إنَّ أهم ركائز القبول بالاستبداد والتبعية هي هدر الفكر والوعي والطاقات، والطائفيون المتعصبون من كلِّ الملل والنِّحل، والمتباهون بتفوقهم وثقافتهم، هم كائنات مهدورة متوهمة مشوشة، العقل عندها موظف تلقائي، الكرامة مذيلة بقيمةِ الولاء الطائفي، والحرية هي في القدرة على الاعتداء الدائم على الخصوم الطائفيين، بكل مفردات اللغة الاتهامية والعنصرية السَّاقطة. والطائفية تعمل عمل الاستبداد والمخابرات، فهي تحجر على العقول، وتدفع الإنسان إلى الرضوخ، وبالتالي تعطل العقل، إنها تهدر العقل الإنساني وتحوله إلى مستوى من النشاط العصبي النباتي، وإشباع حاجات البقاء البيولوجي.
والثقافة الطائفية مبنية على التقليد والفوقية واليقينية، بحيث لا يمسها نقد، إنها تلغي الاعتراف بالآخر كإنسان أو كقيمة متميزة في موقع إنساني، له حقوق وعليه واجبات. وليسَ هناك وظيفة للمعرفة والفكر في المجتمع الطائفي، ففي هذا المجتمع يتحول الذكاء من أساس نظري للإنتاج وتنظيمه، إلى تحايل، فالذكي هو المتحايل… لا غير، هو الذي يصل كيفما كان، لا وفق قواعد الإنتاج والعطاء والارتقاء (1).
إنَّ تشجيع الفكر، من خلال الحوار والنقاش وتعزيزهما، يطلق مادتي الأندروفين والدوبامين في الدماغ، وهما ينشطان الفكر التحليلي النقدي، ويساعدان على زيادة تكوين الشبكات العصبية في الدماغ، من خلال نمو الشجيرات التي تربط الخلايا العصبية، وكلما زادت التحديات الذهنية، ومعها النشاط المعرفي نمت هذه الشجيرات، وتوفرت للدماغ شبكات عصبية جديدة تزيد من كفاءته. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ التزمت والتَّشدد والانغلاق والحجر على الفكر، وكذلك التلقين وفرض الجواب الصحيح الواحد، تؤدي إلى تصلب الدماغ وتردي كفاءته. وإذا كان الفكر بخير، فإن المجتمع بخير، وإذا كان الانتماء على قاعدة الاختيار، فإن العقل هو المرجع الأخير (بعد مرجعية الدين وبما لا ينافيه)، والضابط للأهواء والانفعالات والرغبات (2).
والسلوك الطائفي المتعصب له سماته وآلياته ومرجعياته وأزماته، ويتبدى هذا السلوك الجمعي في صعوبة الانتظام في المؤسسات الديمقراطية الحديثة، كما يتبدى هذا السلوك في كفاءته في تعطيل مفهوم الولاء العام وتحويله إلى ولاءات دونية لاغية للوطن، فمع الطائفية تنهار العلاقات الإنسانية، وتسقط فكرة العدالة، وتنتفي فكرة الكفاءة، والطائفية في أسوأ تمثل لها، تعتبر سلاح دمار شامل، إنها أداة لاغية، وأول من تقوم بإلغائهم هم الذين انضووا تحت أقدامها، ويتبدى هذا السلوك الطائفي في قدرته على منع التغيير والنمو، وعبقريته في إعادة إنتاج المشكلات ذاتها، مرات تلو مرات، مع تضخم مفاجئ يصل إلى حدود الهستيريا السلوكية، المعبر عنها إعلاميا بالاصطفاف الطائفي اللاغي للتمييز والتعقل والنقد (3).
الفرد الطائفي:
الأفراد الطائفيون هم الأفراد الذين تلبَّسهم النسق الطائفي التعصبي، وكَمُنَ فيهم، ونشط فيهم ومن خلالهم أيضًا. وهؤلاء على درجات مختلفة من الخضوع للنسق والاستكانة لسطوته، فثمة أفراد تفوح منهم رائحة الطائفية على بعد أمتار، وترى آثار النسق الطائفي على جبينهم شاخصًا كالبيرق. وهؤلاء يسهل التعرف عليهم، كما يسهل اتقاء شرهم وتجنب أذاهم. وكم من أناس نتعامل معهم على أنهم إنسانيون وأبرياء من الطائفية، ونكتشف لاحقًا أنَّ هذا الوجه (الإنساني) ليس إلا جبل الجليد الذي يكمن النسق الطائفي تحته (4).
والإنسان الطائفي لا يملك القدرة على إصدار حكم قيمي تأسيسًا على سلم أخلاقي، فهو يؤيد زعيمه بشكل أعمى: يبرر أخطاءه، ويزينها أحيانًا، يتباهى بها، يضفي عليها مسحة العبقرية والشطارة، يفاضل بين أفعال زعيمه وأفعال خصمه، ولو كان الإثم مشتركًا بين الاثنين. والفرد الطائفي حين يتعصب لمذهبه أو لطائفته أو حزبه أو جماعته أو عرقه لا يهتم لما في المذهب أو غيره من مبادئ خلقية أو روحية فذلك أمر خارج عن نطاق تفكيره، وكل ما يهتم به هو ما يوحي به التعصب من ولاء لجماعته وعدائه لغيرهم (5).
والفرد الطائفي كالقبلي يعادي من تعاديه القبيلة، ومن يخرج عن هذه التبعية، أي من يختار طريقًا آخر، يصير صعلوكًا يشتري حريته بتشرده، ويشتري حياته الخاصة عبر وضعها عند تخوم الخطر والموت. إنَّ ذات الطائفي هي من ذات الطائفة، وفي ذاتها، أو قرب ذاتها، وإخراجه من الرحم أو الحضن، أو فطامه عن الثدي، قسوة باهظة لا يستطيع احتمالها، لأن ذلك يضعه في مدار الانعدام. فمن اعتاد الاتباع والانزلاق اللاإرادي يصعب عليه تنكب الحرية وتبعاتها (6).
والفرد الطائفي ليس بحاجةٍ إلى أن يتدرب كي تنزع منه حريته، فهو يسلم بالطاعة منذ نعومة وعيه، وليس بحاجة إلى انتزاع حريته، لقد تربى على الاتباع عاطفيًا، وعلى الامِّحاء العقلي، يفقد الطائفي في هذه الوضعية مرجعيته الذاتية، إنه كائن ناقص الوجود، يلغي وجوده، ويكاد يكون غير موجود إلا في ثياب غيره، لا يملك القدرة على اتخاذ قرار ذاتي، لا يتصرف من عندياته أو على ضوء تحليله الخاص ونقده الموضوعي وآلياته المعرفية، لقد اختار الأسر وقبل بهذه الدونية المريحة، ولقد استكان إلى طمأنينة الجواب الواحد، والقول المتفرد، واليقين الإلهامي، والكلام الذكي الذي يتميز به القائد الحكيم (7).
المجتمع الطائفي:
المجتمع الطائفي والمذهبي هو بالتعريف مجتمعٌ مغلق، تنكفئ جماعاته على داخلها الفئوي لتتمايز من بعضها، أولًا، ولتقيم لنفسها ـ بذاك الانغلاق ـ حزام أمان يحميها من غائلة غيرها، ثانيًا. وهذا معناه أن الجماعات المغلقة التي من هذا النوع تتخاوف، لأنها تتبادل التهديد ـ المضمر والمعلن ـ بينها، فتدفع الواحدة منها الأخرى إلى التهيب والتحسب، وتمرين الاجتماع الأهلي الفئوي أو العصبوي، الداخلي على طقس الدفاع الذاتي، عن طريق التربية والتكوين، ووسائط المخاطبة المختلفة (الإعلامية الثقافية، المسجدية، الكنسية، الدعوية، الحزبية…) ولا تميل هذه العصبيات ـ الطائفية والمذهبية ـ إلى معادة بعضها، وإلى الخوف من بعضها، إلا لأنها متشبعة بثقافة الإنكار: إنكار حق الآخر في منازعتها تمثيل الحقيقة أو سدانتها، حين يكون لكل جماعة مسجدها أو كنيستها وأوقافها، ومدارسها، وتقويمها الخاص لمواقيت الأعياد الدينية، وأحزابها، ومؤسساتها الطبية، وأحوالها الشخصية … إلخ، وهي جميعها نتاج مؤسسي لرأي قد يكون فاه به أحد ما من ألف عام أو يزيد، فليس من مغزى لذلك سوى أن كل واحدة منها تحسب نفسها (الفرقة الناجية)، الفرقة المخلدة في الجنة، وأن ما عداها في ضلال مبين(8).
والمجتمع الطَّائفي والمذهبي مجتمع خال من ثقافةِ الاعتراف، ليس الاعتراف بحق المخالف في الرأي والاعتقاد، بل حتى بالحق في وجوده! إنه مجتمع يعاني فقرًا مدقعًا فادحًا حتى في قيم الصَّفح والعفو والمساكنة، لذلك تراه مستنفرًا ضد بعضه، مستأسدًا في حروب الداخل ببسالة لا تضارعها مناضلة العدو الخارجي، ولذلك هو مجتمع منقسم (أو انقسامي)، يفتقر إلى علاقات الاندماج الاجتماعي، وإلى الشعور بالانتماء المشترك. وهل يستغرب والحال كما وصفناها، أن يكون هشًا ورخوًا، وسهل الاختراق الخارجي، وأن تبحث عصبياته لنفسها عن الحماية من الخارج، فتكون كل واحدة منها تبعا لدولة أجنبية، وأن تكون صلتها الوحيدة بالداخل مع سفارة تلك الدولة الأجنبية التي تحميها (9).
إنَّ المجتمع الطائفي هو باختصار، نقيض المجتمع المدني، ونظامه السياسي نقيض النظام الديمقراطي، لأنه ـ ببساطة شديدة ـ مجتمع الرعية التابعة الخاضعة، لا مجتمع المواطنين، المجتمع الذي يغلب فيه الولاء للطائفة والمذهب على الولاء للوطن والدولة. ولذا يتم ترويض الناس طائفيًا عبر إخضاعهم للذة الامتثال، وجاذبية الحماس وإلف الظهور بمظهر الولاء. بينما تحتاج الديمقراطية إلى مواطن حر، قادر على الاختيار، وقادر على الانحياز إلى القيم، ومتمكن من محاسبةِ المرتكب. أمَّا مثقفي الطوائف فهم من مروجي حالات الانتقال من النقيض إلى النقيض.
إنَّ المجتمع الطائفي هو باختصار، نقيض المجتمع المدني، ونظامه السياسي نقيض النظام الديمقراطي، لأنه ـ ببساطة شديدة ـ مجتمع الرعية التابعة الخاضعة، لا مجتمع المواطنين، المجتمع الذي يغلب فيه الولاء للطائفة والمذهب على الولاء للوطن والدولة. ولذا يتم ترويض الناس طائفيًا عبر إخضاعهم للذة الامتثال، وجاذبية الحماس وإلف الظهور بمظهر الولاء. بينما تحتاج الديمقراطية إلى مواطن حر، قادر على الاختيار، وقادر على الانحياز إلى القيم، ومتمكن من محاسبةِ المرتكب. أمَّا مثقفي الطوائف فهم من مروجي حالات الانتقال من النقيض إلى النقيض.
الطائفية بين الداخل والخارج:
من أصعب الأوضاع في السِّياسة بقاء الأمور عالقة في عنق الزجاجة في أي مجتمع أو دولة، فلا هي متحركة نحو الأمام، ولا هي متغيرة لفتح آفاق للرؤية، وتزداد الأوضاع تعقيدًا عندما تختلط الأوراق بين الداخل الوطني المتعدد، والخارج الإقليمي المؤثر، والضغط الدولي المتعدد، لا سيما إذا جاهد كل طرف من الداخل لتحقيق أجندته الخاصة التي تصطدم في الرؤية والاستراتيجية مع الأطراف الأخرى.
وقد تعلمنا من التَّاريخ بأنَّ الأمة التي تنشغل بصراعاتها الداخلية تقدم الفرصة الذهبية لاصطفاف أعدائها، وبالتالي تآزرهم ومن ثم انتصارهم، سواء بين الطوائف المسيحية أو المسلمة أو غيرهما، وقد تنطبق هذه الحالة على الأمتين الإسلامية والعربية في هذه المرحلة الزمنية، إذ بلغ انشغال أمتنا بصراعاتها الداخلية، التي تتراوح بين الأهلية والطائفية، إلى حد الاحتراب الداخلي، فرخصت دماء الإخوة الواحدة، وانفتحت الثقوب في جسدنا ليتسلل منها العدو، ويبث سموم الفتن العرقية والقومية والطائفية.
ومن مشاكل أمتنا العظيمة على مرِّ التاريخ حتى يومنا الحاضر، لا سيما في المنعطفات الحساسة التي تبرز فيها معاركنا الداخلية، أننا نتغافل عما يجمعنا، ونصر على التوقف طويلًا عندما يفرقنا، بينما الحكمة تقتضي تجاوز المفاهيم الخاصة بكل مذهب أو طائفة، التي قد يختلف حولها أصحاب المدارس المختلفة داخل المذهب الواحد، لكنها تتحول إلى أداة للاختلاف بين الطوائف، رغم علم الجميع وإدراكهم أنَّ تلك المفاهيم الخاصة قد تنبع من الاختلاف في فهم نص صريح أو حادثة تاريخية ما، أو من اختلاف في الاجتهاد أيضًا. والأكثر سوءًا هو اعتقاد البعض أن انتصار طائفته هو استحقاق تاريخي لا بدَّ منه حتى وإن كان على حساب تمزق الأمة وانتصار الأعداء. إن الانتصار للطائفة ضد الطائفة الأخرى في مراحل الاعتراك الداخلي هو هزيمة لكل الأمة التي تجمع تلك الطوائف في رحابها. وذلك يعني أننا لا نعي تجارب التاريخ أو لا نهضمها، أو أن لدينا عسر هضم في أجهزتنا الهضمية! (10).
والخلافات المذهبية هي الطعم اللذيذ الذي يستلذ في استخدامه أصحاب النوايا السيئة، فهي تحقق لهم الممتنع عنهم من خلال ممارسة العمل الديمقراطي، فتلتقي مصالح الأطراف الداخلية والخارجية عند محور استخدام الخلافات المذهبية نحو تغيير خارطة سياسية قائمة بأخرى مأمولة، كما يجري حاليًا في العراق ولبنان وغيرهما.
وتسعى بعض الأطراف الإقليمية والدولية، للاستفادة من إضعاف كل الأطراف الداخلية في تلك الدول، كإسرائيل وأمريكا، كي يبقى فتيل التوترات المذهبية والطائفية مشتعلًا. بيد أنه لو نظر كل طرف داخلي إلى مصالح الأمة وأولاها الاهتمام المطلوب بحيث تكون في أول سلم الأهداف لما استطاع الأعداء اختراق جسد الأمة من ثقب الفتن الطائفية. وهو ثقب ذو ممر ضيق، ولكنه يفضي إلى حروب أهلية، تجر البلاد والعباد إلى مستقبل مجهول، وإلى جراحات دامية تصيب النفوس قبل الأبدان (11). وليس المقصود ـ هناـ تعليق مشاكل الأمة على مشجب (نظرية المؤامرة)، لأنَّ المؤامرات لا تنجح إلا بخلل في الذات، وبقدر ما نحاول التركيز على ما يهمنا وينبغي التأكيد عليه دائمًا من الالتفات إلى الذات فيما هي عليه وما ينبغي منها. صحيح أن أمتنا مستهدفة، ولكن الأصح ألا نتيح للمستهدفين أن ينجحوا في اختراقنا واستثمار مشاكلنا الداخلية، من خلال الفتن الطائفية التي قد نشعل حطبها بأيدينا بقصد أو دون قصد تحت عناوين فئوية أو استحقاقات آنية.
