
هذا العنوان مستوحى من قصيدة “تونس” للشاعر محمد مهدي الجواهري. وهي إحدى حربيات الجواهري (قصائد الحرب) التي كتبها عام 1943 وأرخت لمعارك شمال إفريقيا في الحرب العالمية الثانية، ومطلعها (( رِدي يا خيول الله منهلكِ العذبا .. ويا شرق عد للغرب فاقتحم الغربا)). والقصيدة من البحر الطويل. والعجيب في هذه القصيدة ما احتوته من مضامين وتجليات واستشرافات ليست ببعيدة ولا غريبة على أبرز فحول الشعر في القرن العشرين، حتى إن القارئ ليستشعر معها أن الشاعر ينطق بلسان رئيه من الجن!
هذا المقال موجه لذوي الأفهام والعقول، وأصحاب القرار والسلطة ممن لهم بصيرة، وهي في ذات الوقت زفرة لا أخفي أنني أتوق لإخراجها منذ سنين. فالأمم الحية لا ترضى لنفسها هذا المنقلب الذي نحن فيه اليوم، خصوصاً وهي تفتش كل يوم في دفاتر الماضي التليد فتعيد اجتراره دون القيام بأدنى جهد لمحاولة بعثه وإحيائه. ولنا في الصين التي عاشت قرناً كاملا من الإذلال عبرة وعظة، حيث استغلت الفرصة وعملت بجد ووعي جمعي فريد، وها هي اليوم تبرز قوة عظمى من جديد، مستلهمة من ماضيها التليد ما جعلها تنبذ عن نفسها استمراء العبودية والذل، فهل من معتبر؟
السؤال الأول: من نحن؟
الإجابة على هذا السؤال من شقين، الأول مكاني وهو أننا في التيه، كالقطيع بلا راعٍ. فرغم أننا نمتلك موارد مادية وبشرية والأهم قيمية، إلا أنها إما معطلة أو مهدورة وخصوصاً البشرية والقيمية. فالمادة مثلا لم تكن يوما ما معضلة في طريق الحضارة بل أداة في يد المورد البشري وهو نفسه الحامل والمنتج والمشغل للمورد الفكري. إذن فالمورد البشري هنا هو القيمة الحقيقية بعد المورد القيمي (وأعني به هنا بالنسبة لنا الاسلام كشريعة ومنهج، ولغيرنا ما يؤمنون به من مبادئ وضعية أو ديانات أخرى). وهنا كذلك تبرز الصين من جديد حيث الوفرة في المورد البشري، والتي ظن الكثير أنها نقطة ضعف الصين فإذا بها في الحقيقة نقطة قوتها ومنها انطلقت لتحيي حضارتها.
وبالرجوع الى معضلتنا، فإن الغرب لم ينل منا يوماً عندما نهب خيراتنا كالنفط وغيره كما نال منا عندما نجح في تهميش العامل البشري وإخراجه من الخدمة ليضمن ديمومة سباتنا الحضاري. ونال منا أكثر عندما سلب فلذات أكباد هذه الأمة باحتضانه لها: في بريطانيا وحدها يوجد تقريبا وعلى سبيل المثال 300 أكاديمي عراقي (من العراق وحده وفي بريطانيا فقط) ناهيك عن المهندسين والأطباء والمفكرين والفنانين والأدباء خارج الحرم الجامعي .. فقس على ذلك.
وأضرب لك مثالاً على محورية العنصر البشري: ففي العراق أيضاً بعد حرب عام 1991، قصفت قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة العراق بغية تدميره تدميرا مقصوداً منه إرجاعه الى عصر ما قبل الصناعة، وفرضت عليه حصاراً لم يسبق له مثيل لضمان عدم نهوضه من جديد ولكي يكون عبرة لغيره. لكن العراق رغم كل ذلك كان يمتلك وفرة في المورد البشري العضوي والفعال في جميع المجالات، وبالاعتماد عليهم نجح العراق في بناء كل ما تم تدميره من منشات وجسور بخبرات محلية فقط وبفترة قياسية. وبهذا ثبت لدينا أهمية الاستثمار الفعال في العامل البشري.
ولذلك السبب بالذات فقد تم استهداف العلماء بعد احتلال العراق عام 2003 وتم اغتيال المئات منهم بجرائم منظمة مروعة استهدفت العقل العراقي بغية تصحيره وتهميشه، فقُتل من قُتل وفر من فر الى المنافي، فهل من معتبر؟
إذن فنحن نعاني من شحة في العنصر البشري العضوي، وهو العنصر المستنير الذي يقلص السلبيات ويضخم الإيجابيات، والذي يساهم في البناء لا الهدم وفوق كل هذا يعرف بالضبط ما نحتاج اليه ويعمل على تلبيته: عضوي مستنير راشد ومرشد .. فكم نملك من هذه الفئة، وأين نجدها؟
السؤال الثاني: أين نحن؟
إن صناعة النهضة تتطلب تخطيطاً مدروساً للاستثمار الاستراتيجي في العامل البشري، والغاية بناء ذلك العامل أو المورد بناءاً فكرياً وعقائدياً وأخلاقياً ومهنياً بطريقة تُحوله لذلك العنصر العضوي الذي ذكرناه انفاً. وبالتالي فإنه يصبح مثل البطارية التي تغذي الماكنة بالطاقة. لكن هذا الأمر يحتاج الى وقت .. لا يقل عن أربعين سنة لإنشاء جيل واحد، وظروف ملائمة تسمح ببناء ذلك الجيل دون عراقيل كالحروب والأزمات الاقتصادية. وهذا ما سيأخذنا الى الخطوة الرديفة لخطة الاستثمار، وهي القراءة الصحيحة للمشهد بغية العثور على الفرص واستغلالها. فقد يكون الحل مقدماً على طبق من ذهب في فرصة نادرة، والفرص لا تأتي كل يوم. وهنا مثال اخر من الصين كذلك وهو أن التغيير في الصين أتى على طبق من ذهب عبر كيسنجر (عدو الأمس واليوم) يوم قررت الولايات المتحدة التقرب الى الصين والانفتاح عليها بغية اقناعها بترك التحالف مع الاتحاد السوفياتي، وكانت تلك الزيارة عام 1971. ومن هنا استغلت الصين انشغال الولايات المتحدة بحروب الهيمنة وظلت تعمل بصمت حتى حققت أهدافها وهي اليوم تجني ثمار تلك الفرصة، فهل من معتبر؟
إن الفرصة التي تنتظرنا بصمت تكمن في تلك الفئة من الأكاديميين والمفكرين والباحثين والأطباء وغيرهم (من المسلمين) الذين تحتضنهم الدول الغربية، وأعدادهم تقدر بالالاف. وحال تلك الفئة كحال موسى يوم كان في كنف فرعون. هؤلاء في بيئة مستقرة، حصلوا على تعليم متقدم، عاشوا في مجتمع متحضر منفتح اختلطت فيه ثقافتهم الأم بثقافات الغرب وتلاقحت معها فعرفوا عن يقين محصته التجربة العملية قيمة دينهم وثقافتهم، وأدركوا كذلك انتمائهم لأوطانهم وأهليهم إنتماءاً حقيقياً ومخلصاً. ونحن هنا نتكلم عن النوع لا الكم، فما بالك بكليهما، وقس على ذلك.
السؤال الثالث: ماذا وكيف؟
في اواخر القرن السادس عشر قامت الملكة اليزابيث الأولى بالخطوة التي ساهمت بشكل كبير في تحويل انجلترا الى قوة عظمى بعد أن كانت دولة ضعيفة تخشى جيرانها الأقوياء فرنسا واسبانيا. تلك الخطوة كانت استقدام الاف الحرفيين والصناع المهرة وذوي الخبرة والأدباء والمفكرين من أوربا الى انجلترا. والذي أغرى هؤلاء بالانتقال الى انجلترا هو أن أغلبهم كانوا من البروتستانت المضطهدين في بلادهم من قبل الكاثوليك، فاستغلت انجلترا البروتستانتية هذه النقطة وفتحت لهم أبوابها وقدمت لهم إعفاءات ضريبية ومنحتهم مساحة من الحرية الدينية، وهذا ما أغرى كذلك بعض الكاثوليك للانتقال الى انجلترا كونها بلد يتعايش به كل من الطائفتين دون اضطهاد إحداهما للاخرى.
وبالعودة الى الحالة المعاصرة، فإن قرب أفول نجم الحضارة الغربية اليوم بل وسقوطها الأخلاقي والذي ستسقط معه كل المبادئ التي دافع عنها الغرب لعقود طويلة كالمادية الاخلاقية وحقوق الانسان وكلها مبادئ وضعية مفروضة، يرجع بالأساس الى تصدع القواعد التي قامت عليها الحضارة الغربية. والسبب هو ان تلك المبادئ لا تمتلك مناعة طبيعية ضد الأمراض الحضارية المستعصية كالجهل والظلم والفقر. بمعنى أنه متى ما بدأت تلك الامراض بالتغلغل في جسد المجتمع الغربي تجده يتخلى وبسرعة غير اعتيادية عن تلك المبادئ. ومن الاثار الواضحة الصعود السريع لليمين المتطرف وتبني سياسات معاداة الهجرة وتحول الجامعات الغربية الى مؤسسات تجارية، زيادة الضرائب والتضخم وغير ذلك وكل هذا وقع مع أول وعكة اقتصادية! وهذا يعني أن المادية كانت القاعدة الحضارية للغرب منذ الاستعمار والى يومنا هذا. وهذا يشبه الى حد كبير أولئك الذين كانوا يصنعون لأنفسهم الهة من التمر يعبدونها حتى إذا جاعوا أكلوها.
إن الفراغ الوجودي للقيم هو ما دفع الغرب لتبني مبادئ وضعية ابتكرها لكي تكون إطاراً أخلاقياً للحضارة المادية التي قامت على قتل الشعوب ونهب ثرواتهم بكل همجية. وقد يبدو هذا للوهلة الأولى نجاحاً حضاريا للغرب، لكنه في الحقيقة كان مرهوناً بأمرين هما ضمان التفوق المادي للغرب وضمان التخلف المادي والبشري والفكري للشرق وخصوصاً الدول الإسلامية والعمل على تكريس حالة التخلف. وقد استفاد الغرب كثيراً من هجرة العقول العربية والاسلامية، وكان يراد لتلك العقول أن تنسلخ من هويتها. لكن ما يؤكد تفوق الحضارة القيمية على المادية هو أن المسلمين في الغرب تمسكوا بهويتهم أكثر بل وأثروا فيمن حولهم تأثيراً ايجابياً واضحاً. ومع ذلك فانا لا أحاول هنا أن أخلق هالة من الكمال حول بهذه الفئة. وذلك لأن كثيراً من أفرادها سقطوا في فخ المادية وأغرتهم مظاهر الحضارة الغربية المزيفة، بالضبط مثلما يُراد لنا أن نستبدل القيمة بالمادة في أوطاننا، ونتحول بذلك الى عناصر استهلاكية لا عضوية. وللأسف هو ما عليه الواقع اليوم في بعض الدول.
وقد يستغرب القارئ القول بأن نجم الحضارة الغربية بدأ بالزوال، لكن من يعيش في الغرب ويقرأ الوضع قراءة دقيقة يوقن بذلك. فالحضارة الغربية تعتمد اعتماداً شبه كامل على قوة الاقتصاد، وعندما كان الاقتصاد قويا كان الاهتمام بالمورد البشري جيداً. أما اليوم فإن الركود الاقتصادي كشف ضعف الحضارة المادية وزيفها.. فالحضارات تبنى أولاً بالأخلاق والقيم ومنها ينبثق كل شيء اخر كالتطور المادي وغيره. إن منظومة الأخلاق والقيم في الغرب ضعيفة لأنها وضعية من صنع البشر وهي مرهونة بعوامل أخرى كالرخاء الاقتصادي واحترام القانون وتقدم المنظومة التعليمية.. ولكن تبقى منظومة القيم هي القاعدة واذا كانت القاعدة ضعيفة فما يبنى عليها ضعيف. لذلك فإن الغرب غير قادر على الوقوف بوجه أزمات كبيرة كالحروب والأزمات الاقتصادية رغم أنه يبدو للناظر خلاف ذلك.
أما عندنا فالحال عكس ذلك. فقد مر على المنطقة العربية، مثلاً، من الأزمات والحروب والصراعات ما لو مر عُشره على الغرب لأصبح أثراً بعد عين. خذ على سبيل المثال العراق وسوريا واليمن .. بل وحتى مصر، ناهيك عن فلسطين وما جرى لغزة. حيث أن الأخيرة عانت من عملية تدمير ممنهجة للعاملين المادي والبشري. أما عامل القيم وأقصد به هنا الدين، فرغم محاولاتهم تدميره هو الاخر لكنهم لم ينجحوا. ولأنهم لم ينجحوا في تدميره فإنهم بذلك فشلوا فشلاً ذريعاً لأن القاعدة ظلت سليمة، لذا لا يهم ما يتم تدميره فوقها فطالما أنها ما زالت قائمة فإن ما فوقها سيعود بلا شك أقوى وأفضل من ذي قبل. وهذا ما يفسر أصل الصراع وأسبابه وجذوره، وهو إدراك الغرب لتلك الحقيقة ورعبه الشديد منها. إن الغرب يحسدنا على نعمة الإيمان حسداً عظيماً.. وهو بالمناسبة أحد مخرجات محنة غزة: فقد كان الغرب يتابع ما يجري في غزة ويتعجب ويتسائل كيف ومن أين يأتي هذا الصمود الأسطوري.. وكان الجواب هو الإيمان.
اليوم وفي ظل هذا التدهور الاقتصادي يشهد الغرب هجرة لرأس المال والأهم هجرة العقول من الأكاديميين. لكن ما يجب أن نهتم به ليس هجرة العقول الغربية بل هجرة العقول العربية والاسلامية من الغرب، وانا أقول لك لماذا.
