
شُغِل الناسُ خلال الأيام الماضية بمناظرة (محمد وآدم)، وقد أطلا على وسائل التواصل الرقميّ، بل على العالم، كلٌّ من شُرفته. فأقبل هذا منافحا عن لغته “أدبا وميراثا وفنا”، وانبرى الآخر مبشّرا بالثقافة الغربية، رسولا منها داعية إليها. ومع ما صاحب هذه الموقعة من احتفاءٍ وقبول في ذائقة الناس، كونها جاءت على غير وفاق مع تيارات التفاهة التي تسربت إلى كل شيء، برزت إلى ذهني _ مع حفظِ المنزلة_ المناظرةُ الشهيرةُ التي جرت بين الإمامين العلمين ابن حزمٍ وأبي الوليد الباجي في الأندلس، فحين ظهر الإمامُ ابن حزم على صاحبه، قال الإمامُ الباجي: (اعذرني، فقد طلبتُ العلم على سرج الحراس)، فرد الإمام ابن حزم: (أما أنا فقد طلبتُ العلم على منابر الذهب)! حينئذٍ انبعث في ذهني سؤال.. أين طلب آدم المعرفة؟ وكيف؟ ولم؟
لم يفتني وأنا أتابع المناظرة أنّ الذي تفوّه به الطفلان؛ هو مما أٌلقي في روعهما نزولا على شرط المسابقة، ولكن موضوع الحديث يتصل بسبب وثيق بالمعارك الفكرية التي دارت رحاها في القرن المنصرم، صولات وجولات شغلت الفضاء الثقافي في العالم العربي مشرقا ومغربا، على عهد الشيخ محمد عبده ومصطفى صادق الرافعي ومحمود شاكر وفرح أنطوان وسلامة موسى وطه حسين وغيرهم، وما ابتعد عن الحقيقة من قال إن هذه الموجة قد بدأت في إثر البعثات التعليمية إلى باريس، وما لحقها من متغيّرات ما برحت تفعل فعلها في البنية المعرفية في مصر، ثم كانت فصلا جديدا في تاريخ الأمة المعاصر، فيما اصطُلح عليه بالمعركة بين القديم والحديث.
ليس من المعيب أن يسترشد الإنسان بميراث الأمم وتجاربها ليعزز ذاته الحضارية، فمن أسباب النهضة ما يَذهل أهلُ الفكر والإصلاح عن إدراكها بالكُليّة، فضلا عن اقتحام مغاليقها، إلا بإمعان النظر في السياقات الثقافية المتنوعة، “فالحكمة ضالة المؤمن”، والتاريخ كما يقال “مدونة يربي الله تعالى بها الخلق”.
يعزز هذا المذهب ما أجده في نفسي، وهو أن الأفكار الدافعة لحركة التاريخ الإنسانيّ، تتحد في أصلها، وأن ما تقلّب فيه الأقدمون، وما نراه اليوم في واقعنا، يعود إلى منهل واحد تفرعت عنه أفهام الناس ومذاهبهم وتحيزاتهم. والسؤال عن مفتاح هذه الحركة؛ يستصحب بالضرورة الحديث عن “المنهج”، المفهوم الذي لم يمنح حقه من النقاش والبحث والتداول في أحاديث النخب وفي الإعلام والمؤسسات التعليمية والثقافية، ولا غنىً عن التعريج عليه لنخلُص إلى بيان مناط البحث: كيف يرى آدم العالم؟ (آدم النموذج لا الطفل).
في لقاء ثريٍّ، وصف الدكتور عبدُ الله البريدي، الفيلسوفَ البارزَ عبد الوهاب المسيري بأنه ينتمي إلى المستوى الثالث من المفكّرين، ومما قال: “إن أهل المستوى الأوّل هم أولئك الذين يبحثون التحدّيات بشكل سطحي، عبر تشخيص سريع، وفي قالب يخلو من الدقّة وهو الغالب على الكتاب الصحفيين، أمّا أهل المستوى الثاني فلا يفكّرون في المشاكل، إنّما في طريقة التفكير فيها، عبر سؤال: أيّ المناهج أمثل لحل هذه المشكلات وهم الأكاديميون وما في حكمهم، أمّا مفكرو المستوى الثالث، فهم أولئك الذين يفكّرون في طريقة التفكير التي يفكّر بها أهل المستوى الثاني. هم معنيّون بطرائق التفكير، فيقدّمون مناهج جديدة، ويعالجون السلبيّ والضعيف والسطحيّ من القديم، وهم قلة، ولا يلتفتون إلى التعقيدات الأكاديمية، بل يصنعون المصطلحات ويُنشئون المفاهيم العميقة، فيصير المصطلح أو المفهوم الذي ينتجونه أداة مستقلة للتفكير، ولهم براعة في تفتيت التعقيد، والنفاذ إلى الحقائق، ثمّ العودة إلى البساطة، لذلك فإن لغتهم في التعبير عن الأفكار سلسة ومنقادة، نظرا لأنهم بلغوا الحقيقة، فسُهل عليهم الحديث عنها”.
وفي كتابه “مفكرون صنعوا ثقافة المعرفة”، يقول الدكتور عز الدين أبو التمن: “المنهجُ العلميُّ هو أسلوبُ العالِم في بحثه عن المعرفة. والمنهجُ العلميُّ في جوهره بسيطٌ غايةَ البساطة، فهو يقوم على الملاحظةِ الدقيقةِ لظاهرةٍ أو مجموعةٍ من الظواهر، لكي ينتهيَ من ذلك إلى وصفٍ دقيقٍ للشروط التي تحكم ظهورَ هذه الظواهر أو اختلافَها”. ويضيف: “البحثُ عن نظريةٍ عامة؛ هو طريقةُ البحثِ العلمي عند الإنسان؛ فمن دون النظريات الشمولية يصبح العلمُ مجردَ تراكمِ معارفَ أو معلوماتٍ لا ربطَ بينها”.
