أدب

سحر الواقع في مملكة شهريار

من حكايات شهرزاد إلى حكايات الناس

أيُّ رواية تلك التي تجعلك تشكّ في كاتبها؛ أبشرٌ هو أم عفريت من الجن تلبّس إنسانًا؟! فخطّ على يديه سطورها وأحداثها، وأسماء شخصياتها وأحاديثهم، زمانهم ومكانهم. وطار بقارئها إلى وادي عبقر، حيث تتنزل الجنّ على قلوب أوليائهم من الشعراء والبُلغاء فتوحي إليهم بدائع ما كان لهم أن ينشئوا مثلها!
دخلتُ عالم نجيب محفوظ  من بوابة روايته الآسرة (ليالي ألف ليلة). في سرد كثيف الرمزية، يلتذّ قارئه بطول تأمله، خياليّ مُغرقٌ في القِدم غير أنه أقرب ما يكون للمعاصرة!
وهناك.. في الليلة الثانية بعد الألف.. التقيتُ الأميرة شهرزاد في الصباح، وقد كفّت عن الكلام المباح.. بعد أن أدمن شهريار الإصغاء إلى حديثها الساحر، وحيدًا، طيلة ثلاث السنوات، وكان فيها “كلّما جاء الليل تبيّن له أنه رجل فقير”.
الآن، يعود شهريار إلى رعيّته، ملكًا من الملوك يأمر وينهى ويطاع، ويُخشى غضبُه. يُذكّر ماضيه القريب بَقيةً من بطشه، تَشي بها سلطته المطلقة، ويحذّر منها صمته المهيب.
وفي ذروة ترقّب الأميرة وجزعها -بعد انقضاء دورها- في الليلة الأخيرة، أدرك شهريار أنّ كل نهاية هي بداية لحكاية جديدة فقرر استبقاءها زوجًا له. ثم كان له منها وليدٌ، هدّأ وجودُه والتفكّرُ في مستقبله من سطوة المُلك وجبروته، وأعلى شعور الراعي ومسؤوليته. خرج شهريار من عوالم حكايات زوجه الحكيمة ليدخل في عوالم قصص أفراد شعبه. وجد الناسَ على دين ملوكهم، يتصارعون على ألوان فتن الدنيا؛ المال والسلطة والحب وعالم العفاريت الغامض. يقول أمثلهم طريقة: “على الوالي أن يُقيم العدل من البداية فلا تقتحم العفاريت علينا حياتنا!”
ولمّا صرف الملك سمعه إلى حكايات الناس في مملكته، رأى فيها صدًى لِما وقر في قلبه من قبل، ومنبعًا لحياة عريضة لا تنقضي عجائبها بموت إنسانٍ أو ولادة إنسان، حتى يرث الله الأرض وما عليها.  وآمن أنّ “العدل له وسائل متباينة؛ منها السيف، ومنها العفو، ولله حكمته”.
أمّا شهرزاد فما فتِئ قلبها يضجُّ بالخوف في زمن الأمن، وينوء بعذابات الكتمان لرهبة يغشاها النفور من مَلكها السفاح، تبديه عيناها فيقرؤه هو بصمت.. وكيف يوعِب القلبُ خوفًا وهوًى في آنٍ معًا!؟ لا يكون ذلك أبدًا.. إنّ “الكِبر والحب لا يجتمعان في قلبٍ”.. وتهمس لها نفسها: “لا أمان للسفّاك، إنّ شرّ ما يُبتلى به الإنسانُ أن يتوهّمَ أنه إله”.

وفي الناسِ شرٌّ لو بدا ما تعاشروا

 ولكنْ كساهُ اللهُ ثوبَ غِطاءِ

الواقع في مملكة شهريار سحر الواقع في مملكة شهريار

الإنسان مخلوق حكّاء.. وفي حضرة سلطان الحكايا لا فرق بين أمير وفقير، أوعالِم وجاهل، أو مؤمن وكافر؛ كلهم يهز نفوسهم هزًّا.. ويحرك فيها ما لا يستطيعه سلطان آخر.. يولد في مبدئها ويكبر في تفاصيلها ولا تزيده نهايتها إلا ظمأً يطلب ريّاه في حكاية أخرى ثم أخرى.. هكذا إلى انقضاء الأجل.
إنّ “من العقل أن نعرف حدود العقل”.. فقد يغرينا عالم الخيال باكتشافه، أو بتجربته ساعة من نهار، أو حلُمًا في ليلة من الليالي؛ امتلاك خاتم سليمان أو مصباح علاء الدين، أو لبس طاقية الإخفاء.. على أن نرجع إلى دنيانا وواقعنا عقب ذلك، إلى زماننا ومكاننا والأشخاص والذكريات..
جُبلَ الإنسان بماء الحرية، لكنّ سحر الحياة أن تعاش كما هي، بحلوها ومرها، ونعيمها وبؤسها. وأن نتحرك فيها نحو المستقبل ونحن نحمل الماضي -بعضه أو كله- على ظهورنا. ونبقى أسارى في قيدها ما حَيِينا. وإنّما جمال التحليق في وجود الأمان بالاستقرار بعده، وامتلاك ذلك الخيار متى شئنا.
ومن رحمة الله جلّ في علاه أنّ تحديات الدنيا لا تطلب امتلاك قوًى خارقة لمواجهتها، بل صبرًا لمن مقامه الصبر، وإيمانًا ثابتًا في قلبٍ “يحمد الله في كل حال فلا يستخفه السرور، ولا يلمسه الحزن”، وتوبةً لا تملّ ضعف صاحبها، مهما عاود اللجوء إليها إثر ذنبه كَرّةً بعد كرّة.
ما قيمة حياة تعيشها بغير صورتك التي خُلقتَ عليها وعرفتكَ الحياة والأحياء بها! واسألوا الغريب المنفيّ -إن شئتم- عن معاناته، وفاقِد الذاكرة التائه عن نفسه عن ألمها، هل يجد مَن كان مثلهما طعمًا غير المرار على لسانه؟! “ما عساه يبقى من طعم الحياة إذا انفصل الحيّ عن أسرته ورأسه؟!”.
إنّ “الله لا يضع جماله إلا حيث يريد أن يضع رضاه”، ذلك لمن كان له قلبٌ حيّ، أو عينٌ بصيرة لا تنخدع بزخرفٌ ظاهرٌ لا يتجاوز جِلد حامله.
واعلم أنه “لا يستطيع تدمير الإنسان مثلُ نفسه، ولا يستطيع أن يُنجيَه مثلُ نفسه”.. “فإذا سلِمتْ منكَ نفسُكَ فقد أدّيتَ حقّها، وإذا سلِمَ منكَ الخلقُ فقد أدّيتَ حقوقهم”.
فإن قيل: كيف السبيل إلى ذلك؟
– فلا تكن من قرناء الشيطان.
– مَن هم قرناء الشيطان؟
– أميرٌ بلا علم، وعالِمٌ بلا عفّة، وفقيرٌ بلا توكّل، وفساد العالَم في فسادهم”.
و”من رُزق ثلاثة أشياء مع ثلاثة أشياء فقد نجا من الآفات؛ بطنٌ خالٍ على قلبٍ قانع، وفقرٌ دائم مع زهدٍ حاضر، وصبرٌ كاملٌ مع ذِكرٍ دائم”.

الواقع في مملكة شهريار 2 سحر الواقع في مملكة شهريار

“من عادة الدهر إدبارٌ وإقبالُ 

فما يدوم له بين الورى حالُ 

كم أحملُ الضيمَ والأهوالَ يا أسفي 

مِن عيشةٍ كلُّها ضيمٌ وأهوالُ”

في آخر الحكاية.. أدرك شهريار أنه يستحق عذابًا أشدّ من احتقار شهرزاد له على مدى عشر سنوات، فقرر السفر حاملًا ماضيه الدامي، ومُصغيًا إلى نداء الخلاص والحكمة، وعندئذٍ اعترفت الأميرة له: “إنك تنبذني وقلبي يتفتّح لك”!

نصيبُك في حياتِك مِن حبيبٍ

نصيبُكَ في منامِكَ مِن خيالِ

إنّ الزمن قلبُ الحياة، يتقلّب بها كما يفعل القلب بإنسانه.. ونقص الحياة إشارة قوية إلى إمكانية اكتمالٍ لم يزل يغري الطالبين، كما يُعجز الطامعين.. يتوفّاهم النوم كلّ ليلة، ثم يردّ عليهم أرواحَهم عند طلوع الفجر.. و”مِن غَيرة الحق أن لم يجعل لأحدٍ إليه طريقًا، ولم يُؤيس أحدًا من الوصول إليه، وتركَ الخَلقَ في مفاوز التحيّر يركضون، وفي بحار الظنّ يغرقون، فمن ظنّ أنه واصِلٌ فاصَله، ومن ظنّ أنه فاصِلٌ منَّاه، فلا وصول إليه ولا مَهرب عنه، ولا بدّ منه”.

لكلِّ شيءٍ إذا ما تمَّ نقصانُ

فلا يُغرّ بِطيبِ العيشِ إنسانُ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى