
ثمة لحظات في عمر الإنسان تتشكل فيها البذرة الأولى لرحلته مع الوعي، دون أن يدرك حينها أنه يسير نحو مصيره الفكري والروحي. لم أبدأ رحلتي في التعلم الذاتي بقرارٍ واعٍ أو بتخطيطٍ مسبق، بل بدأت فطريًا، كغريزةٍ مزروعة في أعماقي منذ الطفولة، وكأن المعرفة كانت الينبوع الذي أُودع في دمي لأرتوي به ما حييت. كنت أشعر أن في القراءة سرًّا لا يُشبه سائر المتع، وأن الكلمة قادرة على أن تمنح الحياة نكهة أعمق من الواقع ذاته. كانت مجلة (ماجد) هي أول نافذة أطل منها على عالمٍ من الخيال والمعنى؛ كنت أنتظرها كما ينتظر الطفلُ العيد، أترقب صدورها وكأنها وعدٌ بفرحٍ جديد. كنت ألتهمها صفحةً صفحة، أعيش قصصها وأحاور أبطالها وأستخلص من بين السطور دروسًا صغيرةً كانت تنحت في داخلي وعيًا أوليًا بأن وراء كل حكاية فكرة، ووراء كل فكرة حياة كاملة تنتظر من يكتشفها.
ثم جاءت روايات الجيب، فكانت بابًا لعوالم أوسع، ومغامراتٍ تُذكي خيالي وتعلّمني التساؤل. هناك بدأت أولى بوادر التفكير النقدي، إذ لم أعد أكتفي بالسرد، بل أبحث عن المعنى وراءه. كنت أتعلم من تلك القصص أكثر مما كنت أتعلمه من المدرسة، وكنت أشعر أن الكتاب ليس جمادًا بين يدي، بل كائن حيٌّ يحاورني ويستفز عقلي. ومنذ تلك اللحظة لم تعد القراءة ترفًا أو هواية، بل صارت نمطًا وجوديًا، وصار السؤالُ هو المفتاح الذي لا يفارق يدي.
كبرتُ، وكبر معي ذلك العطش الذي لا يُروى، حتى صارت المكتبة عندي وطنًا آخر، وبيتًا روحيًا لا يقل قداسة عن المسجد. كنت أقتني الكتب على مدار الأسبوع، وأزور المكتبة كل يومين تقريبًا، حتى صار أمين المكتبة يمازحني قائلًً: (أنت في كفة، وبقية القراء في كفة)! لم تكن علاقتي بالكتب سطحية، بل علاقة وجدانٍ وارتباطٍ روحي؛ كنت أخاف على كتبي كما يخاف الأب على أبنائه، وأغار عليها من الإعارة الطويلة. كنت أعلّم ما يعجبني بالقلم الرصاص، ثم بالقلم الأحمر، ثم بالألوان المختلفة بحسب نوع الفكرة: وصرت أنقلها إلى دفاتري الخاصة المختارة بعناية وفق ألوانها، فالأحمر للشعر، والأخضر للحكمة، والأزرق للفكرة العميقة، والأسود للاقتباس الطويل. لقد كانت القراءة عندي أشبه بعبادةٍ فكريةٍ، والكتابة طقسًا من طقوس التطهر العقلي. كنت أقرأ وأدوّن وأتأمل، وأعود بعد سنوات لأحاور كلماتي الأولى، فأكتشف أنني كنت أتطور من قارئٍ إلى ناقدٍ، ومن ناقلٍ إلى مشروع مفكرٍ يتأمل ذاته.
كنت أتعلم من نفسي أكثر مما أتعلم من الآخرين ـ هكذا بدا لي الأمر في حينه ـ، وأربّي نفسي بالتأمل أكثر مما يربيني المعلّمون. فالمدرسة أعطتني مفاتيح، لكن المكتبة فتحت لي الأبواب. لقد أيقنت باكرًا أن الفكر لا ينضج إلا بالاحتكاك بالآخر المختلف، فقرأت في الدين والفكر والفلسفة والأدب والتاريخ وعلوم الإنسان، وكنت أستمع إلى أشرطة الكاسيت التي كانت آنذاك نوافذ صوتية للمعرفة. كنت أدوّن خواطر ما أسمع وألقيها في طابور المدرسة أو في المسجد أو في المجالس العامة. كنت أتعلم لأتغير، لا لأتفاخر، وأدركت أن العلم الذي لا يثمر تواضعًا لا يُعوّل عليه، وأن المعرفة التي لا تصحّح ولا تغير صاحبها لا تستحق اسمها.
لقد كانت علاقتي بالكتاب علاقة حوارٍ ثلاثي: بيني وبينه وبين نفسي. كنت أرى في كل صفحةٍ مرآةً للعقل الإنساني، وفي كل فكرةٍ بابًا إلى أسئلة جديدة. ومع مرور الزمن صار التدوين عندي عبادة فكرية منظمة. أجوِّد الدفاتر واختارها بعناية، والأقلام كانت عدتي للقيام بذلك، والألوان لغتي السرية في فهم العالم. كنت أبدأ الجلسة بين كتبي كمن يستعد لصلاة طويلة، أتنقل بين خمسة كتب أو أكثر في اليوم الواحد، من كل زهرة عبير، ومن كل فكرة نور. وإن استبدّ بي كتاب وأعجبني، لا أتركه حتى أستوفي عهدي معه بالوفاء.
وفي رحلتي الفكرية التقيت بمعلمين كبار لم أرَهم وجهًا لوجه، لكنهم تركوا في عقلي وقلبي بصماتٍ لا تُمحى. كان الشيخ محمد متولي الشعراوي أولهم؛ كنت أتابع خواطره بشغفٍ لا ينقطع، وأتعلم منه أن الإيمان لا يعادي العقل، وأن القرآن لا ينضب تأويلا. ومنه تعلمت أن العلم إذا لم يُسق من نبع الإيمان ذوى، وأن الفهم القرآني أوسع من أن يُحبس في حدود المذاهب والمدارس. ثم تعرفت على مالك بن نبي، المفكر الجزائري الفذ، الذي فتح لي باب الوعي الحضاري والفكر الإسلامي الحديث. كانت كتبه في البداية عصيةً على ذهني، لكنني كنت أعود إليها بعد أعوامٍ لأجدها كالماء الزلال. قرأت معظم كتبه، لخّصت الكثير منها، وكنت أجد في كل سطرٍ فكرًا يؤكد أن النهضة تبدأ من داخل الإنسان، لا من خارجه.
ثم جاء الدور على الدكتور عبد الكريم بكار، فوجدت فيه المعلم والمربي والمفكر في آنٍ واحد. قرأت كتبه كلها تقريبًا، وتشربت فكره حتى صار من مفرداتي اليومية. ومن خلاله انفتحت أمامي مكتبة الفكر الإسلامي المعاصر: كتب المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وسلسلة عالم المعرفة، وكتب الأمة، ومجلة المعرفة السعودية، وكتب مركز دراسات الوحدة العربية وغيرها كثير. كنت أشعر أنني أعيش في حضارة فكرية متجددة، وأنني واحد من بنّائيها الصامتين الذين يعمرون العقول لا الجدران.
ومع مطلع الثورة التقنية دخلت عالم الكتب الإلكترونية، فازدادت المسافة اتساعًا بيني وبين الجهل. تعرّفت على الدكتور عبد الوهاب المسيري، والدكتور وليد سيف، وعلي عزت بيجوفيتش، ومحمد عمارة، ومحمد الغزالي، ويوسف القرضاوي، وغيرهم كثير. ومن كل واحدٍ منهم أخذت قبسًا: من المسيري الوعي الحضاري الناقد، ومن بيجوفيتش فلسفة الإيمان، ومن وليد سيف الوعي بالهوية، ومن الغزالي وعمارة روح الدعوة والعقلانية، ومن القرضاوي توازن الفقه والحياة. أدركت أن الفكر بحرٌ واحد، وأن العقول الحرة تلتقي في العمق وإن اختلفت الشواطئ.
ثم جاء طور جديد في رحلتي: طور البحث الأكاديمي، حين خضت تجربة الحصول على درجة الماجستير وأطروحة الدكتوراه. كانت هذه المرحلة ذروة التعلم الذاتي بمعناه الأصيل؛ فقد صرت أنا المعلم والمتعلم معًا. زرت معظم مكتبات صنعاء: مكتبات الجامعات والمراكز العلمية والمكتبات العامة، وبعض المكتبات الشخصية التي تعرفت على أصحابها. كنت أبحث بين الرفوف عن فكرةٍ نادرة أو مرجعٍ غائب كما يبحث المنقّب عن جوهرةٍ في الصحراء. ثم جاءتني فرصة السفر إلى جمهورية مصر العربية لجمع المادة العلمية لرسالة الماجستير، وهناك وجدت نفسي في عرسٍ فكري لا يُنسى. حضرت معرض القاهرة الدولي للكتاب في حينه، وتجولت بين دور النشر كما يتجول العاشق بين الحدائق، وعدت محمَّلا بمئات الكتب والمراجع. زرت الأوزبكية – ذلك العالم العجيب للكتب المستعملة – واشتريت منها ما استطعت حمله. وفي السودان، التي مررت بها في طريقي إلى الهند لتحضير أطروحة الدكتوراه، تعرفت على جامعاتها ومكتباتها، واقتنيت منها كتبًا كثيرة أغنت رسالتي العلمية. أما في الهند، فدخلت على عالم الكتب الإلكترونية بكل طاقته، حمّلت آلاف الكتب باللغتين العربية والإنجليزية، وعدت إلى اليمن محمَّلا بكنزٍ من الورق والإلكترونيات، فيه ما يُغذي الفكر لأعوامٍ طويلة.
وبالعودة إلى تحضيري لرسالة الماجستير لا أنسى ما قدمه لي الأستاذ الدكتور عبد الغني قاسم الشرجبي والأستاذ الدكتور أحمد محمد الدغشي، اللذين أشرفا على رسالة الماجستير، لقد كان لهما دورٌ بالغ الأثر في مسيرتي العلمية والفكرية. لقد كانا بحق منجماً ثرياً من العلوم والمعارف، ومصدر إلهام دائم لكل مفكر يسعى إلى التميز والعمق. ومن خلال متابعتي الدقيقة لتوجيهاتهما وحواراتهما الشائقة التي كنت أعايشها في سطور ردودهما على فصول الدراسة، اكتشفت أن أمامي عالماً من الفكر الرصين والتحليل العميق، حيث لا يقتصر أثرهما على تصحيح الأخطاء أو تقديم الملاحظات، بل يمتد إلى استثارة العقل وتحفيز الروح على استيعاب المعاني الكامنة وراء النصوص والأفكار.
كانت تجربة الإشراف هذه بمثابة رحلة اكتشاف، تعلمت خلالها من أسلوبهما الدقيق في النقد والتحليل، ومن تواضعهما الجم الذي يليق بعظمة الفكر. وجدت في توجيههما مثالًا يحتذى به في التوازن بين الصرامة العلمية والروح الإنسانية، بين التوجيه الدقيق والحرية الفكرية للمتعلم. لقد أضفت هذه التجربة على رحلتي الأكاديمية بعداً جديداً، حيث تعلمت من أسلوبهما وأخلاقهما وسمو شخصيتهما أضعاف ما تعلمته من محتوى فكرهما نفسه.
أما بالنسبة لي، فقد كانت رسالة الماجستير أخصب وأكثر ثراءً من رسالة الدكتوراه، ليس فقط لمستوى المادة العلمية التي عالجتها، بل لتجربة التواصل الحي مع عقلين نيرين، رحيمين، يمنحان الطالب فرصة لا مثيل لها لتذوق متعة التعلم، وفهم عمق البحث، والإحاطة بأدوات التفكير النقدي والتحليلي. لقد شكل إشرافهما بالنسبة لي مدرسة متكاملة للفكر والأخلاق، تجربة أضيء بها دروب العلم وأستلهم منها قيم الاجتهاد والإبداع والسمو الروحي، لتكون هذه الفترة من أغنى اللحظات التي ساهمت في بناء شخصيتي الأكاديمية والإنسانية على حد سواء.
ومن خللً هذا التراكم الهائل من الكتب والتجارب، توسعت دوائر قراءاتي حتى غدت حياةً موازية للحياة. تعرّفت على مفكرين كبار مثل جودت سعيد بدعوته إلى اللاعنف، ولؤي صافي وكتابه (إعمال العقل)، وعماد الدين خليل، وعمر عبيد حسنة، وطه العلواني، وعبد الحميد أبو سليمان، وحسن حنفي، وسعيد إسماعيل علي، وحامد عمار، وطه عبد الرحمن، وعليّ الصلابي، وراشد الغنوشي، ومحمد قطب، وغازي القصيبي، ونجيب الكيلاني، وماجد عرسان الكيلاني، وغيرهم عشرات بل مئات. كما أبحرت في تراث القدامى: ابن خلدون، وابن القيم، وابن الجوزي، وابن تيمية، وأبو حامد الغزالي، وأبو حيان التوحيدي، والحارث المحاسبي، وابن سينا، وابن حيان،
والخوارزمي. قرأت كل أعداد مجلة (المسلم المعاصر) تقريبًا، وعايشت وعشت مع روايات نجيب الكيلاني، ورافقت الدكتور ماجد عرسان الكيلاني في أغلب كتبه، وعرفت من خلالها ماذا يعني أن تطل على الآخر دون أن تفقد هويتك. ومع مرور الزمن تكوّنت لدي مكتبة إلكترونية تزيد عن خمسين ألف كتاب، إلى جانب مكتبة ورقية تضم الآلاف. ومع ذلك، لا يزال الشغف للمعرفة يسكنني كما في أول يومٍ أمسكت فيه مجلة ماجد بيدي الصغيرة.
لقد علمتني هذه الرحلة الطويلة أن التعلم الذاتي ليس مرحلة عابرة في جدول العمر، ولا محطة مؤقتة على طريق المعرفة، بل هو جوهر الوجود الإنساني ذاته، ومعناه العميق. هو نبض الحياة الذي يجدد ذاته في كل لحظة، ومنهج كينونةٍ يسكن الروح قبل أن يستقر في العقل. إنّه تلك النار الخفيّة التي توقظ في الإنسان فضوله، وتدفعه إلى مساءلة نفسه والعالم، وتعيد صياغته من الداخل في عملية مستمرة من التهذيب والترقّي والاكتمال.
لقد أدركت أن التعلم الذاتي لا يقتصر على اكتساب المهارات أو تراكم المعلومات، بل يتجاوز ذلك إلى بناء رؤية كونية متكاملة تجعل الإنسان أكثر وعيًا بمسؤوليته في هذا الوجود، وأكثر إدراكًا لدوره في حمل أمانة الاستخلاف. فكل لحظة تأمل، وكل تجربة عيش، وكل سؤال صادق، هي جزء من هذا التعلم الذي يربّي في الإنسان ملكة الاختيار الواعي، ويحرّره من أسر التقليد، ويفتح أمامه أبواب الحرية والمعنى. التعلم الذاتي هو طريق الاستخلاف الحق، لأنه الطريق الذي يُنضج في الإنسان إنسانيته، ويعلّمه أن العلم ليس زينة فكرية، بل عبادة معرفية، ومسؤولية أخلقًية تجاه الإنسان والحياة. فمن تعلّم ليزداد تواضعًا، فقد اقترب من جوهر الحقيقة، ومن تعلّم ليخدم الإنسان، فقد لمس لبّ الرسالة التي من أجلها وُهب العقل.
وبعد أربعين عامًا من مصاحبة الكتب، والمساءلة، والرحلة بين الأفكار، أدركت أن كل معرفة حقيقية لا تُغلق بابًا، إلا لتفتح أبوابا، بل تفتح نوافذ لا تُحصى من الأسئلة والاحتمالات. وأن التعلم الذاتي لا يُختتم بشهادة، ولا يُقاس بعمر، فهو طريق لا نهاية له، ومسيرة لا تنطفئ ما دام في القلب نبضٌ يسأل، وفي العقل ضوءٌ يبحث، وفي الروح حنينٌ دائم إلى الحقيقة والنور.
إن ما سطّرته هنا ليس إلا ومضة من وهج التجربة، ورذاذًا من بحرٍ لا شاطئ له، وقطرة من نهرٍ ما زال يجري بين منعطفات العمر. فما دام في القلب نبضٌ يتوهّج بالحياة، وفي العقل سؤالٌ لا يهدأ، وفي الروح شوقٌ لا يخبو إلى النور والمعرفة، فإن القلم سيظل يجدّد عهده بالحرف، يفتّش في الذاكرة عن ملمًح الأمس، ويصوغ من نبض اليوم بذور الغد. وما هذه الصفحات إلا إشارات أولى على طريقٍ طويلٍ ما زال يحمل في طيّاته الكثير من الحكايات، والدهشة، والعِبَر التي لم تُروَ بعد.
