أدب

قراءة في الفصل الأول من كتاب “توشيح البيان” المعَنون بــ: اللغة والبيان

في هذا الفصل الأول، الموسوم بـ اللغة والبيان يصحبنا المؤلف الزبير العبودي في رحلة استكشافية داخل الروح اللغوية؛ إذ تتحول الكلمة إلى فعل والبيانُ إلى موقف أخلاقي، والصمتُ إلى حضور دالّ، والإيجاز إلى نافذة على جوهر الحقيقة، هذه القراءة تتوخى الوقوفَ عند أبرز المحاور الفكرية والجمالية التي استعرضها المؤلف، محاولةً استيعابَ رؤيته، والإضاءة على نقاط القوة في نصه، مع تقديم بعض الملاحظات التأملية التي قد تساهم في إثراء التجربة القرائية، وتوسيع أفق الفهم لما يعنيه البيان حين يكون أكثر من مجرد لغة!
ففي حضرة البَيان تتجلّى اللغةُ أكثرَ من مجردِ وسيلة، إنها وطنٌ للفكر، وملاذٌ للروح التائهة في زحام الحياة، يراها الكاتبُ كائناً حيّا نابضا بالجلال والسكينة، تحتضن الإنسانَ وتمنحه المعنى حين يضيع، ليست اللغة حروفا صمّاءَ، لكنها أنفاسُ الروح ومرآة الذات، وجسرا تَعبُر عليه الأحاسيسُ من عتمة القلب إلى نور البيان. إنها سكينة العقلِ حين يَضِجُّ العالم، وجلال المعنى حين يسمو فوق المادة، يُدافِع الكاتب عنها كما يدافع العاشق عن حبيبته، لأنها تمنحه الحياةَ، وتمنح الإنسانَ معناه، فهي وطن لا يُغادَرُ، وسماء لا تنطفئ، ورفيق لا يَخذُل، وهكذا تصبح اللغة قدرا وهوية، وجمالًا يُكتَب، وحقّاً يُقال، وحكاية تُرْوى من أعماق القلب!
فالبيان عند المؤلف موقفٌ أخلاقيٌّ ينهض بالمعنى قبل اللفظـ، إنه التزام بالحقيقة ووفاء لها، حيث تتحول الكلمة إلى مسؤولية وجسر بين الذات والعالم، فاللغة الحقّة صفاءٌ في التعبير ونُبلٌ في المقصد، تُقاس بقدرتها على حمل المعنى لا بسطوعها الظاهري، البيان الحق لا يكتفي بإدهاش العين، وإنما يوقظ الوعيَ ويثير الإحساسَ ويلقي على القارئ عبءَ الفهم والمساءلة.
وقد مهّد الجاحظُ لهذا التصور حين جعل المعنى أصلًا واللفظ تابعا، والفصاحةَ في حسن النظم لا الزينة، أما ابن سنان الخفاجي فقد رأى البلاغة إبداعا عقليا؛ حيث يطابق الكلامُ مقتضى الحال ويقنع المتلقي، والسّكّاكّي رغم ميله إلى التصنيف إلا أنّه لم يغفل أن البلاغةَ الحقّةَ هي مراعاةُ المقامِ وحسنُ توجيهِ المعنى، هكذا يستلهم المؤلفُ من هؤلاء الأعلام روح البيان، ليعيده فعلًا لا مجازا، موقفا لا زخرفة؛ إنه بيان يقاوم التزييفَ ويعانق الحقيقةَ، ويُجسِّد التزامَ الكاتب تجاه قارئه وتجاه العالم، فالكلمة حين تُقال بصدق تصبح فعلًا، وحين تُصاغ بوعي تصبح نورا، وحين تحملها روح البيان الحقّ تصبح قدرا من أقدار التغيير!
في نص بلاغة الصمت يستحضر الكاتب الصمتَ بوصفه حضورا للمعنى، وفضاء تتجلّى فيه الحكمة، فهو لا ينظر إلى الصمت كفراغ، بل كقيمة دلالية وجمالية، تفيض بالمعاني حين يعجز اللفظ عن التعبير، وتسمو بالإنسان فوق ضجيج القول العقيم، يعالج الكاتب في نصّه ظاهرةَ الإفراط في الكلام، حيث يُكثر البعض من الحديث دون طائل، فيغدو الكلام عبئا لا يحمل فائدة ولا طائلَ يُرجى منه؛ يبعثر المعنى ويشوّش الفهمَ، في مقابل ذلك يقدّم الصمتَ كخيار راقٍ لا يلجأ إليه العاجز عن التعبير، بل الحكيم الذي يدرك أنَّ لكل مقام مقالٌ، وأن الصمتَ أحيانًا أبلغ من ألف خطاب، إنه دعوة للتأمل في قيمة الصمت، قوة داخلية تنبع من وعي عميق، وقدرة على الإنصات، وتقدير للحظة المناسبة للكلام، فالصمت في نظر الكاتب ليس نقيضا للكلام، بل شريكه في صناعة المعنى، وميزانا يزن به الإنسان كلماته قبل أن ينطق بها.