إننا في هذه المرحلة لسنا بحاجة الى صانعي مفاتيح بل فاتحي أقفال. فالأكاديمي الأجنبي الأشقر صاحب العيون الزرقاء صانع مفاتيح.. لا أكثر.. وهو لا يتعدى هذا القدر عندما تأتي به ليعلمك، فلا تنتظر منه أن يكون مخلصاً لك. أما الأكاديمي المسلم الذي يأتيك من الغرب فهو صانع مفاتيح تفتح الأقفال والأبواب المغلقة. وذلك لأن الكثيرين منهم في الغرب عاشوا تجربة فريدة من نوعها ونادرة جداً أكسبتهم وعياً وبصيرة وأيقظت فيهم روح الانتماء. هذه التجربة صقلت فيهم عامل القيم فأبرزته، لذلك هم يشعرون بالانتماء لثقافتهم أكثر ممن لم يخض تجربتهم من أبناء جلدتهم. وهم بهذا يجمعون بين امتلاك المهارات والأدوات والخبرة والعلم وبين الرؤية والبصيرة، وهم الأقدر على بناء العاملين البشري والمادي وفق ما يصلح لعامل القيم، وبذلك تعود عجلة الحضارة الى الدوران.
وكما أن كثيراً من مفاهيم الغرب وأساليبه لا تصلح لنا بل وأحياناً لا تصلح بتاتاً ولكنها معممة بل ومفروضة عالمياً كمفاهيم حقوق الانسان بثوبها الغربي والتي يُراد منا قبولها، فإن كثيراً من مفاهيمهم في التعليم، على سبيل المثال، لا تصلح لنا هي الأخرى. انا أعمل في جامعة بريطانية مرموقة منذ عقد ونصف تقريباً والى هذه اللحظة أراهم يتخبطون في كثير من الامور التنظيمية والإدارية والتعليمية وبسببها يُهدر المال والوقت والجهد بلا طائل، لكنهم يتمسكون بها. والأعجب أننا نستوردها منهم ونطبقها بحذافيرها معتقدين أنها الأصلح، والمجال هنا لا يتسع لذكر أمثلة ولكن نكتفي بمثال واحد، وهو الاعتماد على التعليم الذاتي المفرط، وبموجبه يتم تسهيل الاختبارات وتحويلها من نظام الامتحان الحضوري الى نظام الاختبار عن طريق كتابة مقال عن بعد وتسليمه في موعد محدد. وهذا أحدث كارثة في جودة التعليم، ولكن الكثير من الجامعات الغربية تتمسك بهذا النظام البائس لأنه يضمن الحصول على المكاسب المادية. ثم نأتي نحن لنطبق هذا النظام الفاشل ليزيدنا فشلاً على فشل. ومع هذا فإننا لا نحذو حذو الغرب في تفعيل دور الأكاديمي كمصلح اجتماعي. ففي الجامعات البريطانية تجد من أهم معايير الترقية العلمية للأكاديمي دوره في المجتمع خارج الحرم الجامعي. وهذا يتضمن إسهاماته في الخدمة المجتمعية سواء من خلال العمل التطوعي او البحوث او المحاضرات الخ.
أن الدول العربية والإسلامية اليوم تمتلك مفتاحاً ثميناً من مفاتيح النهضة ألا وهو أولئك النفر من الأكاديميين والمفكرين والمهندسين والأطباء والمعلمين الذين يعملون في الغرب. هؤلاء (وأعني منهم الفئة العضوية) وبدون أدنى مبالغة من يستطيع وبجدارة قلب المعادلة وجعل عجلة النهضة تدور من جديد في رقعتنا الجغرافية.. فهل من معتبر؟
كم مرة تحسرت وانا أنظر الى الطلبة أمامي من جنسيات غربية وشرقية متعددة كالانجليزية والفرنسية والالمانية واليابانية والإسبانية والأمريكية وغيرها.. فأقول في نفسي حبذا لو كان هذا العمر والجهد والعلم في غير هؤلاء .. ثم أستذكر أبيات جبلة بن الأيهم
وياليتني أرعى المخاض بقفرة
وكنتُ أسيراً في ربيعة أو مضر
ويا ليت لي بالشام أدنى معيشة
أجالس قومي ذاهب السمع والبصر
أدين بما دانوا به من شريعة
وقد يصبر العود الكبير على الدبر
إن الأمم والشعوب الحية لا تلفظ أبنائها، ولا تفرط في علمائها ومفكريها ولا تبقي على الطالح دون الصالح وإن فعلت فلا أبقاها الله ولا رفع لها شاناً.. فهل من معتبر؟