أصاب المحزّ من قال إن تاريخ المعرفة والفكر، هو (تاريخ المناهج)، فالعلوم والمعارف باعتبارها إنسانية المنشأ والحركة، في تفاعل دائم مع ما يطرأ على الإنسان من تغيير تفرضه الوقائع، لذا ما كان البحثُ في فلسفة المنهج ترفا معرفيا موقوفا على الإصلاحيين، بل هو حتمية تصنعها الحياة وتدفعها حيرة الإنسان ومحاولاته الدائمة في ترسيم علاقته بنفسه وبغيره وبالعالم، وبذلك فإن تتبع الأزمات والتحولات منذ فجر التاريخ، ليس قراءة في تاريخ الفكر، إنما هو قراءة في أزمات منهجية عصفت بالأمم، وبعد ذلك تشكل الفكر، واكتُشفت المعارف، وقد قيل “إن العالم لا يُرى بلا عين، كذلك لا تُرى الحقيقة بلا منهج”، فالأفكار والمعارف تتوالد وتتراكم، أما المناهج فتبني أو تهدم.
أشير هنا إلى لحظات منهجية كبرى واجهت ثلاث حضارات هي الأقوى في زمنها، (اليونانية، الإسلامية، الغربية الحديثة). فقد جاءت لحظة سقراط وأفلاطون ومن ثم أرسطو؛ رد فعل طبيعي على ما انتهى إليه السفسطائيون من منهج يعتمد نسبية الحقيقة والخطابة في الاقناع والجدل دون الدليل والبرهان، مما أدخل العقل اليوناني في هُوّة عظيمة كانت وقودا لميلاد المنطق البرهاني، للخروج من فوضى سقوط المعيار.
وفي التاريخ الإسلامي، ساهمت الفتوحات واتساع البلدان وعوامل أخرى استدعت صراعا مع المركز (مكة والمدينة)؛ في ظهور تفاوت واختلاف، دلّ عليه قولُ “ربيعة الرأي” حين سأله أبو جعفر المنصور: كيف رأيت العراق وأهلها؟ فقال: “رأيت قومًا حلالنا حرامهم وحرامنا حلالهم، وتركت بها أكثر من أربعين ألفًا يكيدون هذا الدين”، وقال: “كأنّ النبي الذي بُعِثَ إلينا غير الذي بعث إليهم”.
تلك الأزمة هي التي استدعت ظهور الإمام محمد بن إدريس الشافعي، الرجل الذي جمع علوم عصره واستوعب تحدياته، ما دفع بعبد الرحمن المهدي أن يطلب منه أن يدوّن “رسالة” يوضح فيها طرق البيان، ومعايير الاحتجاج بها ومسائل أخرى تمثل لحظة ميلاد أصول الفقه.
واللحظة الثالثة التي أسوقها هنا، هي أحداث مايو عام 1968 في فرنسا، التي اجتاحت المؤسسات التعليمية والعمالية، وتسببت في شلل كامل في الاقتصاد الفرنسي وفرار شارل ديغول إلى ألمانيا، وما تضمنها من شعارات منددة بالرأسمالية والسياسات الأمريكية والأنظمة التعليمية والاجتماعية (الأسرة، القانون، السلطة المجتمعية، المناهج التعليمية كونها معبرة عن وجهة نظر السلطات).. فحين توجّه هذا الحدثُ إلى الهدم دون البناء، والصراخ دون النظر، وعمد المحتجّون إلى إسقاط المعايير، دون معمار منهجي جديد، أدّى ذلك بالعديد من الثوار الذين أصبحوا فيما بعد أساتذة وشخصيات ثقافية، إلى أن يكونوا من أُطلق عليهم “راديكاليّو المنهج”، وكان أساس مشروعهم في المعرفة والثقافة والسياسة والأدب، تقديس المناهج بصورة صارمة، مما حدا بالبنيويّ البارز “تزيفيتان تودوروف” بأن يصدر كتابه المهم “الأدب في خطر”، محذرا من أن تقديس المناهج النقدية الحديثة جعل من الأدب جثة هامدة.
من مثالب ثورة الاتصال الرقمي أنها روّجت لجماعات صارت ملء السمع والبصر، مشروعهم الأوحد هو أن تتجاوز هذه الأمة لغتها وأدبها وميراثها وثوابتها، إذا أرادت أن تنفض عنها واقعها الذي تنكب نهج التقدم، وفي الحقيقة؛ إن واحدا من هؤلاء لم يأتِ بمنهج يؤصّل فكرته هذه، بل لم ينبس أحدهم ببنت شفة حول القضية الكبرى حسب رأيي وهي (الشرعية والمشروعية)، وأن الأمة غارقة في أزمة دستورية منذ قرون خلت، وهو حديث مسيس الصلة بفلسفة الحكم أي بالمنهج، لذلك فإن كل دعوة تطل برأسها حول عدم جدوى “الأدب العربي ومناهج دراسته، وإجماع الأمة حول النصوص التأسيسية، والميراث الفكري والسياسي والمعرفة الإنسانية الإسلامية”، هي والعدم سواءٌ عندي، إلا إذا عززها نظام شامل يصنع المعرفة وينتج وعيا عميقا، يشقّ الفضاء نحو تقدمٍ رشيدٍ وتفوقٍ حضاريٍّ في الفكر والمادة معا.