ينقل عن رئيس الحكومة اللبنانية الراحل تقي الدين الصلح أنه التقى في الولايات المتحدة ذات مرة بالمفكر الأمريكي (كرمت روزفلت) الذي كان يعمل مديرا لمعهد الشرق الأوسط في واشنطن، وأخذا يتكلمان معا في شؤون المشرق العربي … فكان كلما أتى ذكر دولة من هذه الدول ألحقها روزفلت بمشكلة مستعصية لاصقة بها. فعند ذكر العراق قال: مسكين العراق عنده المشكلة الكردية، وعنده انقسام الشعب بين سنة وشيعة. وعند ذكر الأردن قال: مسكين الأردن عنده مشكلة البدو، والفلسطينيين، وعند ذكر سوريا قال: عندها مشكلة توزع الشعب بين طوائف ولم يكن الفرنسيون في مطلع العشرينيات على خطأ عندما أنشأوا دويلات طائفية ومذهبية فيها كدولة العلويين ودولة جبل الدروز. أما لبنان الذي توقف عنده كرمت روزفلت وقفة خاصة، فقال عنه: المشكلة أن البلد فسيفساء طائفية ومذهبية غير متجانسة، وأن الموارنة غير مندمجين مع بقية السكان! وهكذا. وقد أضاف تقي الدين الصلح ضاحكا، عرفت من كرمت روزفلت أن السياسة الغربية في منطقة الشرق الأوسط أشبه بمشتل زراعي يهتم فيه بصحة كل مشكلة من مشاكل المنطقة: فهو يحرص على رعايتها ويسقيها بالماء ويمدها بالأسمدة الكيماوية، بحيث تكون مشكلة كل قطر أكبر من هذا القطر. وفي نفس السياق فإن الطائفية والمذهبية والعرقية هي العصا التي يلوّح بها أعداء الأمة كلما أرادوا تحقيق مصالحهم وتمرير مشاريعهم في بلادنا. وهذا ما يراه (زبغنيو بريجينسكي)، مستشار الأمن القومي خلال رئاسة جيمي كارتر (1977 -1981)، الذي عمل مستشارًا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية وأستاذًا لمادة السياسة الخارجية الأميركية في كلية “بول نيتز” للدراسات الدولية المتقدمة بجامعة “جون هوبكنز” في واشنطن، يرى أنَّ أفضل وسيلة لتفتيت الأنظمة والدول والشعوب هي تعميق التعدد المذهبي والطائفي والعِرقي، من خلال تمكين طائفة بعينها ودعمها، لقهر بقية المكوِّنات (12).
ومكمن الصعوبة في حالةٍ كالحالة العراقية ـ مثلًا ـ يتمثل في ثلاث عقليات: العقلية المحتلة، والعقلية الحاكمة، والعقلية المحكومة. فتعنت وعناد الأولى، وارتباك الثانية وضعف خبرتها، وانفراط العقلية الثالثة من عقالها على ركيزة الحرية، هي التي أوصلت العراق إلى ما هو عليه الآن. ورغم ادعاء الجميع أنَّ الطائفية مقيتة ومرفوضة، والديمقراطية جميلة ومرغوبة، والفرق بينهما كالفرق بين الحياة والموت، ولكن رغم وضوح هذه الحقيقة إلا أن أوهام الواقع المسيطرة على العقليات الثلاث ـ السابق ذكرها ـ تقود نحو الطائفية لا الديمقراطية، فعقلية المحتل رفعت شعار (النموذج العراقي للديمقراطية) كحلم أمريكي صار سرابًا، وعقلية الحاكم أرادت الأمن والسيادة والوحدة الوطنية كأمنيات نخيل العراق التي تفتت على صخرة الاستحواذ الفئوي والطائفي، وعقلية المحكوم التي استبشرت بالحرية واستنفذتها بتكالب الجميع عليها، ثم باستجابتها لما استدرجت إليه من مصائب يومية (13). وكل حديث عن الخارج لا يأخذ بالنظر هذه الاعتبارات يقع في التبسيط وفي الخطأ، ثم إنَّ الخارج عمومًا يتموضع ويستوطن ويخترق المشكلات الداخلية، بل إن مشكلات الداخل لا تظهر فعليا إلا في لحظة الضعف.
إن ما يرمي ـ وما يزال يرمي ـ إليه النظام الغربي بعد تغيير جلده اليوم هو تقطيع مجتمعات الأطراف إلى شرائح أو إلى كيانات قبلية طائفية عرقية إقليمية، لا لكي يسهل عليه إلحاقها به فحسب، وإنما لكي يستأثر بزمام المبادرة في معالجة التاريخ العالمي، ويسمح لنفسه بتأسيس منظوره الخاص للتاريخ، على حساب تواريخ أو ثقافات الشعوب الأخرى، وذلك عبر تفسير الحوادث الخارجة عن حدوده الجيوسياسية بمدى ارتباطها بصورة أو بأخرى بمرحلة من مراحل تاريخه الخطي، وإلا فإن مصيرها محكوم بعدم صلاحها للفهم إنسانيًّا وتاريخيًّا.
والتاريخ الغربي يعكس في جوهره منطلقا عرقيا تعصبيا ينطوي على الاستعلاء والعصبية التي تقلل من شأن الأجنبي وإنسانيته والاستهانة بحقوقه وحياته، وإخضاعها لاعتبارات المصلحة الأنانية. هذه النفسية هي التي تفسر قسوة الصراعات الأوروبية، والمآسي وجرائم الإبادة الإنسانية التي نزلت بالعديد من الأقليات الدينية والعرقية مسيحية ويهودية ومسلمة، كما تفسر الجرائم والويلات الاستعمارية التي لقيتها الشعوب الأفريقية والسكان الأصليون في الأمريكيتين واستراليا، كما أن هذا التاريخ وهذه النفسية تجعل مستقبل الأقليات في هذه البلاد وليس بالضرورة في مأمن من التعديات في المستقبل على غرار ما حدث للأقلية اليابانية في الولايات المتحدة الأمريكية في فترة الحرب العالمية الثانية (14).
الهوامش:
- نصري الصايغ، سيكولوجية الإنسان الطائفي، مجلة الآداب، 3/ 4/ 2007م. ص76، 77.
- المرجع نفسه. ص77.
- المرجع نفسه. ص71.
- د. نادر كاظم، طبائع الاستملاك قراءة في أمراض الحالة البحرينية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت ـ لبنان، الطبعة الأولى، 2007م. ص77، 78.
- نصري الصايغ، سيكولوجية الإنسان الطائفي. ص72.
- المرجع نفسه. ص74، 75
- المرجع نفسه. ص74.
- مجموعة مؤلفين، تحرير وتقديم: عبد الإله بلقزيز، الطائفية والتسامح والعدالة الانتقالية من الفتنة إلى دولة القانون. ص15، 16.
- المرجع نفسه. ص16.
- د. كاظم شبيب، المسالة الطائفية، تعدد الهويات في الدولة الواحدة، ص28، 29.
- المرجع نفسه. ص97.
- جهاد فاضل، الإسلام لا المذهبية، موقع العربية نت، آراء، الثلاثاء، 15 ربيع الأول 1428هـ ـ 3 أبريل 2007م، نقلا عن جريدة الرياض السعودية.
- د. كاظم شبيب، المسالة الطائفية، تعدد الهويات في الدولة الواحدة. ص166، 167.
- د. عبد الحميد أحمد أبو سليمان، العنف وإدارة الصراع السياسي في الفكر الإسلامي بين المبدأ والخيار (رؤية إسلامية)، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع الترجمة، القاهرة ـ مصر، ط1، 2002م. ص61.