الأقلام ؛ فتبلغ بها مبلغًا رفيعًا من الفكر والفن. بل إنّ من كتّابها البارعين في صياغتها من وضع كتابًا عنها كالذي صنعه محمّد عوض محمّد بتأليفه : (محاضرات عن فن المقالة الأدبيّة) .

في تاريخ المقالة الأدبيّة وآفاقها أحمد حسن الزيات قراءة في تاريخ المقالة الأدبية وآفاقها

وكان لا بدّ أن يتّضح الفرق بين ضربين من المقالة؛ ضرب يؤدي أفكارًا، ويكتفي من اللغة بفصاحتها ، وسلامة بنائها ، ويتطلّب تماسك الفِقَر، ورجاحة الحجّة؛ ومن أبرز أعلامه: أحمد لطفي السيّد، وعبّاس محمود العقّاد. وضرب يريد من المقالة، فوق ذلك، أن تجري على سنن الأدب من حيث اللغة المبينة الناصعة ، والعاطفة التي تصاحب الفكر ، والخيال الذي يحسن التصوير ، والتفنّن في إدارة الكلام ؛ ومن أبرز أعلامه: طه حسين، والزيّات، والمازني. وبين تمام الضربين؛ درجات من التفاوت .
وتعاقبت أجيال المقالة؛ كلّ جيل يزيد شيئًا، أو يأخذ في منحى جديد؛ إذ استقرّت نوعًا أدبيًّا قائمًا برأسه يختلف عمّا سواه. ولقد كان زكي نجيب محمود أبرز من كتب المقالة بعد طه حسين وجيله، وأحسن الوقوف عندها مبيّنًا ما ينبغي أن تكون عليه. ونهجه فيها؛ أن تكون ناقدة ، فيها نغمات من السَّخط، والتهكم، وأن تكون حديثًا مرسلاً، لا يتكلّف فيه المتحدّث أمرًا ، ثمّ هو، من بعد، لا يثقل على السامع، ومع ذلك، لا بدّ لها من أن يجري في عروقها رمز خفيّ؛ يتّسع به معناها، ويبلغ به الكاتب المراد. ومن جياد ما أصدر من كتب مقاليّة: (جنّة العبيط) ،و(قصاصات الزجاج) وهما من ذرى المقالة الأدبيّة في الأدب العربيّ الحديث .
على أنّ زكي نجيب محمود يكتب ضربي المقالة كليهما ، ويجيد فيهما ، ويجعل بينهما وشيجة لا تنقطع عنده ؛ ذلك أنّه يرسل في المقالة الأدبيّة أطيافاً من الفكر ، ويمدّ المقالة الفكريّة بنسغ من الفن . وإذا كانت المقالة الأدبيّة ، بشرائطها ، قد تضاءلت ، معه ، كلّما تقدّم به العمر ؛ فإنّ المقالة الفكريّة القائمة على عِرْق من الأدب بقيت وسيلته في التعبير، والمخاطبة كلّ حياته . ولا ريب في أنّ ثوب الأدب قد منح مقالته الفكرية مزيداً من البيان الموضح ، وزاد من تمكينها لدى القرّاء ؛ على نحو ما تجلّى في كتبه: (قيم من التراث)، و(رؤية إسلاميّة ) ، و(عن الحرية أتحدّث)، و( مجتمع جديد أو الكارثة ) ، و( قشور ولباب ) وفي غيرها.
لقد كانت مجلّة (الرسالة) مدرسة في أدب المقالة؛ إذ رعتها، وقامت عليها، وأرست مكانتها لدى القرّاء؛ وبقيت تمدّها بالغداء مدّة عشرين سنة. غير أنّ أحوال الأدب لا تفتأ في تغيّر، وتبدّل؛ من جديد يظهر، وقديم يختفي؛ فقد أخذت القصّة يتّسع مداها، وتعلو منزلتها، ويكثر كتّابها؛ ويقبل القرّاء عليها؛ ثمّ نشأ الشعر الحر؛ وما لبث حتّى انتشر، وكثر من يزاوله؛ قراءة، وكتابة؛ وصار الناس يميلون إليه، وإلى القصّة؛ ونشأ جيل وجد أصداء نفسه في غير المقالة الأدبيّة ؛ فكان ذلك كلّه إيذاناً بتقلّص ظلّ المقالة الأدبيّة ، وخبو توهجها .
غير أنّ أشعّة المقالة الأدبيّة التي ألقتها مجلّة (الرسالة) وكتّابها الكبار؛ قد وجدت في العراق من أحسن تلقّيها، والانسجام معها؛ ثمّ مزاولتها على رفيع شرطها؛ حتّى إذا خبت في مصر، أو كادت، أنارت في العراق على قلم علي جواد الطاهر ( 1919 – 1996 ) .
كان الطاهر قد نشأ ، أوّل ما نشأ، على آثار طه حسين ، وعلى مجلّة (الرسالة)؛ وقد أحلّ الكلمة الرائقة، والعبارة المتينة؛ منزلة رفيعة من نفسه؛ ثمّ اتّسع أمامه المدى؛ في القديم والحديث ؛ فكتب المقالة الأدبيّة ، والمقالة النقدية ، وزاوج بينهما . وكان ممّا أصدر في سياق المقالة : ( مقالات )، و( وراء الأفق الأدبي ) ، و( أساتذتي ومقالات أخرى ) ، و(الباب الضيق ) وغيرها . وكلّها على شريطة الفن في صفائه ، وحيويته ، ونزوعه الإنسانيّ . وقد اتّسمت مقالته ، مع هذا كلّه ، بالأصالة الدالة عليه ؛ من حيث اللغة وصياغتها ، ومن حيث الفكر ومغزاه .
على أنّ الطاهر كان يبدو وحده في ميدان المقالة الأدبيّة ، بعد مضي ( الرسالة ) وجيلها؛ ولا ينفي ذلك أن تجري مقالة هنا، أو هناك، على عرق من الأدب، أو يستريح شاعر من الشعر، في ظلّها؛ مثلما كان يقع لحسين مردان، وسعدي يوسف ، ورشدي العامل ، ويوسف الصائغ ؛ ولكنّهم شعراء أوّلا .
غير أنّ شاعرين كتبا ضربًا من المقالة الأدبيّة يتاخم القصيدة هما؛ نزار قبّاني ، ومحمود درويش ؛ فقد أصدر نزار قبّاني: (الشعر قنديل أخضر)، و(العصافير لا تطلب تأشيرة دخول) ، وأصدر محمود درويش: ( يوميات الحزن العادي)، و(في إثر الفراشة)؛ لكنّهما شاعران أوّلا . أتكون المقالة الأدبيّة قد طوت صفحتها ؟! فإن تكن ؛ فقد خسر الأدب ضربًا رفيعًا من الكتابة…!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى