أدب

AI واللغةُ والخوفُ ممّا بعدَ الإنسان

«مَن أنا؟
 أنا لُغتي»

– محمود درويش

التأريخُ خصومةٌ ونزاع، وخصمُنا اليومَ يتجاوزُ كائنًا تأريخيًا يُنازلُنا قِراعًا وغلبةً على جغرافيّة الأرض، خصمُنا اليوم قوةٌ تتكاثرُ دونما تعبٍ جوارحيٍّ جهيد، كيانٌ لا يفتُرُ عن التوالُدِ، تتقاطرُ صورهُ من برودةِ الآلة تقاطُرًا، وعلمٌ يتجاوزُ عمليّةَ التعلُّمِ من صيغتِها الدالةِ على المحصولِ بالتدرّجِ مع الحفاظ على المساحة الزمنيّة المعقولة والتراكم بما هو رأسُ مالنا؛ يغتذي من فراغٍ لا يُدرَك، لا يستأذنُ الزمنَ ولا يُراعي شرطَ الانفعال قبلَ حصول الفعل، يتخطّى منازلَ الوجود تخطِّيًّا ويتمددُ في مجالاتٍ ما كان العقلُ ليظفرَ بها لولا طِحان السنين ومِراس الأوجاع. الآلةُ خصمُنا الجديد، زمنٌ من جُذامِ اللامساواةِ الوجودية وتحوّلِ السؤال الشكسبيري مِن «أأكون أو لا أكون» إلى «مَن أكون؟»
مُفارقةٌ رائقةُ الملاحةِ في التشاكلِ اللفظي لمفردتيْ [الإله والآلة] كموجزٍ لتأريخ الإنسان بينهما؛ أعلنَ نيتشه [موتَ الإله] في زمنٍ اجتهلَتْ فيه الإنسانَ ثقةٌ أنه على كل شيءٍ قدير، يتنازلُ عن صانعهِ بمنافسته، وفي هذا السياق [مركز السببيّة] اليوم يبدو لي أنّ الآلةَ تُعلنُ موتَ الإنسان ببسطِها النفوذ عليه، وتُنذرُ بما يتجاوزه، وإذا كان العدوان الأكبر يتبدّى في مصادرةِ الإنسان من مركزه، فأولُ مظاهره يقعُ في انتزاع لسانِه منه؛ وهذه اللغةُ، كما قال هَيدغر، هي «بيتُ الوجود»، بها نستخرجُ من دخائل أنفسنا سرَّ حضورنا في العالَم، ولا نُدرَك ونُدرِك إلا بها؛ واللغةُ كائنٌ حيٌّ يتطلّبُ صيانةً دائمةً لئلّا يغلبه مواتُ الاستعمال، لكنّ هذا الكائنُ الحيّ، القويُّ والرقيقُ في آن، صارَ مُهدَّدًا بما هو أفتك من الإهمال؛ حلَّت عنه آلةٌ تُحسنُ إعادة التوليد والابتكار، من خلالِ خوارزميّاتٍ باردة، لا عن تجرِبةٍ وجوديّةٍ يمرّ بها صاحبُ البيان، تُحاكي الأساليب وتُحاكي معها النفوس. الآلةُ هذا الأبوكاليبس المُحدَث، يسرقُ لُغتنا، تُكسَرُ صورُ ذواتنا أمام مرآته ليس لإنتاجه نصًّا فحسب، إنما الويلات من تعدّد احتمالاتِ [إنتاج ما يُشبِه ويُحاكي] وذا زوالُ الإنسان في أبلغِ صوره: صورةُ التعبير الحُر. بلغَ غُنثر أندِرز هذا المُنقلبَ من النذيرِ، على أنهُ لم يشهد شيئًا من مداراتِ وحش [ AI ]، إذ قرّر أن التقنيةَ تتفوّقُ على الإنسان لا في قدرتها على الفعل فحسب، ولكن في قدرتها على محاكاة ما لا يمكن محاكاته، ويبدو أنّا، مع هذا، نعيشُ عصرَ رُؤاه ومخاوفه كما عشنا العقودَ الأخيرة رُؤى الديستوبيا في أدبيات هكسلي وهـ.ج. ويلز وجاك لندن.¹
وحدُهم أولئك الذين عرفوا أنَّ اللغةَ رأس مال وجودِهم، يتعرّضون للعدوان كلّ يوم من الذكاء الاصطناعي؛ فرادةُ [الحيوان الناطق] تهتزُّ، وامتيازُه الرمزي بقُدرته على التعبير يجرحُه بقُدرةِ الآلة على ذلك. جرحُ المقارنةِ القسرية هذا شاهدٌ على قلقٍ خاصٍّ من تحدٍّ خفيٍّ، قلقِ المُزاحمةِ في أصلِ الوجود، لا في فروع الحِرفة؛ لهذا كفايةً ما عُدنا نُطاوع التسليمَ المطلق لتعريفِ هَيدغِر للتقنيةِ بأنّها «موضوعٌ إنسانيّ»² أو امتدادٌ للقدرةِ في الأرض؛ ذاك أنّ هذا التعريف إنّما يقومُ على مُعادلةٍ ثنائيّة: أداةٌ نافعةٌ ومنتفعٌ عاقل. غير أنّ الآلةَ، في طغيانها الجديد وتغوّلها، تخلعُ من نفسها هذه النِّسبة، وتثورُ على موضعها، وتتحوّلُ عن هذه المعادلة من مانحةٍ ومعينةٍ إلى سالبةٍ للهوية الإنسانية ومُهيمنةٍ علينا في مداراتٍ شتّى صيّرتِ الإنسانَ أقربَ إلى المُنفعَل منه إلى الفاعل؛ فلا يعود الإنسانُ معها سيّدَ صناعةٍ مهما حدّدَ النظرَ بأكثر من كونه عبدَ نظامٍ يُعيد تشكيله على الصورة التي يتخيّرُها له.
في رسائل الجاحظ [رسالةٌ في تفضيل النطق على الصمت]، وفي زَبرِه صفةَ من يقدرُ على الإبانة يقول: «وليس يقوى على ذلك إلا امرؤٌ في طبيعته فضلٌ عن احتمال نحيزته، وفي قريحته زيادةٌ من القوة على صناعته»، مثلُ هذه الوصفيةِ للحدِّ الوجودي تضطربُ في زمنٍ صار الأصلُ بالنسخةِ أخلاطَ مُتشابِه، أن يصبحَ كل شيء شبيهًا بكل شيء؛ تتعاظمُ قوّةُ الصُّنع على قوةِ الصانع إذ ألوى الجَدعُ لماهيّة الإنسان، فتَبْطُلُ مزيّةُ الأديب ما وجدَ لسانَه مُحاكى، أو بتحوّل غابطي صَنعته من مُستهلكين إلى مُنشئين، هي صيحةُ المساواة وفسادُ الذائقةِ وانعدامُ المراتب. لا مُكنةَ لي على تخليص نفسي من الشعورِ بالعدوان جهةِ الذكاء الاصطناعي؛ عدوّي لا بحدِّ خصومةٍ ظاهرةٍ إلّا أنه يُحدث في نظام وجودي رجّةً لا ينهضُ لها قلبٌ صبور. هذه الطفرةُ الرقميّة ماطرقَت بابَ الإنسان صِدامًا بالنظرِ إلى ما استدرجته بالتدرّج الماكر، وابتلعت ذائقتَه شيئًا فشيئًا، أيُّهم يَرِدُ صوافيَ الذوق؟ ما أبعدَ ذاكَ ما أبعدَه إذ صار إلفُ السهولة دينًا جديدًا لهُ أهله من المبشّرين، وبسطُ السرعة صراطًا لا يُرتقى غيرُه ممّا مُدّ. تضمحلُّ التؤدة، تغدو حصاةً في سبيل الأناسيّ إذ لا تُراعى النَّبأة مع صمّةِ الصيحة، وينخنسُ طلبُ البيان العالي إلى زاويةٍ كسيفة، بعدما فشَت مواسمُ كلامٍ مسلوب الأصالة، وراجت سِلعٌ نمطيةٍ مكرورةٍ أوحشتِ الرصينَ من القولِ وشذّتهُ في سوقٍ لا يزدهي إلّا بالغثاثة.
لوِ اكتحلَت هذه الهجمةُ عدوانًا على حرفةٍ من حِرفة الكاتب، كأن يُنتزع من يدك سِفرٌ أو يُخالفك في رأيٍ خصمٌ نِدٌّ، سلامٌ عليها بما استوفقَنا الردُّ، لكنها جرحٌ في نصّ الوجود نفسه؛ فالإنسانُ، كاتبًا كان أو شاعرًا مُبينًا أو مُتفلسفًا زِمّيتًا أو درَّاكةً أسطونًا، إنّما امتازَ وفُضّلَ لقولهِ ما لا يقدر عامّةُ الناس على قوله، ويُبرزُ من المعاني ما لا تهتدي إليه البصائرُ العاديّة. فإذا استُنطِقَتِ الآلةُ، لا عن تجربةٍ ولا بلظى كدحِ البيان، وحاكتِ القولَ مُحاكاةً تنحلّ معها الحدود بين الأصيل والمُسْتعار، أحدثتِ اختلاطًا في الموازين، وأربكَت معيار التمييز، وكدّرَت صفاء المراتب، وأمضَت عليه وشومُ التيهِ في غُبار كلامٍ لا تُدرك أطرافُه ولا تُعرف مشاربُه.
والإنسان كجنسٍ عاقلٍ ناطقٍ يتعرّفُ على خجله الأنطولوجي اليوم: خجلٌ من محدوديته إذا ما قارنَ نفسه بالآلة التي صنعها وفاقته قوةً وإتقانًا، وتتطاولُ إلى إتقان لغته، تغتصبُ هويّته الحيّة ومَلكته التي فضلته عن كافة المخلوقات: مَلكةُ إنشاء العالَم بالقول. وهكذا، خوفٌ على اللغةِ لا يعدلهُ إلا الخوفُ على وجودِ ذاتٍ إنسانية تبدو مقاتلها أمام تصبّي الآلة لها، ما عدنا نملك من ذاتنا اللغويّة، وقد مُسِخَت، إلّا ما تسمح به نماذجُ التوليد وبرمجياتُ المحاكاة!
يبدو أنَّ هَمْلِت³ المرآة الأوفى لصورةِ قلقِ الإنسان الحديث، وكما تردّدَ هَملِت بين حقيقةِ شبح أبيه وبُطلانه ورآه خلخلةً لبُنية العالم الأخلاقيّ وانزياحًا لدلالةِ المركز المشهود، فعلى قياسِه نحنُ اليوم نرى في هذه الآلات خلخلةً لبنية العالم الأنطولوجيِّ نفسِه؛ مركزيةُ الإنسانُ تتصدّعُ، وتُفتّضُ أبكارُ حِجى الذُعرِ كلّما شهدَ عِرقُ الثرى هذا كيانًا مستحدثًا متخلّقًا من خارج شروطه وقُدرته، يُخلُّ بنظامِ وجودٍ ألِفَه، فبها قوةٌ تعيدُ ترتيب المراتبَ دونما استئذانه، وتُلقي به خارجَ سياقٍ اعتاده منذ آلاف السنين، تمارسُ وظائفه انتحالاً وتهديدًا لقُطب مدار إنسانيته: الإحساسُ بالفردانية، فكلُّ ذاتٍ كبصمةٍ تمايزَت عن غيرها، وليس هذا الشعورُ ترفًا يُستغنى عنه وهو قوامُ الوعي الذاتي، وعقدُ الفَرقان بين الإنسان وسائر الموجودات. أن نمتثلَ صرخةَ هَملِت «أكون أو لا أكون» تقتضي حيويةً أكثر مما بِطَاقتِنا اليوم؛ إذ أنّ سؤالَ الكينونةَ يتحوّلُ في أزمنةِ الفظاعة، في زمانِ الآلة، إلى سؤالٍ أمضى همًّا من سجايا الشجنِ، ونسألُ: «أأبقى مركزًا، أم أُدفَع إلى هامشٍ تتولّى الآلةُ رسم حدودهِ وتتكفّلُ بإعادة تشكيله؟»
خصمُنا اليوم يُربكُنا أمام رعبنا من اللامساواة الوجودية، ويفرضُ علينا البحثَ عن عمليةِ تفكيرٍ نُغايرُ بها نماذجَنا السابقةِ والمكرورة، أو رُبما إعادة تعريف ذواتنا. ولذلك كان السؤال: إذا عُرّف الإنسان بأنّه «الحيوان الناطق»، فكيف نعرّفه غدًا إذا استوتِ الآلةُ ناصعةً عليه في مناط النطق والمنطق، وغلبته في موارد القول والعقلِ، وشاركتْه في صناعة الخطاب؟ أَيُقال: الحيوانُ ذو التجربة؟ أم الحيوان ذو الألم؟ أم ذو الوعي الذاتي؟ أم ذو أربعة أطراف؟ أم نحن أمام طورٍ جديدٍ يوشك أن يُعيدَ تعريف الإنسانِ من خوارجَ ودواخلَ دوائر لا ميزَ فيها بين سِماتِ بابلَ وسدوم؟ ذاكَ سؤالُ الأزمانِ المقبلة.

الهوامش:

  1. لم يُترجم أيُّ عملٍ تامٍّ حتى الآن لغُنثر أندِرز، مع أهميّته وطول باعه في نقد حداثة التقنية سيّما بعد الحرب العالمية الثانية والمجالاتِ النووية. 
  2. التقنية، مارتن هيدغر، مجلة مدارات فلسفية. 
  3. هَملِت شخصيةٌ شكسبيرية في مسرحيّة: مأساةُ هَملِت أمير الدنمارك. اقتضَتِ الإشارةُ إليه لدقّة مقام تصوير النموذج الإنساني المعاصر بمأساته ومُعاناته، ومن أحبَّ الرجوع إليها فعليه بترجمة خليل مطران.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى