أدب

مسامرةُ الظاهري

أبي عبد الرحمن، وأشياءَ من تهويمه وتدويمه! (ج1)

من الأقلامِ التي آوي إليها هربًا من شراسةِ الأيّامِ، وما يَصْطلي به المرءُ من هُمومِها وتكاليفِها، قلمُ شيخِنا العالِمِ أبي عبد الرَّحمنِ ابنِ عَقيلٍ الظاهريِّ -متَّعه اللهُ بالصِّحّةِ والعافيةِ- مع بقيّةِ أقلامٍ جمعت بين فَهمِ حقيقةِ النَّفسِ وخَبئِها، من جهةِ أنّها نفسٌ بشريّةٌ تَرنُو للعبثِ كما تَصمُدُ للجِدِّ، يَشحذُها الأوّلُ ليُعينَها على تكاليفِ الثّاني، وبينَ متانةِ الدِّيانةِ على التَّحقيقِ؛ فكانوا القومَ الأفاضلَ الكُمَّلَ، تجاليدُهم تجاليدَ النَّفسِ الوسطِ السَّويَّةِ.
كلّما قرأتُ له، نمى اعتقَادي أنّ الحرفَ عنده كائنٌ له رُوحٌ تَمدُّه بالحياةِ وتَسمه بوسمِ الخلودِ، وأنّ المعنى المُنبَاقِ من لفظه وليد تجربةٍ حافلة ذات تناويع شتى، ولم يَشتدُّ ويسمو إلا باعتاركه مع حوادث الحياةِ حُلوِها ومُرِّها معًا، واعتناقه قالةً ترجمتها:  أن لا يَتألّقُ إلا إذا صاغَه وِجدانٌ ذاقَ الجَمالَ واهتدى به في طريقِه إلى خالِقِه -جلَّ وعلا-.
وليسَ قلمُ شيخِنا بالقلمِ ذي البَرقِ الخُلَّبِ، أو الّذي يَجري بأحرفٍ سمجةٍ رَخيةٍ، إنّما هو وِجدانُ مُفكِّرٍ، وعقلُ مُتذوِّقٍ، تحمله نفسٌ عاشقةٌ للحقِّ والجمالِ معًا؛ يَجري في عُروقِ كُلَيماتِه صِدقٌ له أُبَّهةٌ ويعتليه نورٌ، ويُضيءُ فيها سراجُ رُوحٍ شابّةٍ لم تَرعَها عصبيّاتٌ لها أمرٌ ونهيٌ، ولم تُطفئ إقبالها على الحياةِ دعواتٌ لها سَطوةٌ وغَلَبةٌ وكثرةٌ كاثرةٌ من الأنصارِ والأعوانِ.
قال أبو عبد الرحمن:
هذه صُفَيحاتٌ أُسامرُ فيها قَلَمَهُ العذبَ، وأتتبَّعُ فيها بُعيضَ آثارِهِ الحَكيمةِ الضَّاحِكَةِ، وأُطوِّفُ بين كُتُبِهِ ومقالاتِهِ، ثم أستخرِجُ من بينِ جَنَباتِها الدُّرَّ المستكنَّ في لَفْظِهِ، وأتعرَّضُ لنَفَحاتِ العِطرِ المنثورِ في عباراتِهِ، وأستظلُّ -وإيّاكَ أيُّها الكريم- بهذه اللذّةِ المعرفيّةِ الباذخةِ، وبما أبدعَ من فِكرٍ وَريفٍ مُشرِقٍ، وأقبسُ من نارِ إنسانٍ نَبيلٍ نذَرَ عُمرَهُ للكلمةِ الشاعرةِ، والمعنى المَسكونِ بالجمالِ! فاللَّهم يسِّر وأعن.
❃❃❃
لشيخِنا الظاهريِّ محمَّد بن عقيلٍ كتابٌ طريفٌ في بُعيضِ صفحاتٍ أسماه «نظرات لاهية غير عازمة»؛ وهو كاسمِهِ= نَثَرَ فيه شيئًا من اللَّهوِ الفكريِّ الجميلِ، بحَرْفِهِ الماتِعِ الّذي لا يُقْلَى ولا يُمَلُّ. ابتدأه بهذه الكُليمةِ العذبةِ العبقريّةِ:
«لابد من اللهو «لذات المرء ، ولغيره!!» أما لذاته: فلانه ضرورة ، ولولاه لتبلدت النفوس وضاقت بالواجب!
وأما لغيره: فلأن الجدية الفعالة «في مثل هذا العصر» يجب أن يصحبها حذق للهو المباح -في غير تفريط، ولا صلف -بل بقدر مایلاین به عصره!
واللهو المباح: تذرعت به ، حتى أصبح ضرورة في حياتي لناحيتين:
أولاهما: أن وسطي يرفض الجدية الصارمة.
وأخراهما: أن لي قلبا خشوعًا، ونفسًا طروبا، وروحًا رفافة.. أطرب للكلمة العابثة البريئة وأسترخى للنغمة الهادئة، وتأسرني اللمحة الشاعرية «في غير هياج عاطفي، أو نهيق كنهيق الحمير، أو صفير لا يتقي مغبته من يأمن مكر الله».
وقوى هذا الطبع الجبلي تجربة عاطفية عنيفة انفصمت بفراق أبدي.. ورزقت بمن ترقصان ذكرياتي اليائسة.. ولا عجب فقد قال شاعرهن «نزار»:

أخذتها مقبلًا باكيًا

أما بها من أمها رائحة؟!

إلى عواطف جياشة مكبوته فتحول حبي وأعظم كابتاتها -بحمد الله-: «خوف الله»!
فلهوت لأتنفس، ولولا ذلك لاختنقت،  وليس من حق مشايخي «الذين يريدون مني أن أكون جادًا» أن يرضوا باختناقي!
فإن رضوا «ولم أكن شيئًا مهما في وجدانهم» فلن أراعي شعورهم!
فأعدلنا أعذرنا لصاحبه!
وتحولت من اللهو مالم يضق به سلفنا الصالح:
وقد كانوا اوسع صدرًا، وامتن دينًا.
دفعني إلى هذا اللهو فرية مازال أحبائي لايذكرونني إلا بها. يقولون : إنني متخثر لا أحسن سوى الزقفنة الترابة الجافة.
ولم يدر هؤلاء الاحباب ان بين جانحي قلبًا خفوقًا رمضته شمس بودلير، الحمراء، فلهث وراء كل ملمح شاعري يداعب فيه ذكريات أمر ما فيها اليأس!
والله يعلم أنني منذ الان أبيض الازار نقي الساحة!
قلت لهم في حينها:
أنا إن نفجت عليكم مخاشنًا انغضتم رؤسكم، وإن تجليت لكم متصابيًا وقعتم في أسري وخلي!!
فخاشنتهم بالنظرات العازمة واللاهثة، ولا ينتهم بالنظرات اللاهية!
عودت «سميعتي» أن تلاقي هتافًا يتخلل لحظاتي التي اعتبرها جادة.. وكنت أنتقر ما أسمعه لأن لحظات اللهو في ساعاتي يسيرة.. وكانت «عودت عيني» -التي غنتها الست أم كلثوم أو بنت إبراهيم كما يحب أن يسميها الشيخ- من التهويمات الرفافة التى أحن لها إذا طال عهدى بها.
وكان فيها ما يشجيني كقول شاعر الشباب:

ويوم ما تسعدني بقربك

ألاقي كل الناس أحباب
ويفيض على نور حبك
أقول مافيش في الحب عذاب
الحب كله نعيم ما فيه عذول بيلوم!
ولا فيه حبيب محروم!

الظاهري 2 مسامرةُ الظاهري

ومع أن هذه تلامس بعض تجرباتي، فإن فيها قالبًا لبعض فلسفات الحب التي أنا شديد الايمان بها:
فالحب عندی كله نعيم .. وعذابه نعيم!» انتهى.
قال أبو عبد الرحمن: لو كان شيخُنا مصريًّا أو شاميًّا إذًا لنهضَ لجمع شتات مقالاته، وبعثِ مَواتِ كتبه، وما تفرّق من شائقِ حرفه وما سالَ به فكره العبقريّ الجميل؛ رجلٌ من أبناء وطنه وجِلْدتِه! وقدّمها لقرّاء هذه الأيّام مجموعة في صعيدٍ واحد، على صورةِ أعمالٍ كاملةٍ جميلةِ التجلّيد، لها ورقٌ باذخٌ وحرفٌ طباعيّ يَسُرُّ الناظرين.
ولكنّ زامرَ الحيّ لا يُطرِب؛ أم كلُّ شيءٍ من الغريب أشهى، وأكبرُ في القلب، وأحلى في العين!
هذا رجع صدى شكايةٍ قديمةٍ لشيخِنا الجليل، صدّر بها كتابه آنف الذِّكر، مُتمثّلًا شعرَ النجفيّ وحرارةَ زَفَراته:

بي أزروا قـدما وقد جهلوني

فـسأزري بهم متى عرفوني
لم يروني شيئًا وقد كنت شيئًا
وكثير عمي الحجى لا العيون
حسبوا اليوم أنهم أبصروني
أبصروا مظهري ولم يبصروني

لا أدري: أهي بُهْلَة أن تكونَ ظاهريًّا؟ ربّما! أولمْ يَشْتَكِ الظاهريُّ الأوّلُ من مثلِ هذا، فقال:

أنا الشمس في جوِّ العلوم منيرةً
ولكنّ عيبي أنّ  مطلعِيَ الغرب
ولو أنني من جانب الشرق طالع
لجدُ على ما ضاع من ذكري النهب

وأحسبُ أنَّ هذا بلاءُ النَّفْسِ الحُرَّةِ؛ يُنكِرُها زمانُها، ثمَّ يُقبِلُ عليها زمانٌ بَعْدُ، كأنَّها وُلدت قبل أوانِها، فلم يقدرْها الناس حقَّ قدرِها، ولم يَعرِفوا لها الفضلَ الذي تَستحقُّ، ولم يَحتفِلوا بها الاحتفالَ الذي يَجب!
وقلمُ الشيخ شاهدٌ على مِحنَةِ الأديبِ المُبدِعِ بين قومِه وأُهَيْلِ زمانِه: يُرمى بالغموضِ إنِ التزمَ فصاحةَ العربيِّ الأوّل، وبالانفلاتِ إن عالجَ بعضَ ما فيه طرافةٌ وأفكوهةٌ، وبالغَرابةِ إن صَمَدَ يَبْغي التَّجديدَ؛ حتى إذا طواهُ الله إلى رحمتِه -أطالَ اللهُ في عمرِ الشيخِ وأمتعَ به- قالوا: كان علمًا من أعلام الفكر والأدب! وكأنَّ شرطَ الاحتفاءِ والتَّكريمِ عند العربيِّ = الموتُ وتبدُّدُ سَحابةِ الحياة!
فلنَدَعْ مِثل هذا، ولنأخُذ فيما نحنُ بسبيله؛ فالأيّامُ تُنصِفُ الشيخَ -بإذن الله – ويَهدي اللهُ رجلًا أو رجالًا يقومونَ هذا المقامَ على الوجهِ الذي يُرضي ويُبهِج، وعسى أن يكونَ ذلك قريبًا.

❃❃❃

الظاهري 3 مسامرةُ الظاهري

قال أبو عبد الرحمن: أعظمُ شيءٍ يمنُّ به اللهُ على العبدِ بعد هدايته للتوحيدِ أن يَهديه إلى تمييزِ الجمالِ ومعرفتِه وحُبِّه والتلذُّذِ به، وإنَّ مَن أُوتيه وأُسكِنَ قلبُه، وأَوَى إليه عقلُه = سال منه أوديةٌ من العلمِ باهِرةٌ، ونَتَج عنه فكرٌ شائقٌ، وبعثَ في الحرفِ روحًا خالدةً لها بَهاءٌ ولذّةٌ وألَقٌ، وإني أزعمُ أنَّ هذه الهدايةَ فارقةٌ بين النَّفسِ الإنسانيّةِ والنَّفسِ البهيميّةِ، وأنَّ الحسَّ الجماليَّ هو الكُوَّةُ الفسيحةُ التي يطَّلِعُ منها المرءُ على تذوّقِ العلمِ، وسُبُلِ تشقيقِ المعرفةِ، وطرائقِ التمتّعِ بتفاصيلِ الوجودِ، ورؤيةِ الأشياء على صورةٍ لم يكن ليراها لو حُرِم هذا الرِّزقَ العظيمَ وحُبِس دونه!
وهو الرُّكنُ الثاني الذي تتسامى به نفسُ الأديبِ وتستوي على سوقِها بعدَ ركنِ الحُرِّيّةِ، والثاني مُمهِّدٌ للأوّل، فالنُّفوسُ المستعبَدةُ في قيدِ الخوفِ والعادةِ والتقليدِ وما لا أصلَ له في دينٍ ولا عقلٍ= عَزَّ أن تَهتديَ إلى الإبداعِ أو استخراجِ معاني الجمالِ فضلًا عن تذوّقِها والاستلذاذِ بها.
وما نطقَ العربيُّ الأوّلُ بالذي نطقَ به من شعرٍ ذي جلالٍ ينسكبُ منه مشاعر لها حرارةٌ وصفاءٌ وإرهافٌ، وقريض تَنْثالُ منه العبقريّةُ، إلّا عن نفسٍ حُرّةٍ وَلِهةٍ بالجمال. قال أبو عثمانَ الجاحظ:
«وكل شيء للعرب إنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام، وليست هناك معاناة ومكابدة، ولا إجالة فكرة، ولا استعانة، إنما هو أن يصرف وهمه إلى الكلام، فتأتيه المعاني أرسالا، وتنثال عليه الألفاظ انثيالا». ولو قلتُ إنَّ جَمهرةَ علومِ المسلمين إنّما هي قواعدُ وأدواتٌ يُعالِجُ بها العالِمُ استخراجَ الجمالِ من النَّصِّ البليغِ، والكلمةِ الرّاقصةِ، والمعنى الحَسَنِ= لأصاب قولي حقًّا أو حامَ حولَ الحِمى.
قال أبو عبد الرحمن: انظرْ إلى قولِ شيخِ الشيوخِ ومؤسِّسِ علمِ البلاغةِ -أو إن شِئتَ فقُل: الجَمال، وأنت مُطمئنٌّ صادقٌ مُصيب- العربيِّة في صورتِه المُشرِقةِ التي انتهى إليها، عبد القاهرِ الجرجانيِّ؛ حين يُؤسِّسُ لهذا المفهومِ، ويدعو الناسَ إلى التنبّهِ له، وتركِ ما هم عليه من سذاجةِ التفكيرِ، وما في خَبْءِ نفوسِهم من رأيٍ غُفْلٍ فَطيرٍ، فيقول: «ومن ثم لا يجوز لنا أن نعتد في شأننا هذا بأن يكون المتكلم قد استعمل من اللغتين في الشيء ما يقال: «إنه أفصحهما»، أو بأن يكون قد تحفظ مما تخطئ فيه العامة، ولا بأن يكون قد استعمل الغريب؛ لأن العلم بجميع ذلك لا يعدو أن يكون علما باللغة، وبأنفس الكلم المفردة، وبما طريقه طريق الحفظ، دون ما يستعان عليه بالنظر، ويوصل إليه بإعمال الفكر، ولئن كانت العامة وأشباه العامة لا يكادون يعرفون الفصاحة غير ذلك؛ فإن من ضعف النحيزة إخطار مثله في الفكر، وإجراءه في الذكر، وأنت تزعم أنك ناظر في دلائل الإعجاز» وقوله: «أما الاستعارة، فهي ضرب من التشبيه، ونمط من التمثيل، والتشبيه قياس، والقياس يجري فيما تعيه القلوب، وتدركه العقول، وتستفتى فيه الأفهام والأذهان، لا الأسماع والآذان» وقوله في نصِّ باذِخٍ كريم ثالث: «وجملة الأمر أنك لن تعلم في شيء من الصناعات علما تمر فيه وتحلي، حتى تكون ممن يعرف الخطأ فيها من الصواب، ويفصل بين الإساءة والإحسان، بل حتى تفاضل بين الإحسان والإحسان، وتعرف طبقات المحسنين.
وإذا كان هذا هكذا، علمت أنه لا يكفي في علم «الفصاحة» أن تنصب لها قياسا ما، وأن تصفها وصفا مجملا، وتقول فيها قولا مرسلا، بل لا تكون من معرفتها في شيء حتى تفصل القول وتحصل، وتضع اليد على الخصائص التي تعرض في نظم الكلم وتعدها واحدة واحدة، وتسميها شيئا شيئا، وتكون معرفتك معرفة الصنع الحاذف الذي يعلم علم كل خيط من إلا بريسم الذي في الديباج، وكل قطعة من القطع المنجورة في الباب المقطع، وكل جره من الآجر الذي في البناء البديع.
وإذا نظرت إلى «الفصاحة» هذا النظر، وطلبتها هذا الطلب، احتجت إلى صبر على التأمل، ومواظبة على التدبر، وإلى همة تأبى لك أن تقنع إلا بالتمام، وأن تربع إلا بعد بلوغ الغاية، ومتى جشمت ذلك وأبيت إلا أن تكون هنالك، فقد أممت إلى غرض كريم، وتعرضت لأمر جسيم، وآثرت التي هي أتم لدينك وفضلك، وأنبل عند ذوي العقول الراجحة لك، وذلك أن تعرف حجة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه لها وأخلق بأن يزداد نورها سطوعا، وكوكبها طلوعا وأن تسلك إليها الطريق الذي هو آمن لك من الشك، وأبعد من الريب، وأصح لليقين، وأحرى بأن يبلغك قاصية التبيين»
وهذه الكُليماتُ هي الينابيعُ التي انفجرتْ منها علومُ عبدِ القاهِرِ، ونهجَ عليها كتابَيهِ العظيمين: «الدَّلائل» و«الأسرار»؛ وأوضحَ -بلغتهِ الشاعرةِ ومنطقِه المتينِ- آلةَ استخراجِ الجمالِ من النَّصِّ البليغِ، وأنَّ هذه الآلة تعملُ عملها بواسطةِ عقلٍ مُبصِرٍ، عالِمٍ بهَديِ تلك الطرائقِ، مُميِّزٍ لها عن هاذيها. فأرتفع بالحُسنَ من رُتبةِ الانفعالِ الغُفْلِ إلى مرتبةِ الدليلِ والبرهانِ الصادقِ، وجعلَ مدارَ الفصاحةِ في علائقِ النَّظمِ دونَ الكلمةِ المفردةِ، وهُدِيَ إلى أنَّ معرفةَ الجمالِ لا تكونُ بحفظِ الألفاظِ دون الترَقِّي إلى إدراكِ نِسَبِها وتصاعُدِ تآلُفِها حين تنتظِمُ ويأخذ بعضها برقاب بعض.
فالاستعارة في رسم تقعيده وتأسيسه قياسٌ فكريٌّ، والتذوّقُ ضربٌ من النظرِ المُعلَّلِ، والعلمُ بالجمالِ معرفةُ الفروقِ الدقيقةِ بين ما هو حَسَنٌ وما هو أعلى منه منزلةً في الحُسن، والتمييزُ بين طبقاتِ الإحسانِ كما يُميِّزُ الصانعُ خيوطَ إبريسمِه، وأجَرَ بنيانِه. حتى انتهى الجمالُ عنده صناعةَ عقلٍ مُبصِرٍ، ونفسٍ شديدةِ الصبرِ على تكاليفِ الطريقِ الّتي تنتهي إلى غايةٍ شريفةٍ = «وذلك أن تعرف حجة الله تعالى من الوجه الذي هو أضوأ لها وأنوه لها وأخلق بأن يزداد نورها سطوعًا، وكوكبها طلوعًا»، ووضعُ اليدِ على الموضعِ الذي تنطوي تحتهُ الأفكارُ وتلتئمُ في لغةٍ عاليةٍ جامعةٍ للَّفظِ والمعنى معًا؛ وقد عَلِمَ الأوائلُ هذا واعتنقوه واحتفلوا به وترجموه في تآليفِهم على نمطٍ فريدٍ مُعجِبٍ، واقتفى آثارَهم من جاء بعدهم حتى استوَت علومٌ باذخةٌ على سوقِها. ثمَّ خلَفَ من بعدِهم خَلْفٌ ضَلُّوا المنَّهجَ، واستبدلوا الّذي هو أدنى بالّذي هو خيرٌ، فصار العقلُ العربيُّ إلى صورتِه الّتي أعرِفُ وتعرِفُ، وللهِ الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ.

الظاهري 4 مسامرةُ الظاهري

والحديثُ عن أبي بكرٍ وعلومِ أبي بكرٍ مُغْرٍ بالتطويلِ، ولكن ندَعْهُ إلى موطنٍ ثانٍ، ونعوجُ شطرَ ابن عقيلٍ، فنقولُ:
قال شيخنا: «قيمة الجمال هي أن نحس به إزاء الموجود، ومحل هذه القيمة القلب، ولقد أصبح الجمال علما مستقلًا، وللجمال مصادر من مختلف الحواس، فالصوت المطرب يوصف بأنه جميل، والصورة الخلابة توصف بالجمال والسلوك العالي يوصف بالجمال أيضا، والجمال نسبي عند الأمم، فنرى الإفريقي يعجبه من المرأة أن تكون عريضة الظهر، وترى العربي لا يعجبه إلا نحول الخصر، ونجد الأوربي لا يعبأ بالأرداف إلا أن للجمال مقاييس يكاد يتفق عليها العقلاء كالنظام والكمال والتنويع والتناسب والتناسق والفنون الجميلة تجتمع في الشعر والبلاغة والأخلاق والموسيقى والأصوات المطربة والرسم والنحت والتصوير والفن المعماري.
وإن من لم يجد في النصوص الشرعية التشجيع على التصوير والرسم والطرب سيقول : كيف لا يشجع الإسلام على الجمال وهو أحد قيم ثلاث تدلف إليها العقول والقلوب؟ولقد انهزم كُتَّابٌ مسلمون فراحوا يقترون النصوص ووقائع التاريخ ليحلوا الطرب والتصوير والرسم.
لهذا أشير إلى ملمحين:
أولهما: ملاحظة أن حب الجمال وتقديره في فكرته العامة قيمة مرغوبة في الشرع.
قال ربنا سبحانه وتعالى : ( ولقد جعلنا في السماء بروجا وزيناها للناظرين) [سورةالحجر/ ١٦] . وقال تعالى : ( ولكم فيها جمال حين تريحون وحين ترحون) وقال تعالى: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) [سورة الأعراف/ ٣٢]. وأظهر هذه النصوص وأدلها على المقصود قوله تعالى : ( يا بني آدم خذوا زينتكم عن كل مسجد) [سورة الأعراف/ ٣١].
وثاني الملمحين: أن الإسلام حرم أشياء جميلة، ولم يحرم الاستمتاع بالجمال، لأن قيمة الجمال ليست أم القيم، بل إن فوق قيمة الجمال قيمتي المنطق والأخلاق وهما فوق قيمة الجمال».
وإنّي أظُنُّ ظنًّا ليس بالكذبِ أنّ الإشراقةَ الّتي تَنبعثُ من حرفِ شيخِنا أبي عبدِ الرَّحمن ما كانت لتكونَ لولا هذه النَّفسُ الحُرَّةُ العاشقةُ للجَمالِ، والباحثةُ عنه بين صِغارِ الأشياءِ قبلَ الكبيرِ العظيمِ منها: في قسمات الإنسانِ وعصارة تجاريبه، ثمَّ الحديثُ عنه بقلمٍ مغموسٍ في حِبْرٍ مادّتُه «الجمال»؛ يَجري مُترجِمًا عن نفسٍ عاشقةٍ وَلِهَةٍ!
قال شيخنا:
«يعرف علم الجمال بأنه: علم الأحكام التقويمية التي تميز بين الجميل والقبيح.. وكان رأي الدكتور عبد الرحمن بدوي أن هذا التعريف كلاسيكي، أو أنه المعنى الشكلي لعلم نظرية النشاط الجمالي، وعرف الدكتور بدوي الجمال بأنه: تشكيل العالم وفقاً لقوانين الجمال، وبيّن الدكتور بدوي أن تعريفه لعلم الجمال متوقف على معرفة قوانين الجمال، وعلى تكوين وتحقيق تصورات تقويمية تملك أهمية توجيه السمو بعملية الحياة الفردية والاجتماعية.
القسمة الثنائية: «أنّ الفن للفن»، و«أنّ الفن للحياة».. والفن للفن يعني محضية الفن، والفن للحياة يشمل هموم الفرد النفسية «حياته هو»، وهموم المجتمع والأمة والإنسانية.. وكلمة الدكتور بدوي «الحياة الفردية والاجتماعية» تساوي «الفن للحياة».. وآخر كلام الدكتور مبني على تحديده مهمة علم الجمال؛ وهي= تنفيذ قوانين النشاط الجمالي، وأشكاله المختلفة، وأحوال تطورها «ههنا ينبغي ذكر كلمة مثل «معرفة».. أي ومعرفة أحوال تطورها؛ لأن الأحوال لا يستقيم معناها بالعطف على قوانين؛ وإنما تعطف المعرفة على قوانين، وكيفيات تحقيقها، ومنظورات تطورها «انظر: فلسفة الجمال والفن عند هيجل ص ٥».. ولقد بيّن الدكتور عبد الرحمن بدوي في كتابه هذا (ص ٥-٧) تاريخ علم الجمال وأعلامه؛ فقال: «وأول من دعا إلى إيجاد هذا العلم هو آج باومجارتن (١٧١٤- ١٧٦٢م) في سنة ١٧٣٥م؛ وذلك في كتابه «تأملات فلسفية في موضوعات تتعلق بالشعر».
قال شيخنا: «أريد بالتراث الفكر الهيليني وما تلاه إلى الفكر الروماني والفلسفة الأفلوطينية بالأسكندرية؛ فكل هذا فكر ميتافيزيقي بالمعنى الرديء.. وأقصد أيضاً تراثنا على مدى تاريخنا الإسلامي إلى عهد النهضة الحديثة التي بلورت معنى الجمال ومفهومه بوضوح، وفي هذا التراث قلة من العلماء على مدى تاريخنا الإسلامي بينوا مفهوم الجمال بجلاء، وفي طليعتهم الإمام الحبر «أبو محمد ابن حزم» قدس الله روحه ونوّر ضريحه في كتابه النفيس «طوق الحمامة»، و«مداواة النفوس».. ومنهم محمد بن داوود الظاهري وابن سينا.. والحسن كلمة مرادفة الجمال في سعة الاستعمال لا الوضع، والجمال إحساس مشاعر غامضة، فتحسس الجمال موهبة، وإبداعه موهبة أيضاً.. إلا أن هذه الموهبة عن الجمال الفني الأدبي النصي تتنامى بالقراءة والممارسة، ثم تبقى لكل فنان بصماته الإيجابية؛ لهذا أوصي بالتأصيل العلمي الضروري باستذكار المبادئ التي أخذناها في مراحل الدراسة في النحو والصرف والرسم الإملائي؛ لننطق ونكتب ونصور الرسم وفق خبرة علمية.. وفقدان عنصر الصحة عنصر قبح ينغص على جمال التعبير الفني لدى خاصة العلماء المتلقين؛ وإذا نسي الكاتب القاعدة، وكسل عن المراجعة: فلا يقدم مع احتمال الخطأ؛ بل يأخذ من سعة الكلام ما يجزم بصحته.. وكثيرًا ما كنت أفعل ذلك؛ فتغيب عني مثلاً القاعدة في مسألة خلافية من المستثنى منه بأدواته العامة؛ فألجأ إلى المستثنى منه بـ«غير» أو «سوى»؛ لعلمي بالقاعدة فيهما، وهكذا، وهكذا.. والمثال شارح لا حاصر.. وليكن لك كراسة تكتب عليها «كناشة» أو «مفكرة» أو «حصاد القراءة»؛ فتسجل فيها حاجتك إلى مراجعة كتب النحو عن القاعدة في الاستثناء بـ«إلا».. وإن المراجعة إن ثقلت عليك مرةً أو مرتين أو ثلاثاً فلن تثقل عليك أبداً بإذن الله.. والابتذال ينغص على الجمال؛ لأنه جالب الملل والسأم، والتنويع عنصر جمالي.. والابتذال أن يكون الكتاب محصوراً في المفردات الشائعة بين الشداة؛ وإذن فعليه أن يغذي رصيده دائمًا بالمفردات المليحة التي تند عن جمهور المثقفين؛ وليس سبيل ذلك حفظ القاموس المحيط، أو المنظومات اللغوية؛ فإن هذا الحفظ مع نفعه يسلب وقتًا كثيرًا وجهدًا فكريًا يحتاج إليه للتوسع في القراءة بدلًا من الانحصار في المحفوظ؛ وإنما السبيل أن يقرأ المتون من الشعر والنثر، وكتب فحول العلماء في شتى المعارف؛ فيقرأ تفسير المفردات في الحواشي ولا يكسل؛ فإن وردت مفردة غامضة لم تفسَّر فلينشط لمراجعة كتب اللغة والمصطلحات في حينها؛ فإن تكاسل فليودِعْ كراسته الوعد بالبحث عن تلك المفردة، وليودع كراسته كل إيقاع جميل وثب بروحه من مفردة أو كلام مركب.. والإلمام بالمسائل البلاغية ضروري من أخصر مصدر؛ ليكون عنده خبرة تقعيدية بمحسنات التعبير، وبالنكات الفكرية التي يصرف بها الكلام عن ظاهره اللغوي والنحوي؛ فيرم لتعبيره مقومات التصحيح والترجيح معاً.. والبلاغة عند عبدالقاهر هي «النحو الثاني»؛ لأنه الصياغة الترجيحية المخصصة مراد المتكلم من عموم الجائز في اللغة والنحو بشرط التعبير الأرقى الأجمل.. والتفقه المتأني في المعارف الاستاطيقية ضروري أيضًا؛ وذلك بالجمع بين العناصر المشتركة بين الفنون الجميلة؛ فالدراسة لتلك العناصر تربيه على المفردة أو الجملة الراقصة المصورة، أو الموحية، أو المضحكة، أو المفرحة.. وهكذا التوسع في الفكريات؛ ليحتال على غموض المشاعر وضيق التعبير.. ودهشة الابتكار، ولذة التجديد: عنصران جماليان بلا ريب..» انتهى.

الظاهري 5 مسامرةُ الظاهري

«العقلُ الجَماليُّ» عند أبي عبد الرَّحمن الظاهريِّ شرطٌ والتزامٌ، وتكليفٌ مَعرِفيٌّ وأخلاقيٌّ، ولا قيمةَ لـ«العقلِ الجماليِّ» إلَّا أن يكونَ جلالًا وكمالًا؛ فالبدايةُ من الرَّبِّ الكريم؛ فإنَّه جميلٌ يُحبُّ الجَمال، ولن يُحبَّ ربُّنا سبحانه وتعالى إلَّا ما فيه صلاحُ البلادِ والعباد.
وعهدٌ على العقلِ أن يتحسَّسَ مواضعَ الجمالِ ومنابِتَه، ثم يتأمَّلَ ويَتَذَوَّقَ الفنونَ المنطويةَ عليه، ويَجتهِدَ في إثارةِ تلك المواطنِ من كَوامِنها. فالجمالُ عنده لا يَنالُه مُنفَعِلٌ ثم لا يعدو، ولا آخِذٌ الأمرَ بضعفٍ ونَفْسٍ مُراكنةٍ الاستسهال، وإنَّما هو استحقاقُ التبصُّر، وطولُ التأمُّل، وصبرٌ بعد ذلك عظيم. ثم إنَّ إدراكَ هذه المواضعِ والاهتداءَ إلى منابِتها غيرُ مُستطاعٍ إلَّا بعد كَدٍّ وعَمَلٍ وطولِ استكشافٍ؛ ثمّ أصلُ ذلك كلِّه -وشرطُ حُسنِ تَمامِه- لزومُ صَيرورته في مَراحِلَ ثلاثٍ كاملةٍ غيرِ منقوصة:
الأولى: اكْتِسابُ الآلةِ التي تعملُ عمل العَلَمِ والمَنارةِ في الهدايةِ إلى مَوْطِنِ الجمال، وتمييزِ حَدِّه وصورتِه، ومعرفةِ مَحل انبثاقِه وسَيلانِه على التَّحقيق.
الثانية: إثراءُ الذائقةِ بذخائر من الأصول العِلميَّة، وأفانين الكلماتِ الشاعرة.
الثالث: تَرجمةُ الجمالِ الفكريِّ أو العِلميِّ أو الأدبيِّ ومُعالجتُه بعد اكتمالِ تلك المرتبتين: حتّى يَصدُرَ عن صُورةٍ صافية، ومَلَكة تَصْدُقُ صاحبَها العملَ الآخِذَ بسبيله.
وكلُّ تمامٍ رافِعٌ لِبُنيانِ العمل، وكلُّ نُقصٍ في تلك الأصولِ الثلاثة ثُلمةٌ فيه، وذلك كلُّه يكونُ على مقدارِ ما في آلةِ مَعالجةِ العِلم من نُقصانٍ أو تمام، وما في فؤاد مُستَنبِطِه ومُترجِمِه من حِذقٍ أو قُصور.
وفي النَّصِّ نَفائسُ علميَّةٌ جَليلةٌ كامنة، يُثيرُها التَّأمُّلُ وإحسان التذوّق-إن شاءَ اللهُ تعالى.
و«الأديب في تعبيره التصوري عن المعتمل في النفوس، أو عن وصف الطبيعة:
لا بد أن يكون مكتشفًا؛ والاكتشاف نصف العلم الحديث؛ إذ النصف الآخر صنع وإبداع قائم على اكتشاف القوانين؛ والقيم المجازية.. والتشبيهية هي بداية الاكتشاف من ناحية الشكل؛ وهو من مصادر المتعة بلا ريب؛ ولكنها ليست هي المتعة المجانية؛ بل هي متعة المضمون أيضاً بقيمه الفكرية والخلقية.. والتلون الممتنع في العقل الجمالي:
هو الموازنة بين ميول النفس البشرية المضنية؛ فثمة ميول عقلية تطمح إلى الحياة الجادة في شدة الكدح والعرق من أجل بلغة العيش، وشدة العزيمة في العبادة؛ والعابد في عصرنا هذا هو من يؤدي الصلاة في وقتها ويتجنب الموبقات؛ وأما سيرة الصحابة وأحمد بن حنبل وابن المبارك رضي الله عنهم ورحمهم: فتعد اليوم من الأساطير؛ ولا عجب فإننا في ذنب الدنيا؛ فهذا الدرب الشموس الذي يحتاج إلى رياضة نفسية يقتحمه من اكتنفته متطلبات الوظيفة والبيت والأهل.. ثم إن للنفس البشرية الضعيفة:
ميولاً خيالية عاطفية لا تطيق الاستمرار على الحياة الجادة؛ وأما الخيال فهو انشغال ببعض التوافه من المباحات في كثير من الآداب، وأما العواطف فأعظمها عاطفة الحب؛ فقد خلقنا الله من دم يفور في الوجنة، ومن عيون تنظر فنسبح ونمرح في سحر العيون؛ والناس يعلمون أن العيون الزرق، أو الحدق التي ترمي بحور: تبتلع العقول؛ وإذا غاب العقل تعطلت الحياة الجادة، وكم من غريق في بحر العيون نحسبه يحسن السباحة، فأصبحنا نرجو له الشهادة؛ فحري بمن لا عقل له ولا قود في الدنيا الفانية؛ (وهكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما الخبر عن قتيل الهوى): أن يحظى بالشهادة إذا لم يحظ بالوصال، وغلبه خوف الله عن الجموح»

في تاريخ المقالة الأدبيّة وآفاقها مسامرةُ الظاهري

قال أبو عبد الرحمن: رأيُ الشَّيخِ أنَّ الجَمالَ الحَقَّ يقومُ على بُرهانٍ يُورِثُ الرِّضا، وأنَّ اللذَّةَ التي لا يُضيئُها الفِكرُ مِصباحٌ مُعطَّلٌ لا يَصلُحُ لانبعاثِ النُّورِ منه؛ إذ لا حُسْنَ يُعتَدُّ به ما لم تشهَد له القيمُ الكُبرى: الحَقُّ والخَيْرُ. وفي نقدِهِ لبعض عَمالِيقِ الفلسفةِ الغربيَّةِ يقرِّرُ هذه المعاني، ويُبينُ عن وَعيٍ عَميقٍ بأُصولِها، ثمَّ يَهتدي إلى القولِ الحقِّ فيها؛ فالحُكمُ الجماليُّ عنده تقويمٌ مُعلَّلٌ يَستنِدُ إلى مَعرفةٍ ومِيزانٍ وتاريخٍ، تُسْنِدُه الحُجَّةُ، ويُزَكِّيهِ الخُلُقُ و يتسامى به صادِقُ الضَّمير!
أمَّا الحدْسُ، فيُرْجِعُه الظاهريُّ إلى أصلِه العربيِّ: قَصْدٌ وإصابةٌ وسرعةُ فَهمٍ لا هذيانَ فيها. ومجموعُ ذلك ومْضَةُ عَقلٍ يُبصرُ بِنورِ اللُّغة، ويُلْحِدُ عن أسمارِ الخَيالِ التَّافِه، وأباطيلِ المصطلحِ الغامضِ، وأوشابِ المَعنى الهَزيل. فكما أنَّ الفِكرَ عنده فَرْكٌ للمعاني حتّى تَخلُصَ من الكدَرِ الذي رانَ عليها، كذلك الحدْسُ إصابةٌ موفَّقةٌ تُصيبُ موضِعَها دون إفراطٍ في الظَّنِّ أو استِرسالٍ في التَّوَهُّم. ومن هذا العقلِ المنضَبِط، والخيالِ غيرِ ذي الشَّطَطِ، تنبثِقُ جماليَّةُ الحِكمة؛ إذ تُصبحُ الأسبابُ السَّابقةُ كلُّها خادمةً للمَعرِفة، لا بَديلاً عنها.
ثُمَّ يجيءُ الصِّدقُ اللُّغويُّ في فكرِ الشَّيخِ تاجًا يُتَوَّجُ به المعنى الجَماليُّ؛ فتوخي رسوم النَّحوِ، وحُسْنُ التَّرقيم، ورشاقةُ اللَّفظِ، وبقيةُ أدواتِ الكاتبِ والأديبِ أُصولٌ مَرْعيَّةٌ يجب أن تُؤخَذَ بقُوَّة، وأن تُتَرْجِمَ الفكرةَ وهي ناظِرةٌ إليها، آخذة بحقِّها حقَّ الأخذ؛ فهي الأصول التي تعصم المعنى من الارتكاسِ في حَمْأةِ الخَطأ، والتَّخبُّطِ في لُجَجِ فسادِ الإبانةِ وتَرَدِّي الأسلوب. فاللُّغةُ عنده كائِنٌ ذو زَكاءٍ وخُلُقٍ، ومتى اختلَّ صِدْقُها تهاوَى بُنْيانُها؛ إذ الحُسْنُ لا يَستقيمُ مع العَيْبِ بَتَّةً، كما لا يَجتمعُ صافٍ وكدر، أو نورٌ وظُلمة. فكلُّ خَلَلٍ في العبارةِ والأسلوبِ حَطٌّ من منزلةِ الجمالِ وكمالِه، وكلُّ إحكامٍ فيهما ارتقاءٌ لِلفِكر، وبرٌ بالذوق، وإعلاءٌ لِقِيَمِ الجمال.
ثمَّ يَبلُغُ «العقلُ الجماليُّ» ذِروتَه حين يَسمو إلى أُفُقٍ من الجلالِ والكمال؛ فهُناك يَتَسامى الفَنُّ، فيسجدُ في مِحرابِ العُبوديَّة، ويَفيضُ العَقلُ بالتَّسليم، ويَعمُرُ القلبُ بالإيمان، ويَتَحوَّلُ عملُ الأديبِ العاشِقِ للجَمالِ إلى صَنْعَةٍ تُحيطُها الهيبةُ والجلالُ من كُلِّ جِهة. والجلالُ تعظيمُ الحقِّ، والكمالُ إحسانُ الصَّنْعة، ومن اجتماعهما يَتولَّدُ النُّورُ الذي يَفيضُ على العالَم جمالًا يُصَدِّقُ مَقصودَ قولِ النبيِّ ﷺ: «إنَّ اللهَ جميلٌ يُحِبُّ الجَمالَ».
فالجَمالُ في فِكرِ أبي عبدِ الرَّحمن الظاهريِّ هُويَّةٌ وميثاقٌ يَلتزمُه الإنسانُ مع الحقيقة؛ ويلزم الفكرَ واللُّغةَ، وتنعقد عليه النيَّةُ، فيَغدو الحُسْنُ شهادةً على الصِّدق، والذَّوقُ -إذا التَزَمَ شُروطَ التَّذَوُّق- طريقًا إلى الجلالِ والكمال. وللأديب كمالٌ يكونُ على قدْرِ التزامِه هذه الأسباب، وطولِ وُقوفِه عندها، وعلى القدرِ الذي يُعْمِلُه تأمُّلًا وتَذَوُّقًا وصِدقًا في مُعالجةِ المَعنى، وصبر بعد ذلك عَظيم.
قال أبو عبد الرحمن: فُتِنَ شيخُنا بالجَمال، وأكثرَ من الكتابةِ عنه والإبانةِ عن ماهيَّتِه، وكان من مَطعوماتِه اللذيذة التي يُكْثِرُ عَرْضَها ووَصْفَها والاحتفالَ بها=تجدُ ذلك مَنْثورًا في كُتُبِه وكثيرٍ من مقالاتِه: ككتابِه الفذِّ «الالتزامِ والشرطِ الجماليِّ»، ومقالاته: «فواصلُ من العقلِ الجماليِّ»، و«الحُكمُ الجماليُّ عند فئاتٍ من الأُمَم»، و«التَّصوُّرُ الصحيحُ لمفهومِ الجَمال»، وسلسلةِ مقالاتِه المعنونةِ بـ «مِن هاهُنا تبدأ نظريةُ العقلِ الجَماليِّ»، و«العقلُ الجماليُّ اصطفاءٌ وشَجَنٌ وليس مَجَّانيًّا»، و«مآلُ العقلِ الجماليِّ إلى الجلالِ والكمال»، وغيرِها كثيرٍ -لو جُمِعَت- لجاءت في كتابٍ حافلٍ، وهي في مجموعِها تُنبئُكَ عن قدْرِ هذا المعنى الشاعريِّ في قلبِ الشيخ، وعظيمِ تأثُّرِه به، ومَبْلَغِ اختلاطِه بلَحْمِه ودمِه، فللَّهِ هو! ما أجملَ نَفْسَه، وما أشهى الحرفَ الذي نَبَعَ من تلك النفس!

❃❃❃

الظاهري 6 مسامرةُ الظاهري

وبعدُ،
سأُثبِتُ آخر كلِّ «كُليمةٍ» من هذه «الكُليماتِ» حرفين ممّا كنتُ دوَّنْتُه أثناءَ سِياحَتي في كُتُبِ الشيخِ، وما أذاعته له الصُّحُفُ والمجلّاتُ؛ يكونانِ كخاتِمَةِ المسامرة، مع ما فيهما من فائدةٍ وأُفْكوهةٍ.
الأول: (المُترجِم فنانًا)
قال شيخنا:الأدب الخواجي صور دالة يستعصي ترجمة كثير منها، وبعضها غير عصيٍّ، وهو موسيقى داخلية وخارجية يؤدِّيها الأديب الفنان بذائقة عربية؛ «لأن اللحن والنبر وحِدةٌ تناسبية هي أعمُّ وأشمل من المأثور العربي، وهي ذوق عالمي مُشْترك».. «والمترجم إذا لم يكن فنَّانًا في لغته الأم، وفناناً في لغته الثانية: فليس أمامه إلا هذه الترجمة الحرفية المَيِّتَة».. «ولو أتيح لأديب عربيٍّ فنان لا يجيد لغةً ثانية أن يطَّلع على هذه المقطوعة بترجمةِ مُترجمين مُتَعَدِّدين حتى يفهم معنى الجُمل إيحائيًا وفكريًا؛ لترجم النص ترجمةً فنيَّة مطابقة، ولتراكمت في ذاكرته صورٌ إيحائية على مدى الأعوام يُوظِّفها كما هي أو يُحَوِّرها لمراده في تعبيره شعرًا أو نثرًا، ولا يدري مِن أين تأتَّتْ له، بل يظنها من ابتكاره»؛ ذلك أن مخزون الذاكرة: «إما كسْبٌ شخصي من ملاحظاته وتجاربه وتأمُّله وخصوبة خياله وسعة ودقة فكره».
الثاني: (ما ينفعش يا ابني دا العلم أمانة)!
قال شيخنا: في إحدى زياراتي لطيبة -جعل الله بقية حياتي ومماتي بها بخاتمة حسنة- زرت شيخ المقرئين أحمد عبد العزيز الزيات بمجمع الملك فهد للمصحف الشريف، وهو خليفة الشيخ عامر السيد عثمان ، وكان رجلاً قصيراً مربوعًا ضريرا يمد رجليه على كرسي، فعجبت لنور وألق يشرق من وجهه، فسبحان من يهب لعباده النور.

وأردت أن أسمعه شيئًا من تلاوتي في أويقات قصيرة لأحمل عنه إجازة بأعلى سند عنده. ولم يرد أن يكسر خاطري برد حاسم فكان يردد: «تحضر معنا، ويكون إن شاء الله خير»

قال ذلك، وهو يعلم مقصدي بأنني أريد حمل إجازة في أسبوع؟!!
فتوسط لي عنده العلامة الشيخ سيبويه صاحب البرنامج الإذاعي الذائع الصيت في القراءة وأشعره بأن الغرض إجازة للبركة.
وظل الشيخ في هدوئه يردد يحضر معنا، ويكون «إن شاء الله خير»
فلما رأى الإلحاح مني، ومن الشيخ سيبويه، وثب كالهزبر، وصاح بأعلى صوته: «ما ينفعش يا ابني، دا العلم أمانة».
فتضاءلت إلى مادون عظمي، وليس ذلك لمجرد خجلي، بل إعجابًا بعلم الرجل، ودينه وأمانته. ولو كنت على كرسيه لجاملت، لأن الحياء أحيانًا يغلبني في أشياء غير شنيعة، وتلك خصلة ذميمة لأنه لاحياء في الحق..
ولما أحس الشيخ بتضائلي بنور بصيرته باسطني في الحديث، ووعدني أن يتفرغ لي بشرط أن ألازمه أشهرًا منجمة حسب ظروفي خلال العام أو الأعوام.
وشطحت شطحة عظيمة إذ أردت طلب القراءة على مثل الشيخ الزيات، وكأنه قد غاب عن ذهني أن قراءتي قراءة العوام في نجد قبل جيل الصحوة. «وعامة العلماء، وطلاب العلم كانت قراءتهم قراءة العوام».
وإلى لقاءٍ، مع مسامرةٍ آخرى، والله المستعان، وعليه الاتِّكال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى