نشر بواسطة: the school of life
هل يمكن أن نصبح أكثر ذكاءًا إذا قرأنا أكثر؟
يساوي العالَم الحديث بين الشَّخص الذكي و القارئ الجيد؛ لأنَّ قراءة الكثير من الكتب هي سمة الذكاء, والبوابة العظمى إلى السُّمو والفهم. من الصعب تخيل أحدًا يصل إلى رؤىً ذات قيمة دون أن يشق طريقه في قراءةِ عدد هائلٍ من الكتب على مرِّ السنين، ولا يوجد حدٌّ واضحٌ لعدد الكتب التي تجبُ علينا قراءتها. منطقيًا و مثاليًا، قد نقرأ طيلة الوقت، ونصبح أكثر ذكاءً في كلِّ لحظةٍ نقرأ فيها، وعدد الكتب التي نستطيع قراءتها طيلة حياتنا ستخبرنا كلما نحتاجه عن مدى تعقيد و نضج عقولنا.
فلسفة الحد الأقصى للقراءة:
تتمتعُ هذه الفلسفة التي تدعى “فلسفة الحدّ الأقصى للقراءة” بتقدير ثقافي كبير، ومدعومة من مؤسسات إعلامية, و دور نشر ضخمة تعرض أمامنا عناوين جديدة باستمرار، و توحي بأننا قد نتخلَّفُ عن الرَّكب سريعًا ويُحكَمُ علينا بضيقِ الأفق وانغلاقه, إذا لم نسارع بقراءةِ أربعة من الكتبِ الفائزة بالجوائز الرئيسية لهذا العام, وسبعة عناوين شيقة حصلت على تقييماتٍ مذهلة؛ ونتيجةً لذلك، رفوفنا مثقلة, و إحساسنا بالذَّنب حول مدى تخلفنا في تصاعد.
الحد الأدنى للقراءة في عالم ما قبل الحداثة:
مع ذلك – ووسط هذا الضغط لشقِّ طريقنا من خلال عدد متزايد من العناوين – قد نتوقف للتفكير في جانب مذهل لعالم ما قبل الحداثة: لم يكن النَّاس تحت أي ضغط للقراءة كثيرًا. كانت القراءة تعتبر مهمَّة جدًا، لكن عدد الكتب الجديدة التي يقرأها المرء كان شيئًا عابرًا، ولم تكن هذه مشكلة اقتصادية في الأساس؛ بالطبع كانت الكتب باهضة الثمن، لكن لم تكن هذه مشكلة حقيقية. كان الأمر المهم أن يقرأ المرء بعض الكتب بوعي، لا أن يبعثر تركيزه على عددٍ هائلٍ من المجلدات بشكلٍ عشوائي.
ما الهدف وما الغاية من القراءة؟
وجهنا عالم ما قبل الحداثة إلى قراءة القليل جدًا من العناوين؛ لأنه كان مهووسًا بسؤالٍ تحب الحداثة التملص منه: ما الهدف والغاية من القراءة؟ كان لدى العالم القديم إجابات. لنأخذ مثالًا مهمًا للغاية: حدَّد المسيحيون والمسلمون قيمة القراءة في هدفٍ محدد ومحدود للغاية: بلوغ القداسة. القراءة كانت محاولة للوصول إلى فهم الإله. هذا يعني أنه في كلا الديانتين يجب أن يعتبر كتابًا واحدًا ، وكتابًا واحدًا فقط – الإنجيل أو القرآن – أكثر أهمية من أي كتاب آخر. كان يُعتقد أنَّ قراءة هذا الكتاب، بتكرار و اهتمام شديد، ربما خمس صفحات أو نحو ذلك في اليوم ، أكثر أهمية من الإسراع في قراءة مكتبة كاملة في الأسبوع ؛ في الواقع ، كان من الممكن النظر إلى التوسع في القراءة بعين الريبة؛ لأنَّ معظم الكتب الأخرى – إلى حدٍّ ما – ستكون حتمًا مضللة ومشتتة للانتباه.
وفي العالم اليوناني القديم، كان من المفترض أن يركز المرء على معرفة وثيقة بكتابين فقط: أوديسة وإلياذة هوميروس؛ لأنهما يعتبران المصدر المثالي لميثاق الشَّرف اليوناني وأفضل دليل للعمل في الجيش والشؤون المدنية. بعد ذلك بوقتٍ طويل، في القرن الثامن عشر في إنجلترا، كان عُرف القراءة السائد يمثل التركيز على كتاب الإنياذة لفيرجيل، وكان استظهار هذا الشعر الطويل عن ظهر قلب هو كل ما يحتاجه الرجل النَّبيل ليُعدَّ حينها مثقفًا. القراءة أكثر كانت تعتبر علامة على التشتت والتحيّر، وأمرًا غير صحيٍ أيضًا.
يمكننا أن نجد نظرية الحد الأدنى للقراءة في اللوحات القديمة لأحد العلماء المسيحيين، القديس جيروم – الذي كان بكلِّ المقاييس المفكر الأهم في المسيحية، والذي ترجم الأجزاء اليونانية والعبرية من الإنجيل إلى اللاتينية، كتب عددًا كبيرًا من الشروح والتعليقات على الكتاب المقدَّس, وهو مرجع للدارسين حاليًا، . وعلى الرغم من كل جهوده العلمية، يتضح أن كتبًا معدودةً جدًا هي التي اعتمد عليها في دراسته. اللافت للنظر أنَّ أكثر مفكري الكنيسة ذكاءً وتفكيرًا في الكنيسة القديمة قرأ أشياء أقل من متوسط قراءة شخص في الثامنة من العمر في العصر الحديث.