وفي نص الإيجاز وصناعة الحقيقة ينسُج الكاتب خيوطَ العلاقة بين المجاز والصفاء الدلالي، مؤكدًا أن المجازَ أداةٌ جوهرية في التعبير، تُضفي على المعنى عمقا وجمالًا، وتفتح للمتلقي نوافذَ تأمُّلٍ تتجاوز ظاهرَ القول، يرى الكاتب أن الإيجاز لا يعني البترَ أو الاختزالَ المخل، بل هو فن التقطير، حيث تُصَفَّى المعاني من شوائب الحشو، وتُقدَّمُ في أبهى حُلَلها، فكلما كان التعبيرُ موجَزا كان أقدرَ على النفاذ إلى لبّ الحقيقة، دون أن يفقد بريقَه أو يتخلى عن جاذبيته. والمجاز في هذا السياق هو الجسر الذي يعبر به المعنى من ضفة الواقع إلى ضفة الإدراك الجمالي، فيُلبِس الحقيقةَ ثوبا من البلاغة، ويمنحها حضورا أكثر إشراقا، فالكاتب البليغ -كما يصوره النص- هو مَن يُحسن تطويعَ المجاز ليكون أداةَ كشف لا حجاباً، ووسيلةَ إيضاح لا إبهام، بهذا يعالج النصُّ مسألةً جوهرية في الكتابة: كيف يمكن للغة أن تكون مُقتضَبَةً دون أن تكون فقيرةً، وكيف يصير المجاز طريقا إلى الحقيقة لا التفافا حولها!
وبكل تقدي لما خطّه يراع الكاتب من فكرٍ وأدب، وبروحٍ مشبعة بالإعجاب والتطلع إلى مزيد من التألق، أود أن أُبدي بعضَ الملاحظات التي أراها جديرة بالتأمل، لا من باب الانتقاص، ولكن من باب المحبة الصادقة والرغبة في الارتقاء بهذا الجهد الأدبي النبيل:
أولى هذه المَلاحِظ: الإهداء، وإن كان عذبا في لغته، صادقا في عاطفته، إلا أن امتدادَه على أكثر من ستة أسطر قد أضعف من أثره الفني؛ إذ الإهداء -بطبيعته ومهما بلغ من الجمال- يُستحب أن يكون مكثَّفا، خاطفا كهمسةٍ أولى تسبق العاصفةَ الإبداعيةَ، لا أن يغدوَ مقدمةً موازيةً للنص.
ثانيها: في إشاراته الأدبية مال الكاتب إلى حصر مرجعياته في أدباء مصر وحدهم دون غيرهم، وهو ما قد يُوحي للقارئ بأن خارطةَ الأدب لا تتعدى حدود النيل، ولعلّ في الانفتاح على تجاربَ أدبية من مشاربَ مختلفةٍ، عربيةٍ وعالميةٍ، ما يُكسبه أفقا أرحبَ، فيتسع حديثُه عن مختلف الأجناس الأدبية كالرواية والقصة بأنواعها والسيرة الذاتية وغيرها من فنون النثر، لا أن يركن إلى أساطين المقالة والنقد في مصر وحدها لا يتعداها، في هذا الانفتاح على الأجناس الأدبية انفتاح على الجغرافيا الأدبية كلها، فلا حيفَ ولا نقصانَ إينئذ.
ثالثُها: أما كثرة الاستشهاد بالأستاذ محمود شاكر على جلال قدره وعلوّ كعبه قَد بدت طاغية على مساحة النص، حتى خُيّل للقارئ أن لا مرجعيةَ سواه، وكان من الأجمل أن تتنوع الأصواتُ المرجعيةُ ليظل النصُّ متوازنا غنيّا بتعدد الرؤى.
وآخرُ هذه المَلاحِظ؛ فإن تضمين الكاتب لقصته الشخصية مع أصدقائه وتشجيعهم له، وإن حمل لمسة إنسانية دافئة إلا أنه بدا أقربَ إلى السيرة الذاتية منه إلى العمل الفكري أو الأدبي، وربما كان من الأجدر أن تُروى هذه التفاصيلُ في مقام آخر، يُناسب طبيعتها الحميمة.
ختاما؛ تبقى هذه الملاحظاتُ محضَ رؤى قارئٍ محبٍّ، يرى في هذا العمل بذوراً واعدة، ويطمح أن يراها تنمو وتزهر في مواسم قادمةٍ من الإبداع والتجديد!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى