
إنّ ما بثّه الشيخ المقرمي في حياته_ رحمه الله_ يحتاج إلى تسليط ضوء واسع من زوايا كثيرة؛ فأنا أعتقد أنّ الشيخ موفّق أيّما توفيق، نحسبه كذلك والله حسيبه ولا نزكّي على الله أحدًا. ومع ذلك، يفاجئك الأمر حين تتعمّق في معاني كلامه؛ إذ يبدو _لأول وهلة_ أنّ ما يقوله قد يستطيع أيّ لسانٍ الإتيان به، ولكن الحقيقة أنّ الشيخ لم يكن يتحدث بلسانٍ مجرد كما نتحدث نحن، بل كان يتكلم من مشكاةٍ أخرى!
وسبحان الله… كيف فتح الله عليه هذا الفتح؟ ولعمري، لم يكن ذلك إلا لأنه صحب القرآن محبةً في القرآن؛ صحبه ليتخذه صاحبًا وأنيساً وحبيباً! فالناس أنفسهم إذا أحبّوا بشرًا مثلهم، تجدهم يثبتون صدق محبتهم بالملازمة في الشدة والرخاء، وبقبول محاسن المحبوب ومساوئه، كما هو واقع الحياة. فكيف بمن جعل القرآن_ الذي لا محاسن فيه إلا المحاسن_ حبيبَه وصاحبَه منذ اللحظة الأولى؟ أيّ أثرٍ يُتصوّر أن يتركه هذا الكتاب على النفس والحياة؟!
ومن الدروس الكبرى التي مارسها الشيخ على نفسه وطبّقها تطبيقًا حيًا ما جاء في الحديث الشريف: “تركتكم على المحجّة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلاّ هالك”. والشيخ علّق قلبه بالله، وبما قاله، وبما أرسل به رسوله. ومعنى ذلك أنّه جعل الوحي فوق الحزب، وفوق الهوى، وفوق التعصّب، وفوق مقام الشيوخ أنفسهم؛ فصفا معينه من الشوائب كلّها، واجتمعت القلوب كلّها من كافةِ المشارِب على حُبّه!
وإذا تأمّلنا ذلك نجده مراد الرسول ﷺ، وهو خُلقٌ سار عليه أئمة الفقه، ومن ذلك قول بعضهم: “إذا رأيتم قولي يعارض قول الله ورسوله، فاضربوا به عرض الحائط”، أي: لا تعبأوا بقولي، ولا بمكانتي، ولا بما تظنونه عني!
وقد سمعتُ أنّ الشيخ كان يُفعِّل العقل أيّما تفعيل، ويرفض دون تجريح، وينسحب دون تكبّر. ولو كان هذا ديدن المسلمين في فهم الدين والاتباع، لسلّمنا الله من كثير من الخصومات التي توغل الصدور، ولعافانا من التفرق! فالقرآن يجمع كما يجمع الإسلام، ولو اجتمعنا عليه ما افترقنا. لكننا _حين أقبلنا_ كانت هناك شوائب، فلم يصفُ لنا كتاب الله، ولم يُفتح علينا بسببِ الأدران أو الموانع التي ربّما ذكر الشيخ المقرمي أُسَّهَا، ولم يهمِل ما دونَها حسب ما قيل في ظلال بودكاست، والله المستعان.
أمّا طريقته في تدبُّر كتاب، والبحث في أسرارِهِ تُشبِهُ طرَائِقَ الغوّاصين، وأساليب المخترعين، وعبقرية المُستكشفين… فانظر إلى المخترعات العلمية _وهي من كتاب الله الكوني _ عندما يكتشف عالمٌ علمًا جديدًا لم يسبق لأحد أن اكتشفه، أو سنَّ قانونًا لمعرفة أسراره؛ ألا تراه يعمّق فكره وبحثه حتى يمسك بخيط يضيف لهذا الكون بعدًا جديدًا؟!
فإذا كان القرآن كتاب الله الشرعي وصالحًا لكلّ زمانٍ ومكان؛ فهو كذلك كمثل المواد الخام التي خلقها الله، فالناس يستخدمونها ويوظفونها على وفق ما سُخِّرت لهم، ويتفاوتون في الصنعة والتشكيل لاختلاف الأفهام وتعدّد الاحتياجات… مع أنهم يأخذون من معينٍ واحد، كمادّة الحديد مثلًا!
