نظراً لمسيس حاجة الأمة إلى التجديد في فهم النصوص وإسقاطها على الوقائع والنوازل والأحداث؛ فإنه لا بدَ من تجديد الآليات والوسائل لدى الفقيه، أو المدرسة الفقهية، أو المذهب الفقهي؛ بغية تحقيق مقصد الشمولية في الشريعة الإسلامية، واستيعابها لمستجدات العصر المتحركة، ومتطلبات الحياة المغيرة في كل زمان ومكان، مع مراعاة للثوابت النصية والمتغيرات في التطبيق والتنزيل.
ولا شكَّ أن المذاهب الفقهية تمر بمراحل تكوين، ثم نمو، ثم تطور، وقد يصيبها الجمود والركود، والانكفاء، والضمور؛ وذلك عندما تجمد على التقليد، والقولبة للأتباع، وتجريم توسيع أفق المعرفة للاستفادة مما عند المذاهب الأخرى الموافقة والمناوئة.
ومن المذاهب الإسلامية غير المشهورة: المذهب الزيدي الذي انتشر في بعض مناطق اليمن، وحكم اليمن لفترات زمنية طويلة، ولا شك أنه مر بالمراحل السالفة الذكر، وفي هذا المقال سوف نسلط الضوء على (أثر التجديد الفقهي في المذهب الزيدي على المذهب والدولة).
وفق المحاور الآتية:
المحور الأول: مفهوم التجديد الفقهي:
هذا المفهوم مركب من كلمتين: التجديد، والفقهي.
مفهوم التجديد:
فالتجديد مأخوذ من: جدَّدَ يُجدِّد، تجديدًا، فهو مُجدِّد، والمفعول مُجدَّد (للمتعدِّي)، وجدَّد الشَّيءَ: صيَّره جديدًا حديثًا، ومصدره: تجدَّدَ (1).
عَرِّفُ أمين الخوليّ التجديد بأنَّهُ “حركة دائمة متصلةٌ ما اتَّصلتِ الحياةُ”.
ويُعَرِّفُهُ غيرُهُ بقوله: “التجديدُ يعني جَعْلَ الشيءِ جديدًا”(2)، وهذا يعني «إعادةَ نضارتِهِ ورونقِهِ وبهائِهِ».
مفهوم الفقهي:
والفقهي منسوب إلى الفقه، والفقه هو في اللغة عبارة عن فهم غرض المتكلم من كلامه، وفي الاصطلاح هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية (3).
فيكون التجديد الفقهي هو: الحركة الفقهية الدائمة لإعادة روح الفقه ورونقه وبهائه دون الخروج عن الثوابت والأصول.
المحور الثاني: موقف الزيدية من التجديد والمجددين:
المذهب الزيدي أحد المذاهب الإسلامية التي انحصر انتشارها في بعض مناطق اليمن، وأجزاء يسيرة من الجزيرة العربية هو أحد المذاهب الفقهية الذي ارتكزت عليه الدولة الزيدية التي تأسست في اليمن بدخول الهادي يحيى بن الحسين الرسي، والذي دخل اليمن عام 280هـ، ثم خرج منها، وعاد إليها في عام 284هـ، وبقي فيها إلى عام 298هـ، وهو العام الذي توفي فيه، وخلال هذه الحقبة الزمنية أسس مذهباً فقهياً عرف بالمذهب الزيدي الهادوي، وهو يختلف كلياً عن المذهب الفقهي لزيد بن علي رضي الله عنه**(4)** ، كما يختلف عنه عقدياً (5).
والذي يعنينا في هذه الورقة البحثية هو: كيف أثَّر التجديد الفقهي في المذهب الزيدي على المذهب وعلى الدولة.
والحقيقة: أن ظاهرة التجديد الفقهي في المذهب الزيدي بقدر ما أخرجت لنا كوكبة من المجتهدين أمثال: ابن الأمير، وابن الوزير، الشوكاني، والمقبلي، والجلال، والعمراني من المعاصرين؛ إلا أن لها آثاراً كارثية على المذهب وعلى بناء الدولة، وهذا ما سنقف عنده في هذه الورقة العلمية.
ونستطيع أن نوجز تلك الآثار السلبية في الآتي:
أولاً: تحت ذريعة فتح باب الاجتهاد في المذهب الزيدي تميعت هوية المذهب، وفق الأهواء الطائفية، والمصالح السياسية، والرغبات الشخصية لأئمة الزيدية.
ما هو الأساس الذي قام عليه المذهب الزيدي في اليمن؟
فمن الأسس التي قام عليها المذهب الزيدي(الهادوي) في اليمن فتح باب الاجتهاد، وأن كل مجتهد مصيب (6)، وقد كان من حسنات هذا المنهج خروج أئمة أعلام من رحم المدرسة الزيدية عن أصول هذا المنهج واتباعهم للمنهج السني السلفي؛ بحثاً عن الدليل ووقوفاً عند ما صح عن أئمة السلف وآل البيت أصولاً وفروعاً، أمثال: شيخ الإسلام الشوكاني، وابن الأمير الصنعاني، وابن الوزير، وغيرهم.
إلا أن فتح باب الاجتهاد فتح الباب على مصراعيه لكل من يريد نصر أهوائه أو تثبيت حكمه أو إدراج ما ليس من المذهب فيه باسم (الاجتهاد) الأمر الذي ميَّع هوية المذهب، وأفسد أصوله، وأذاب فروعه، حتى لا تكاد تجد الزيدية في عصر إلا وهي في صراع فكري يؤول إلى الصراع المسلح والصراع الفكري الذي ينتج عنه التكفير والبغي على المخالف ولو كان من أبناء المذهب نفسه.
حيث أصَّلوا لمسألة ثبوت الحق لكلّ إمام أن يجتهد لنفسِه، ولا يصحّ لنفسِه أن يُقلّد غيرَه؛ لذلكَ نقلوا لنا مخالفات الإمام زيد بن علي لأخيه محمد الباقر، وخالف أحمد بن عيسى بن زيد جدّه زيد بن علي، وخالفَ الإمام الهادي سلفَه زيد بن علي، وخالفَ المرتضى محمد بن يحيى أباه الهادي، وجاء أحمد بن سليمان وعبد الله بن حمزة وخالفوا الهادي وهكذا ساروا إلى يوم الناس هذا.
هل المذهب الزيدي ينتسب حقًا إلى الإمام زيد بن علي؟
الأمر الذي أضاع هوية المذهب الزيدي، وباتَ من الصعب نسبة المذهب الزيدي إلى شخص بعينه، وتحول الانتساب إلى مذهب زيد بن علي مجرد انتساب رمزي لموافقته في مسألة الخروج على الحاكم الظالم فقط، وهذا بدوره مكن لكل صاحب هوى من أئمة الزيدية عبر التاريخ أن يحرف مذهب زيد وينسب إليه ما يحلو له ابتداءً من قاعدة فتح باب الاجتهاد وانتهاء بتلفيق تلك الآراء إلى المذهب الزيدي.
وقد أكد عبد الله بن حمزة هذا المعنى في أكثر من موضع في كتابه الشافي، حيث يشير إلى أن الانتساب إلى زيد بن علي إنما هو مجرد القول بالخروج على الحاكم الظالم**(7)**، وهي مسألة تحير فيها الناس قديماً وحديثاً، لا سيما المنصفون من أتباع المذهب.
وقد أدى هذا المسلك المزاجي في مفهوم الاجتهاد إلى التشكيك في هوية المذهب الزيدي من قبل أبنائه، من أهل اليمن، وخير شاهد على ذلك القصيدة الموسوعة بـ(عقود التشكيك) لإسحاق بن يوسف، والتي أرسلها إلى محمد بن إسماعيل الأمير، والذي بدوره استفسر مع جماعة من علماء عصره، عن صاحب المذهب الزيدي، وواضع قواعده، وجامع شتات مسائله، في منظومة لا يتسع المقام لذكرها، جاء فيها:
ردَّ عليها ابن الأمير برسالة منظومة بعد أن قرأ ردوداً كثيرة لم تعجبه، وردَّ عليها غيره وعرَّج في قصيدته على ما كان حاصلاً في عصره من الطعن في الصحابة، وأئمة الحديث، فلما اطلع إسحاق بن يوسف على الردود لم تعجبه كل تلك الردود، فجمع رسالة سماها(التفكيك لعقود التشكيك)، فلما وقف عليها شيخ الإسلام الشوكاني لم يستحسنها ـ كما يقول ـ فكتب عليها جواباً سماه(التشكيك على التفكيك)(8).
وهذا بدوره يعطينا صورة أن فتح باب الاجتهاد على مصراعيه في المذهب الزيدي سهل مهمة أهل الأهواء والبدع من الهادوية الجارودية في تحريف أصول المذهب الزيدي تحت هذه الذريعة، وتقريبه من مدرسة الرفض.
وخلاصة القول: فإن المذهب الفقهي المنتشر في اليمن هو مذهب الإمام الهادي، ثم فرَّع عليه أنصاره من بعده، وخرَّجوا على أقواله فخالفوه ووافقوه، بناء على قاعدة فتح باب الاجتهاد عندهم، وزعموا أن الجميع يرجع إلى القواعد الفقهية التي يرجع إليها كل رأي داخل إطار المذهب الهادوي.
والسؤال الذي يطرح نفسه: هل واضع هذه القواعد هو الإمام زيد؟ أم الإمام الهادي؟ أم أنه مجرد خروج من الحرج الذي يواجهه أصحاب المذهب عندما لا يجدون ما يحسنون به الإجابة على حقيقة المذهب؟.
ولو رأينا حال الزيدية اليوم، لوجدناهم قد تنكروا للمذهب تنكُّراً كلياً؛ بارتمائهم في أحضان الاثنى عشرية: سياسياً وعقائدياً من باب: اقتلوني واقتلوا مالكاً معي، وأكبر دليل على ذلك مذكرات حسين الحوثي، وكذا مناهجهم التي تدرَّس في مدارسهم الخاصة، والتي يفرضونها اليوم على مؤسسات التعليم في اليمن، وكذا إحياء المناسبات على طريقة الرافضة الاثنى عشرية، وغير ذلك مما يمكن أن نسميه اليوم: بالتحول المذهبي، وهذا كله يشكك في صحة أصل المذهب إذْ لو كان أصحابه يعتقدون صحته ما تنكروا له، وويل للعامة الذين يُقادون إلى ما لا يعرفون.
والشاهد مما سبق أن مساعي التجديد داخل المذهب الزيدي أياً كان هدفها والمقصد منها قد أصابت المذهب بمقتل، حتى أصبح مذهباً هلامياً تتجاذبه النزعات الطائفية والرغبات الشخصية، والقناعات الفردية، وهو ما أدى إلى حيرة العقلاء قديماً وانسلاخ الأتباع حديثاً.
ثانياً: ظهور المجتهدين في المذهب الزيدي وأثره على التجديد في المذهب والدولة:
سبق الإشارة إلى أنه خرج من رحم المذهب الزيدي جملة من المجتهدين الأمر الذي ساهم في تطوير المذهب وتجديده، بل وساهم في بقاء الدولة الزيدية فترة أطول.
لكن بالمقابل عانى هؤلاء المجتهدون الأمرين من المتعصبين للمذهب، ونكلوا بهم، وضيقوا عليهم؛ بل وصل بهم الحال إلى أن تشرد بعضهم بسبب عصبية المتمذهبين.
ويبقى التساؤل الأهم وهو: ما مدى صحة نسبة هؤلاء المجتهدين إلى المذهبية، ويمكن نقاشه في النقاط الآتية:
الأول: هل يصح نسبة الأعلام المجتهدين إلى الزيدية؟
لا تصح نسبة هؤلاء الأعلام إلى المذهب الزيدي بإطلاق، لأنه لا يمكن القول إنه بمجرد تتلمذهم على شيوخ الزيدية، أو انتسابهم إلى الزيدية جغرافياً، أو انتماؤهم لأسر هي في أصلها زيدية المذهب؛ لا يعني ذلك أن يكونوا بالضرورة على مذهب الزيدية.
فابن الوزير في عواصمه ردَّ على الزيدية في قضايا عقائدية متنوعة، وقد كُتِبتْ رسالة دكتوراه في جامعة أم القرى بعنوان(ابن الوزير وآراؤه الاعتقادية)، قرر الباحث في نتائجها: أن ابن الوزير اشتغل بالذب عن السنة النبوية تدريساً وتصنيفاً ومناظرة لأهل البدع، وكان مجتهداً أكثر منه زيدياً؛ بل إن مشايخه من الزيدية حاربوه وآذوه، وانتصر عليهم**(9)**.
وفي كتابه(إيثار الحق على الخلق في رد الخلافات إلى مذهب الحق من أصول التوحيد) خير شاهد على براءته من الانتساب إلى مذهب.
وابن الأمير الصنعاني كان محسوباً على مدرسة المحدثين، وحاول متعصبة الزيدية قتله مراراً، ومن يطلع على كتابه(تطهير الاعتقاد من أدران أهل الإلحاد)، وغيره من كتبه، لا يجد أدنى شك في سلفيته، وانتسابه لأهل الحديث.
أما الإمام الشوكاني، فقد عانى الأمرين من المتعصبين، حتى تآمروا عليه وحاولوا قتله، بل إن الزيدية يتهمونه بأنه من علماء السلاطين الجهلة، كما اتهموه باستغلال منصبه السياسي في القضاء للفتك بمخالفيه**(10)**، حتى وصفه بعضهم بأنه أسير الحشوية، المائل عن المذهب (11).
ولا يوجد في تراثه ما يثبت زيديته، سوى تتلمذه على بعضهم، ومجرد التتلمذ وحده لا يكفي دليلاً لإثبات التمذهب، كما أسلفنا.
الثاني: الذي يطالع في تراجم الزيدية لهؤلاء الأعلام يجزم يقيناً أن هؤلاء بعيدون كل البعد عن الزيدية، فقد حوت تراجم الزيدية كثيراً من الطعن واللمز في هؤلاء الأعلام، وانتقاصهم، ونسبتهم إلى أهل السنة، ومدرسة المحدثين، بل اتهموهم بمعاداة المذهب الزيدي (12).
الثالث: عند قراءة تراث هؤلاء الأعلام يتضح لنا أن هؤلاء الأعلام امتداد طبيعي لحركة الاجتهاد عند أهل السنة، حيث ساروا على منهج السلف في أصول الاعتقاد ومسائله، ومنها مسائل الإمامة، والموقف من الصحابة وأمهات المؤمنين، وغيرها من مسائل الاعتقاد المختلف فيها بين أهل السنة والزيدية.
الرابع: حتى الأعلام الذين ينتسبون إلى الزيدية، ويعتنقون عقائدها الاعتزالية؛ لكنهم متحررون من التقليد، والتعصب الأعمى، ولا يخوضون في جناب الصحابة الكرام كالمقبلي؛ لم يسلم منهم، فقد باع بيته في اليمن، وهاجر إلى مكة؛ لما لاقاه من أهل العصبية العمياء من الزيدية؛ حتى اتهموه بالزندقة (13)، وعندما ترجموا له أشاروا بأنه خرج من المذهب بدعوى الاجتهاد (14).
فرغم أن الزيدية من الناحية النظرية تؤصل للاجتهاد وتدعوا إليه إلا أنها تمارس التقليد من أوسع أبوابه، وتحارب المجتهدين بشتى السبل.
فعلى سبيل المثال: الصراع الذي دار بين مدرستين زيديتين، وهما: المخترعة والمطرفية، كان من أبرز مآخذ المطرفية على المخترعة خروج المخترعة على مذهب الهادي وعدم تقليده، لأن المطرفية كانت ترى حرمة الخروج على المذهب الهادوي، وبالمقابل خرجت المخترعة على المذهب خروجاً كبيراً في كثير من مسائل الفقه والعقيدة.
ومن الأمثلة على محاربة الزيدية للمجتهدين ولغير المقلدين في المذهب، ما حصل للعلامة نشوان بن سعيد الحميري، الذي كان يسير على خطى زيد بن علي، والذي كانت له رؤى تجديدية في بعض المسائل مثل: مفهوم الآل، وبعض شروط الإمامة؛ رغم أهليته للإمامة إلا أن المجتهدين من الزيدية أهدروا دمه لهذا السبب، وقد لخص هذا الموقف عبد الله بن حمزة في بيت شعري إجابة على فتوى قدمت له بشأن نشوان، ومبيناً حكمه عليه:
فأجاب عن هذه الفتوى بقوله:
وهكذا كلما حاول فقهاء الزيدية من خارج المؤسسة السلالية السعي إلى الحكم تتلاشى أمام جمود السلاليين وتنتهي بالدماء والحروب والفتاوى التي توظف لخدمة السلاليين في القضاء على خصومهم من الفقهاء والقضاة (15).
وبقدر ما حارب أئمة الزيدية المجتهدين حاربوا من لم يقلد المذهب، بل وأنزلوا عليه أقسى الأحكام.
يقول شيخ الإسلام الشوكاني: “إذا رأوا من يفعل الرفع والضم ونحوهما، كالتوجه في الصلاة بعد التكبير، والتورك في التشهد الأخير، والدعاء في الصلاة بغير ما قد عرفوه، عادوه عداوة أشد من عداوتهم لليهود النصارى، وظنوا أنه على شريعة أخرى، وعلى دين غير دين الإسلام، وأوقعوا في أذهان العوام أنه ناصبي، فانتقوا من فعله لهذه السنن أو أحدها إلى النصب؛ الذي هو بغض علي، وحكموا عليه به حكماً جازماً، فانظر هذا الصنع الشنيع، الذي هو شبيه بلعب الصبيان، ومما أحكيه لك: إني أدركت في أوائل أيام طلبي رجلاً يقال له: الفقيه صالح النهمي (16) قد اشتهر في الناس بالعلم، والزهد، وطلب علوم الاجتهاد طلباً قوياً، فأدركها إدراكاً جيداً، فرفع يديه في بعض الصلوات، ورآه يفعل ذلك بعض المدرسين في علم الفقه المشهورين بالتحقيق فيه، والإتقان له، فقال: اليوم ارتدَّ الفقيه صالح “(17).
فخلاصة الاجتهاد والتجديد في المذهب الزيدي هو دوران حول الأشخاص لا حول قيم التجديد، فهم من أشد المذاهب ممارسة للتقليد.
وهذا ما أشار إليه ابن الأمير، في جوابه لسؤال عن حكم التكفير بالتأويل، فقال: “فهنالك يلقنهم الشيوخ أن في الأمة المحمدية علماء كفار تأويل، ويشددون عليهم الأقاويل، ويزيدون في التهويل، من غير معرفة لما قيل من الدليل، فيقلدون شيوخهم، وشيوخهم مقلدون، فتكون ظلمات بعضها فوق بعض”(18).
المحور الثالث: أثر التجديد في المذهب الزيدي على الدولة سلباً وإيجاباً:
هناك ميزة في المذهب الزيدي وهو أن الحاكم لا بدَّ أن يكون مجتهداً أو محتسباً عند عدم اكتمال شروط الاجتهاد، بمعنى أن الحاكم يجمع بين السلطة الدينية والسلطة السياسية.
وبقدر ما منحت هذه الخصيصة ديناميكية لبقاء الدولة الزيدية عبر التاريخ بقدر ما وظف الحاكم قدراته الفقهية واجتهاداته لخدمة مصالحه السياسية.
فقد ساهم التجديد الفقهي في المذهب الزيدي على استيعاب دويلات الزيدية التي كانت تظهر بين الحين والآخر على أساس ديني مستغلة العاطفة الدينية للمجتمع اليمني، وكذلك حاول الحاكم عبر التاريخ – إلى حد ما – أن يبقي على الجو العام للتدين الفردي والشعبي الذي لا يتعارض مع شرعيته السياسية، الأمر الذي ساهم في بقاء تلك الدويلات فترة أطول.
أما في الجانب السلبي فقد أثر التجديد على بقاء الدولة سلباً، حيث عرضها للصراع البيني على منصب الإمامة، وهذا بدوره أضعف الدولة الزيدية عبر مراحل كثيرة من تاريخها.
وإليك بعض الأمثلة:
جاء الهادي إلى اليمن وأسس مذهباً ودولة؛ ونظراً لرواج سوق التشيع الحسيني في عصره، وقول جمهور الشيعة(الإسماعيلية والاثنى عشرية) بحصر الإمامة في سلالة الحسين بن علي – وهي فكرة سلالية فارسية – وجد الهادي نفسه مضطراً لصبغ دولته الجديدة بصبغة دينية لكنه لا يملك نسباً إلى سلالة الحسين قال بجواز الإمامة في البطنين(ما تناسل من فاطمة من سلالة الحسن والحسين)، وقال بجواز أن يكون الإمام حسنياً أو حسينياً، ومن هنا وظف قدراته الفقهية لخدمة مصالحه السياسية.
ولما تصارع الأبناء والأحفاد وتنازعوا أفتى أئمة الزيدية تحت ضغط الواقع بجواز ظهور إمامين في عصر واحد شريطة أن يكون كل إمام في بلد، ثم تصارع ورثة الحق الإلهي والحكم السلالي على تركة الحكم في البلد الواحد، فوجدوا من يفتيهم بجواز ظهور إمامين في قطر واحد.
وعندما اختلفت المطرفية الزيدية مع المخترعة الزيدية حول مدى أهلية أئمة المخترعة للإمامة واستجماعهم لشروطها تم توظيف المؤسسة الدينية والطبقة الفقهية في تصفية هذا الصراع الذي أسفر عن تكفير المخترعة للمطرفية واستباحة دماء كل مطرفي؛ وإقصائهم عن مناصبهم السياسية ورتبهم الدينية؛ ذلك أن السلطة السياسية الزيدية لا تقبل بمنافس فقهي ولو كان من ذات المدرسة، بل تسعى إلى الاستحواذ على السلطتين معاً؛ لتضمن لنفسها البقاء على سدة الحكم تحت غطاء ديني.
وهكذا يسخر الفقيه سلطته الدينية لتتخادم مع مصالحه كحاكم أو مع مصالحه مع الحاكم بعيداً عن النظر المقاصدي لمصالح الأمة ابتداءً وانتهاء.
والخلاصة التي يمكن أن نخرج بها من هذه الورقة هي:
أولاً: ساهم التجديد الفقهي في المذهب الزيدي في بروز كثير من المجتهدين الذين خرجوا من رحم المدرسة الزيدية وتحرروا من عصبيتها.
ثانياً: ساهم التجديد الفقهي في ظهور اجتهادات فقهية في السياسة الشرعية تسمح باستيعاب الخارجين على الخلفاء العباسيين ذوي المرجعية الشيعية عموماً والسلالية على وجه الخصوص، كما ساهم في استيعاب الصراع البيني في إطار السلالة من خلال القول بجواز ظهور إمامين في عصر واحد أو في بلد واحد.
ثالثاً: ساهم التجديد الفقهي في بقاء دويلات الزيدية في اليمن لفترات طويلة موظفة بذلك الخطاب الديني والعاطفة الدينية لدى المجتمع اليمني.
رابعاً: نظَّر رواد المدرسة الزيدية للاجتهاد والتجديد ومارسوا الإرهاب الفكري والفقهي والإقصاء السياسي بغطاء ديني عبر التاريخ.
خامساً: وقفت الزيدية موقفاً سلبياً من مدرسة المجتهدين سواء من أبناء السلالة أو خارجها ووظفوا المؤسسة الدينية في إقصائهم ومحاربتهم والقضاء عليهم أحياناً بعد إصدار فتاوى التكفير لهم.
سادساً: أثرت دعاوى التجديد الفقهي عند الزيدية في ضياع هوية المذهب وتشتيته فقهياً وعقدياً بسبب تناقض الفتاوى والاجتهادات وخضوعها للرغبات الشخصية والمطامع السياسية.
سابعاً: المذهب الزيدي في الوقت الحاضر يمر بعملية اغتيال معنوي كبير أشعل فتيلها أبناؤه بسبب دعاوى الاجتهاد وممارسات القمع بمختلف صوره، وأكملها خصومه التاريخيون من المذهب الرافضي الانثى عشري من خلال ابتلاع رموزه ومرجعياته، حتى أصبح المذهب مطية للرفض وأداة من أدوات الصراع المذهبي المقيت، ساهم في ذلك غياب المرجعيات الزيدية المنصفة وعند وجود بعض رموز الإنصاف يفتقدون إلى الحاضنة الشعبية التي باتت لا تؤمن بالتعايش ولا تثق إلا بالمشاريع الطائفية المستوردة.
