العلامة أ. د حسن الشَّافعي
تمهيد:
هذه الورقة تستهدف لفت النظر وتوجيه الاهتمام, على صعيد فكري بحت, إلى حركة ثقافية وفكرية تكاد تعم العالم الإسلامي المعاصر, تعمل على تبني منهج «الهيرمنيوطيقا» الغربي (Hermeneuties) وتطبيقه على القرآن الكريم والنصوص الدينية الإسلامية بوجهٍ عام, مع إغفال تام لأصول التفسير وقوانين التأويل, في تراثنا الإسلامي العربي, للقرآن الكريم وما يتصل به من بيان نبوي في السُّنة الموثقة, بل لوقائع التاريخ والتجربة الحضارية الإسلامية كلها, انطلاقًا من فرض مستبق لكلِّ نظرٍ علمي يقضى بأنَّ التراث الإسلامي نظرًا وعملًا كان رجوليًّا منحازًا ضد المرأة, وقد آن الآوان للقطيعة الفكرية مع هذا التراث وإعادة تأويل القرآن والدين على أساس من هذا الفرض, وفي ضوء «الهيرمنيوطيقا» المسيحية الغربية.
ينهض بهذه الحركة في عصرنا هذا – وبالأخص خلال النصف الثاني من القرن الماضي – طائفة من الباحثين المثقفين ثقافة غربية, تكاد تخلو من تكوين علمي أصلي رصين في إطار الثقافة الإسلامية وعلومها الشرعية, ويقيم أكثرهم في الغرب حيث نشأوا وتعلموا واحتلوا مواقع بحثية وتعليمية في مؤسسات غربية, وبخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة, على حين يقيم القليل منهم في بعض بلاد العالم الإسلامي بعد أن تلقوا تعليمهم في الجامعات الغربية, يبثون التوجيه الفكري ذاته, ويمارسون هذا العمل الفكري التأويلي, الذي لا يمثل تيارًا عامًّا حتى الآن, ولكنه يعبر عن حركة نشطة على الصعيد الثقافي والبحثي يمكن أن تكون لها نتائجها وآثارها على حياة المجتمعات الإسلامية, وعلاقتها بتراثها الحضاري في المستقبل, ليس إلى حد القطيعة المبتغاة ولكن إلى حد التشويش على علاقة هذه المجتمعات بتراثها الثقافي والحضاري؛ مما قد يعوق مسيرتها نحو نهضة منشودة راشدة تضعها من جديد على درب التاريخ.
لهذه الحركة جانب لغوي يتهدد -في نظرنا- سلامة اللسان العربي وبيانه, فضلًا عن تراثه الديني والحضاري, وهذا ما دعانا إلى إثارة هذا الموضوع بين يدي حرَّاس العربية وسدنة تراثها الفكري الحضاري, في مؤتمرهم السنوي, للدورة السبعين من حياة هذا المجمع العريق1, لا لنوقظ فتنة نائمة, معاذ الله, ولا لنعيدها جذعة بعد أن كادت تكتهل أو تشيخ, فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت, بعرض الموقف عرضًا موضوعيًّا, في إطار المحور العاشر من محاور هذا المؤتمر المعني بالتنمية اللغوية, أعني أثر الثقافات المعاصرة في اللغة العربية, والأثر في حالتنا هذه للأسف غير حميد؛ لأنه يجافي قواعد المثاقفة الرشيدة, والتواصل الحضاري البناء, كما سنبين بعد قليل, من خلال خطوات ثلاث:
أولاهــا: عن أصول هذه «الهيرمنيوطيقا» وأطوارها, حتى الصيغة الحديثة والمعاصرة.
والثانية: عن أثر هذه «الهيرمنيوطيقا» على بعض رجالنا ونسائنا, ومحاولاتهم تطبيقها على التراث الإسلامي والعربي على نحو مسرف في الذاتية والانحياز, والمتابعة الكاملة لتجربة ثقافية نمت في بيئة غريبة عنا, دون أية روح نقدية أو محاولة تطويعية بما قد يتلاءم مع طبيعة تراثنا ولغتنا وحضارتنا.
والأخـيرة: عن المتطلبات اللغوية المنهجية والفكرية «الهيرمنيوطيقا» إسلامية إن جاز هذا التعبير, تتناسب مع تراثنا الحضاري ولغتنا العربية وتجربتنا التاريخية المتميزة بطبيعة الحال, وأحسب أننا لسنا بحاجة إلى هذا المصطلح, وإنما استخدمناه لمجرد المقابلة قاصدين: «أصول التأويل العلمية للنصوص العربية الدينية» كما نمت وتشكلت في إطار ثقافتنا وعلومنا الشرعية, مع لمحة من النظر إلى مقابلاتها في التطور العلمي والفكري المعاصر.
1-«الهيرمنيوطيقا» الغربية:
نود قبل أن نتعرض لهذه النقطة الأساس من بحثنا هذا, باعتبارها الأصل الذي تولدت منه حركة التأويل النّسوي لنصوصنا الدينية والحضارية, أن نقرر الاقتناع التَّام بأنَّ التواصل بين الثقافات وخصوصًا الثقافة العربية المعاصرة والثقافات الأخرى, بما فيها الثقافة الغربية المعاصرة, أمر محمود ومطلب منشود؛ فضلًا عن أنه يكاد يكون في الظروف الراهنة, حتمًا لازمًا وأمرًا واقعًا لا مفر منه:
أ- وذلك لأنَّ التواصل الثقافي الرشيد يتجاوب مع طبيعة هذه الثقافة العربية الإسلامية؛ فهي تؤمن بوحدة الإنسانية وصدورها عن أصلٍ واحد[1], وأنَّ تعدد الشعوب وتنوعها مدعاة للتعارف والتواصل لا للصراع والتَّدابر[2], وتلك قيم بناءة جديرة بأن تؤسس لتواصل ثقافي وتبادل حضاري على مستوى إنساني.
ب- وهي قد مارست هذا التواصل فعلًا دون عنصرية أو جمود, وأفادت منه في فترات ازدهارها, دون تردد أو صدود, يقول أبو يعقوب الكندي في صدر هذه التجربة الحضارية: «ينبغي أن يعظم شكرنا للآتين بيسير الحق فضلًا عمن أتى بكثير من الحق؛ إذ أشركونا في ثمار فكرهم, وسهلوا لنا المطالب…, وينبغي ألا نستحي من استحسان الحق, واقتفاء الحق من أين أتى, وإن أتى من الأجناس القاصية والأمم المباينة لنا؛ فإنه لا شيء أولى بطالب الحق من الحق». ويقول ابن رشد بعد قرون من ازدهار هذه التجربة الحضارية: «يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله مَنْ تقدَّمَنَا, وسواء أكان ذلك الغير مشاركًا لنا في الملة أم غير مشارك.. وأعني بغير المشارك من نظر هذه الأشياء من «القدماء» قبل ملة الإسلام, فقد ينبغي أن نضرب بأيدينا إلى كتبهم, فننظر فيما قالوه من ذلك؛ فإن كان كله صوابًا قبلنا منهم, وإن كان فيه ما ليس بصواب نبهنا عليه»[3].
ج- وأما أن هذا التواصل أمر واقع وحتم لازم؛ فإن ثورة المعلومات منذ أخريات القرن الماضي, وتدفقها الدائم عبر وسائل الاتصال المتنوعة, جعلا من التقوقع والانغلاق في عالم اليوم أمرًا مستحيلًا, ولكن يبقى السؤال: هل التجربة التي نحن بصددها تتسق مع هذه الروح التي عبر عنها كل من الكندي وابن رشد, أم أنَّ الأمر جرى على نحو آخر؛ هذا ما قد يتبين من العرض التاريخي الموجز فيما يلي:
يعني بالهيرمنيوطيقا Hermeneutics قواعد التَّأويل والفهم للنصوص الدينية, وهو مصطلح قديم التصق بالثيولوجيا المسيحية, وتعرض لتطورات عدة في مدلوله ضيقًا وسعة حسب تطور الفكر الديني والفلسفي في سياق الحضارة الغربية ودراسات الكتاب المقدس, ويمكن أن نلخص هذه الأطوار المتفاوتة للمصطلح ودلالاته كما يلي:
- الهيرمنيوطيقا: الأصول النظرية التي تعنى بتفسير النصوص الثيولوجية.
- أو أسس تفسير الكتاب المقدَّس وتطبيقاتها.
- أو العلم النَّظري والفن العملي المتعلقان بتفسير النصوص القديمة.
- أو نظرية فهم النصوص الدينية والفلسفية والأدبية وتأويلها.
- أو نظرية فهم النصوص الدينية والفلسفية والأدبية وغيرها وتطبيقاتها.
- أو أصول تأويل المدونات المسجلة بالكتابة.
- أو فهم صور الوجود الإنساني وتأويلها: وهو أوسع الدلالات التي انتهت إليها الفلسفة المعاصرة على يد هيدجر, بحيث تشمل كل الدراسات الإنسانية والاجتماعية, والواقع أن أكثر الفلاسفة المحدثين تأثيرًا في إحياء هذا المصطلح وتجديد أسسه الفكرية “هوسرل” صاحب الظاهريات ببحوثه في تجنب الانحياز في الأحكام, وكان قد لحقه من قبل قدر كبير من التطور والتأصيل المعرفي على يد شلير ماخر ودبلثي, ثم الفيلسوف هيدجر فيما بعد كما أسلفنا, حتى قيل: إنَّ التأويل أو (الهيرمنيوطيقا) قد وضعه الثيولوجيون ونماه الفلاسفة[4].
أ- والقصة طويلة؛ فقد بدأ النَّص مع الإغريق وغلبت عليه عندئذ السمات الرمزية.
ب- ثم انتقلت الهيرمنيوطيقا إلى العبرانيين وكان لفيلون الإسكندري دور في صبغها بصبغة مزدوجة تجمع بين الاتجاه الرمزي Allegory والفلسفة الإغريقية. ويتضمن «التلمود» شروح العهد القديم التي نمت على امتداد ثمانية قرون فيما بين القرن الثاني قبل الميلاد والقرن السادس الميلادي, حتى عرفوا بأنهم أهل الكتاب والتأويل, واهتموا بوضع قواعد للتأويل حتى ظهر بينهم ظاهريون حرفيون كالصدوقين والقرائين, ولكن بقي التفسير الرمزي هو السَّائد وخصوصًا عند «القبالة», ثم عمل الربانيون على تطوير منهج وسط, وكان للمدرسة المصرية في القديم, والأندلسية في العهد الإسلامي دور بارز في هذا الصَّدد, وكما عمل فيلون على تقريب التأويل من الفلسفة الإغريقية, عمل ابن ميمون على تقريب من الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام[5].
ج- ثم انتقلت الهيرمنيوطيقا إلى الكنيسة المسيحية, حيث غلبت عليها النزعة «الليجورية» الرمزية, ولكن حاول الآباء وضع قواعد لفهم الكتاب المقدس وتأويله عرفت بالقواعد الأوغسطينية الأربع, وهي:
- التفسير بالمأثور أو تفسير النَّص بالنَّص ما أمكن؛ فهو لا يمكن أن يتناقض أو يختلف.
- التفسير المجازي, ولكن حسب قواعد وملابسات أسلوبية تسوغ التعمق في الدلالة وراء الوجه الظاهري للمعنى.
- التفسير حسب القواعد اللغوية لتعيين المعنى الدقيق للكلمة والتركيب.
- التفسير حسب الظروف التاريخية, والأحداث المقارنة للنص.
وقد كانت هذه القواعد خطوة جيدة لضبط عملية التأويل وتقنينها إلى حد ما, ولكن الغلبة ظلت للطريقة «الليجورية« الرمزية, وذلك لتأثير الغنوص على البوادر التأويلية المبكرة للعهد الجديد, وقد ظهرت عند القوم – كما سبق لدى اليهود – الاتجاهات الثلاثة التي لا يخلو منها فكر ديني: النصيون الظاهريون, والرمزيون الصوفيون, والمعتدلون الوسطيون, وكان للأب كلينمت السكندري, ومدرسة إنطاكية دور في تطوير المنهج الوسط أو التكاملي بين نصية خالصة ورمزية مسرفة, ثم جاء أوغسطين فصاغ القواعد الأربع السالفة[6], وكانت الكنيسة تعتبر الكتاب المقدس ملكًا لها, ولها سلطة تأويله, حتى نزع الكاثوليك – لضبط التأويل وتجنب اضطرابه – إلى حصر هذه السلطة التأويلية في البابا وحده, مما كان سببًا في الحركات الاحتجاجية, بل الإلحادية الحديثة, مع أسباب أخرى مقترنة قرابة منتصف القرن الخامس عشر.
د- ومن ثم ظهرت تأويلات متحررة من سلطة الكنيسة وإن لم تتحرر من قواعد التأويل نفسه (Hermeneutics) وأدت الثورة على التشدد الكاثوليكي, إلى أن ظهرت التأويلات البروتستانتية على يد لوثر وكالفن أوائل القرن السادس عشر, ويمكن أن نفرق بين الرجلين من حيث التأويل بأن لوثر:
- يرفض سلطة البابا والكنيسة على التأويل.
- ويرفض غلبة التأويل الرمزي الأليجوري غير المنضبط.
- ويرى ضرورة استعانة المفسر على الفهم بالبعد التاريخي.
- والرابع وهو الأهم أن يفسر النص نفسه بنفسه, أي بالتحليل اللغوي, وهداية الروح القدس.
ومن الواضح أن هذه الأربع تعديل جزئي على الأوغسطينات الأربع.
أما كالفن فيتفق مع قرينه مع مزيد تحفظ من الناحية الرمزية الإلهامية, على النحو التالي:
- رفض سلطة البابا.
- مراعاة السياق التاريخي للنصوص.
- مراعاة القواعد اللغوية.
- رفض الأليجورية الرمزية.
ه- وهذه المحاولات المتعاقبة تمت لضبط التأويل, أو جعل الهيرمنيوطيقا فنًّا مقننًا وليس عملًا سائبًا بلا ضفاف ولا حدود, ولكن ليس إلى حد غلق باب التأويل على غير البابا كما فعل الكاثوليك الذين اضطروا أن يقولوا: إن التأويل الفردي ممكن, ولكن لابد أن يكون متسقًا مع التأويل الرسمي المعتمد لدى الكنيسة.
ثم جاء العصر الحديث, وانطلقت العقول من عقالها, وبالغ المفكرون في إخضاع نص الكتاب المقدس للنقد التاريخي والتحليل اللغوي الحر خلال القرن السابع عشر, والثامن عشر, وكان لفلسفة التنوير Enlightenment أثر كبير كاد يعصف بقداسة النص ومحتوياته, كما ساعدت على ذلك حركة إحياء التراث الإغريقي التي بدأت قبل ذلك واستمرت بمناهجها في تحقيق النصوص وتأويلها, وكان للنزعة العقلية الديكارتية Rationalism على يد هوبز وسبينوزا دور في حركة التأويل الحر للنصوص الدينية, كما كان للفلسفة الإنسانية Humanism التي نادت بإخضاع النصوص الدينية لمقاييس النقد ذاتها التي تطبق على كل نص قديم أثر سلبي, فنجم عن ذلك ضروب من الإلحاد Deism والتمرد على الكنيسة, بل على التدين خلال القرن الثامن عشر والتاسع عشر, وظهرت آراء قوية تدعو إلى تجنب الذاتية في التأويل والتزام العقلانية والموضوعية[7].
وفي القرنين التاسع عشر والعشرين تطورت الهيرمنيوطيقا على النحو الذي أجملناه فيما سبق, ولئن غلبت روح التحرر على المفكرين الغربيين عندئذ فإن بعضهم أسرف على نفسه في ذلك إلى حد الإلحاد وإنكار كل شئ ديني أو مقدس, فقد ولدت الهيرومنيوطيقا الحديثة في حجر الفلسفات العقلية والتنويرية والإنسانية.
وقد أسهم شلير ماخر (القرن الثامن عشر) في وضع نظرية الهيرمنيوطيقا على أسس معرفية مؤصلة, كما كان لهوسرل وجهوده في توقي التحيز في الأحكام وفي الاستماع المخلص لصوت الواقع ونبضه, وكذا جهود هيدجر (1889 – 1967م) تلميذ هوسرل وعديد غيرهم من المفكرين والفلاسفة المعاصرين, أثر واضح في نظرية الهيرمنيوطيقا وتعميمها على سائر الدراسات الإنسانية والفلسفية[8].
ويتضح مما سبق كيف نشأت الهيرمنيوطيقا في الفكر الغربي وتطورت منذ الإغريق إلى الوقت الحاضر, استجابة لعوامل حقيقية داخل هذا الفكر, وأهمها متطلبات فهم الكتاب المقدس وتأويله, وما صحب ذلك من تعقيدات يرجع بعضها إلى طبيعة الموضوع ومشكلات التوثيق والفهم, ويرجع البعض الآخر إلى مواقف الكنيسة والسلطة. ولا يمكن أن يدعي أحد أنه لابد أن تطبق المناهج بعينها على موضوعات متفاوتة وظروف مختلفة لمجرد التقليد, وأن نصطنع الهيرمنيوطيقا كما فعلوا قبلنا[9].
على أنَّ حركة التوثيق والنقد قد بدأت لدينا منذ الصدر الأول في جو مفتوح وبأسلوب علمي يشهد له المختصون من غير المسلمين, فإن كان لابد من التقليد من حيث إعادة الفحص والنقد والتحليل فليكن في إطار ثقافتنا وبمواد وعناصر من تجربتنا العلمية, وبأسلوب موضوعي مقنن يتجنب سلبيات هذه التجربة التي لابد أن تحوى عيوبًا كسائر الأعمال الإنسانية, لك هذا ينقلنا إلى النقطة الثانية من هذا البحث.
الهوامش:
- سورة النساء الآية الأولى.
- الحجرات: 13.
- ابن رشد: فصل المقال, ط إيطاليا, بدون تاريخ, ص3.
- انظر: Kiry, “David Dictionary of Contemporary Thought”, London, Mac Millan
- انظر حسن الشافعي: المدخل إلى دراسة علم الكلام, ط2, القاهرة, مكتبة وهبة, ص251, وما بعدها.
- سعدية محمود: مرجع سابق 57, 64.
- السابق 67 – 76.
- السابق: 87 – 103. وانظر: Jean Grandtin, “Introduction of Philosophical Hermeneutics”, Yale Press New
- انظر: سعدية: مرجع سابق 105.