والقرآن المنزل على الخلق دليل البشريّة جمعاء؛ فلو كانت تحتاج إلى كتاب آخر لإفهامهم، لأنزله الله. ولكن الله يعلم أنه يكفيهم في معرفة أنفسهم وتدبير شؤونهم حتى قيام الساعة، وقد أمرهم بالتدبّر فيه كما أمرهم بالتفكّر في الكون…
فكيف خرجت الكيمياء والفيزياء وغيرها من العلوم الدقيقة؟ أوليس أوّلًا فضل الله، ثم إعمال العقل وتقليبه والبحث فيما ينفع الدنيا؟! أفلا يجدر _مع قراءة التفاسير_ أن نتعمّق في كلام الله لهداية الأرواح كحرصنا على أمور دنيانا؟! أوليس الله خلقنا لعبادته؟!
فكيف إذن نجعل النصيب الأكبر من الوقت والجهد والتفكير لغير كتاب الله ولهذهِ الدنيا الفانية؟! ألا يحسن بنا أن نعود… وأن ندرك الهدف الأول لوجودنا؟!
وإنّهُ لمّا كانت الأرواح سرّ الله في خلقه، والبشر عاجزون عن معرفتها بالمطلق؛ كان ولابدّ من معين يغذّي الأرواح من الله نفسه… والقرآن كلامُ الله نفسه. ولتفهّم معنى ذلك_ وخاصة في الأسطر الأخيرة_ أوصي بمشاهدة محاضرة البروفيسور جيفري لانج؛ فقد وفِّق أيّما توفيق في الكشف عن سرّ من أسرار القرآن والكون، ربما لم يُسبق إليه.
وعند التأمّل في صحبة الشيخ للقرآن تصيبنا الحسرة؛ فالواحد منّا يمكث الساعات على الجوال، وفي المجالس، وفي طوابير الطعام، وفي متابعة المباريات… ولا يتأفّف حتى يبلغ غرضه! لكننا حين نفتح القرآن لا نمنح أنفسنا هذا الصبر، ومع ذلك نطلب أثرًا في القلب، وأن يكون القرآن ربيعًا لأرواحنا! وكيف ننتظر هذا الأثر، ولا عذر يمنعنا من التلاوة أصلًا؟ نحن نقرأ والذهن يتقلّب في الدنيا، لا ندري ما نقرأ، ولا نعظّم ما بين أيدينا!
وقد ذكّرني هذا بتدبّر الدكتور محمد الأمين إسماعيل السوداني؛ حين قال: ليس ثمّة عذر! فالله تعالى _في آخر سورة المزّمّل_ عرض أحوال المريض، والمشغول، والمجاهد… ثم عقب في كل موضع بقوله: “فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ”. وكل عذر نختلقه في الحياة ستجده دونها وتحتها؛ فما هو عذرنا؟!
ولقد حدث لي موقفٌ مشابه مع الشيخ الحذيفي _حفظه الله_ حين جئت يومًا مبحوحًا لا أكاد أُسمِع القريب، فأشرت إليه أنّني متعب، ولا أستطيع إبلاغ السامع، فقال الشيخ: “اقرأ… والقرآن سيشفيك.” والغريب أن الشيخ لم يطلب مني إعادة القراءة ولا من غيري! وهكذا هم _وأمثال الشيخ المقرمي رحمه الله_ قدوات لنا، نحسبهم كذلك والله حسيبهم، ولا نُزكّي على الله أحدًا.
وأخيرًا لا أقول إلا سبحان الله: “ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء”.
فلا أحسب الشيخ إلا صادقًا حين قال: “وأنا لي نصيب ورزق من هذا الكتاب”. وقد صدق، والله لا يخلف وعده. فأعطاه الله قسمه ونصيبه ورزقه منه… ونحن على ذلك شهود. وكانت قسمته من القرآن فريدة… وخاصّة به، وأعتبره مدرسة في هذا الباب، وكأنّه كان إذا أقبل على القرآن قال في نفسه: لا أريد أن أقول قولة ابن تيمية رحمه الله: “ندمتُ على تضييع أكثر أوقاتي في غير معاني القرآن.” مع ما كان يشغله شيخ الإسلام في العلم والجهاد والهمم الكبيرة، وحين تتأمّل في غلبة حديث الشيخ ودورانه حول القرآن، وكثرة استدلاله به، حتى أسموه بالقلب القرآني، تعرف عِظَم الأمنيّة التي تمنّاها سفيان الثوري رحمه الله — مع مكانته في العلم — حين قال: “ليتني اقتصرتُ على القرآن”.
وواسفاه على حالنا! أين نحن؟ نحن في تلك الكلمات الثلاث التي تُقال في المثل الشعبي: “شِين وقوّي عين.” لدينا الجرأة على طلب الأثر من بركة القرآن ورزقه وهدايته وشفائه وأسراره وحِكمه… ونحن لا نريده صدقًا — والله — فسلوكياتنا في التوجّه للقرآن كسولة، بطيئة، كسير السلحفاة… هذا إن لم تكن متوقّفة عن السير إليه أصلًا !