الهوامش:
- معجم اللغة العربية المعاصرة، لأحمد مختار عبد الحميد عمر، بمساعدة فريق عمل، عالم الكتب للنشر، ط1، 1429هـ – 2008م، 1/348.
- معجم لغة الفقهاء، لمحمد رواس قلعجي وحامد صادق قنيبي، دار النفائس للطباعة والنشر والتوزيع، ط2، 1408ه- – 1988م، ص 121.
- التعريفات، للجرجاني، تحقيق: إبراهيم الأنباري، دار الكتاب العربي، بيروت، ط1، 1405هـ، ص 216.
- لمزيد من التفاصيل حول هذا المعنى راجع: مخالفات الإمام الهادي في كتابه الأحكام للإمام زيد بن علي في
- المجموع الفقهي والحديثي(رسالة ماجستير)، لعبادي العسولي.
- لمزيد من التفاصيل راجع بحثنا: براءة الإمام زيد بن علي من عقائد الزيدية(دراسة تحليلية عقدية)، بحث محكم منشور في مجلة كلية التربية بجامعة كفر الشيخ بجمهورية مصر العربية(العدد الثاني ـ المجلد الثاني ـ السنة الخامسة عشر، 2015م).
- كانت (القاسمية) من الديلم و(الناصرية) من الجيل يخطئ بعضهم بعضاً إلى زمن (المهدي أبي عبد الله بن الداعي)، فأوضح لهم أن كل مجتهد مصيب، وكذلك كان (جمهور اليحيوية) باليمن يخطئون مخالف الهادي إلى زمن المتوكل أحمد بن سليمان، الذي عمل بهذه القاعدة وعممت بعده.[الفصول اللؤلؤية في أصول العترة الزكية، لصارم الدين بن الوزير، تحقيق: محمد يحيى سالم عزان، مركز التراث والبحوث اليمني، 1/299].
- الشافي، لعبد الله بن حمزة، تحقيق: مجد الدين المؤيدي، منشورات مكتبة أهل البيت، صعدة، الطبعة الأولى، 1430هـ ـ 2009م، 2/354 و 3/206، 3/631.
- البدر الطالع، للشوكاني، 1/136، والزيدية نشأتها ومعتقداتها، لإسماعيل الأكوع، ص59، وما بعدها.
- ابن الوزير وآراؤه الاعتقادية، لعلي بن علي جابر الحربي، ص623.
- أعلام المؤلفين الزيدية، لعبد السلام الوجيه، ص259.
- كتاب الإيضاح شرح المصباح الشهير بـ(شرح الثلاثين المسألة)، لأحمد بن يحيى بن أحمد بن حابس الصعدي، مراجعة وتصحيح: حسن بن يحيى اليوسفي، دار الحكمة اليمانية، صنعاء، الطبعة الأولى، 1420هـ ـ 2000م، ص411.
- راجع: ترجمة الشوكاني في كتاب: أعلام المؤلفين الزيدية، لعبد السلام الوجيه، ص259.
- أعلام المؤلفين الزيدية، لعبد السلام الوجيه، ص 465.
- كتاب الإيضاح شرح المصباح الشهير بـ(شرح الثلاثين المسألة)، لابن حابس الصعدي، ص 396.
- المجموع المنصوري(مجموع كتب ورسائل الإمام المنصور عبد الله بن حمزة)، القسم الأول، 1/611.
- إشكالية الفكر الزيدي في اليمن المعاصر، لعبد العزيز قائد المسعودي، مكتبة مدبولي، القاهرة، ط1، 2008م، ص235.
- لم أعثر له على ترجمة، سوى ما ذكره شيخ الإسلام الشوكاني عنه، وهذا دليل على عمق تعصب الزيدية، فقد غمروا علماء أعلام بسبب مخالفتهم لهم في المذهب، أو في بعض اختيارات المذهب، والله المستعان.
- أدب الطلب، للشوكاني، ص 85.
- إقامة الدليل على ضعف أدلة تكفير التأويل(دراسة علمية موثقة)، لابن الأمير الصنعاني، دراسة وتحقيق وتعليق: عبد الله بن محمد الفقيه، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الأولى، 1430هـ ـ 2009م، ص175.