الحد الأدنى للقراءة في العالم الحديث:
لقد ابتعد العالم الحديث بشكلٍ كبير عن نهج الحد الأدنى للقراءة في العصر القديم. لقد تبنينا شعار التنوير الذي يسير في اتجاه مختلف تمامًا، حيث ينص على أنه لا ينبغي أن يكون هناك حد لمقدار ما نقرأ, وعند الإجابة على سؤال: لماذا نقرأ؟ هناك إجابة واحدة فقط ستكون شاملة وصعبة التحقيق: نقرأ لنعرف كل شيء. نحن لا نقرأ لفهم الإله أو لاتباع القيم المدنية أو لتهدئة أذهاننا. نحن نقرأ لفهم الوجود البشري بأكمله، والاكتشاف الكامل للكواكب وتاريخ الكون بأكمله. نحن مؤمنون بفكرة شمولية المعرفة؛ كلما أنتجنا واستوعبنا كتبًا أكثر، كلما اقتربنا من استيعابِ كلِّ شيء.
إنَّ إدراك هذا القدر الهائل من الطموح يساعد على تفسير سبب رسم المكتبات في فترة التنوير على هيئة قصور شاسعة لا نهاية لها للتعلم, وتوحي بقدرٍ شاسعٍ غير محدودٍ لما ينبغي تعلمه.
قد لا نعلم كم نحن مدينون لفكرة التنوير عن القراءة، لكن فكرة الحد الأقصى موجودة في مجال النشر، في الطريقة التي يتم بها تقديم الكتب للجمهور في المدرسة وفي المتاجر – وضمن ردود أفعالنا الشاعرة بالذنب تجاه الضغط لقراءة المزيد.
يمكننا أيضًا أن نخمن أنَّ هذا النهج الشَّامل للقراءة لا يجعلنا سعداء بشكلٍ خاص. نحن نغرق في الكتب، وليس لدينا وقت لإعادة قراءة أحدها ونبدو وكأنه قُدِّر علينا الإحساس الدائم بأننا نقرأ أقل مقارنة بأقراننا, وبما تعتبره وسائل التواصل جدير بالاحترام.
ما الغاية الحقيقية من القراءة؟
وفي سبيل تسهيل حياتنا وتبسيطها، قد نجرؤ على طرح سؤال تقليدي جدًا: لماذا أقرأ؟ هذه المرة عوضًا عن الإجابة “لكي نعرف كل شيء” يمكننا أن نركز على هدف أكثر تحديدًا وفائدة، قد نقرر -مثلًا- أنَّ ما نحتاجه نحن حقًا هو تحصيل المعرفة المفيدة لنا، لنمسك بها زمام الأمور في حياتنا الخاصة. أو قد نرفع شعارًا جديدًا لترشيد قراءتنا: نريد أن نقرأ لنشعر بالرضا عن أنفسنا، لا أقل ولا أكثر.
وهكذا, مع استحضار هذا الطموح الجديد الأكثر توجيهًا في الاعتبار، يبدأ الكثير من الضَّغط للقراءة باستمرار وغزارة وعشوائية في التلاشي. فجأة يصبح لدينا نفس الخيار الذي كان مفتوحًا للقديس جيروم؛ قد يكون لدينا عشرات الكتب فقط على أرففنا – ومع ذلك لا نشعر بأي حال من الأحوال بالنقص أو الحرمان الفكري.
بمجرد أن نعلم أننا نقرأ لنكون راضين، لن نحتاج إلى مطاردة كل كتاب تمَّ نشره هذا العام.
يمكننا التركيز على العناوين التي تشرح بشكل أفضل ما نعتبره الأجزاء المكونة للقناعة. على سبيل المثال، سنحتاج إلى بعض الكتب الأساسية التي تشرح لنا ما نعتبره جزءًا من مكونات ثقافتنا وقناعاتنا. والتي تعلمنا كيف تنجح العائلات, وكيف يمكن أن نتوادَّ بشكل أفضل، والتي تعلمنا كيفية العثور على وظيفة نحبها وكيفية تنمية الشجاعة لتطوير فرصنا. وسوف نحتاج بضعة كتبٍ تتحدث عن الصداقة والحب، وعن والودِّ والصحة، وقلةً أخرى من الكتب عن كيفية السفر، وعن التقدير والامتنان والتسامح.
سنبحث عن الكتب التي تساعدنا على التزام الهدوء, ومحاربة اليأس, وتقليل خيبات الأمل لدينا. أخيرًا، سنبحث عن الكتب التي ترشدنا بلطف إلى كيفية تقليل النَّدم, وتعلم الموت بسلام.
مع وضع هذه الأهداف في الاعتبار، لن نحتاج إلى مكتبةٍ لا حدودَ لها، ولن نضطر إلى مواكبة جداول النشر بجنون. كلما فهمنا ماهية القراءة بالنسبةِ لنا، كلما استمتعنا بعلاقاتٍ عميقة مع القليل من الكتب, يمكن أن تكون مكتباتنا بسيطة، وعوضًا عن التطرق إلى عناوين جديدةٍ، فإن إعادة قراءة أعمال سابقة قد تصبح أكثر أهمية، وتعزيزًا لما نعرفه بالفعل لكنه يميل للنسيان.
إنَّ القارئ الجيد حقًا ليسَ من يقرأ عددًا هائلًا من الكتب، بل من أعطى نفسه الفرصة لتتشكل تشكلًا عميقًا, لتكون لها القدرة على العيش والموت بشكلٍ جيد, بعددٍ قليلٍ جدًا من الكتبِ المختارة بعناية.
ترجمة: عبد القادر عنين