ردًا على الأخ أنس بن مالك العدَّاي وفقه الله.
أخي الكريم: أشكر لك في البداية ما تكلَّفتَ من جهدٍ في صياغة ردِّك المطوَّل الذي دلَّ على ما تتمتَّع به من حرارة الانتماء وصدق الغيرة -فيما نحسب- على الدين والعروبة، وإني إن خالفتُك في ما ذهبتَ إليه فلأسباب “موضوعية” تتعلق بتحرير موطن النزاع، وأما أصل المسألة فلا خلاف بإذن الله، فكلُّنا عربٌ وكلُّنا مسلمون، وليس فينا من يرضى أن تُمسَّ العروبة أو يُمسَّ الإسلام بكلمة أو بربعها أو بأقلَّ من ذلك، فضلاً عن أن يُجري قلمه فيه بما لا يُرتضى.
أخي الكريم: حين نشرتُ ردَّك بنصِّه في صفحتي على فيسبوك تقاطرت تعليقات الأصدقاء قائلةً كل ما يمكن أن يقال، محيطةً بالموضوع من جوانبه، مشيرةً إلى أصول المشكلة في ردِّك، والتي يمكن إجمالها فيما يلي مع إضافات وتوضيحات من عندي:
أولاً: عدم المعرفة بشخصي المتواضع: فإن جميع من يعرفني من الأصدقاء مدركون تماماً لنزعتي العربية الواضحة، ولكلَفي بلغتنا المَجيدة وتراثنا الزاخر، فلا يُعقل بل لا يُتصوَّر أن أوافق رأي الشعوبية أو أن أقول بقولهم في دقيقٍ أو جليل، كيف وأنا العربي دماً ولساناً، لا أقرأ بغير العربية ولا أكتب بسواها، وجلُّ ما أبذله من جهودٍ في حياتي الأدبية إنما هو للدفاع عن هذه اللغة وخدمتها بكل سبيلٍ أستطيعه؟
ثانياً: مجاوزة الحد في العصبية للعرب: لكأنك لمستَ في كلامي إساءةً للعرب لما وصفتُهم به، فأنشأتَ تدافع عنهم ذلك الدفاع المستميت الذي جاوزتَ به القصد وخرجتَ به عن الموضوع. إن العرب من حيث أصل الخِلقة بشرٌ كالبشر، ميَّزهم الله بطبائع أهَّلتهم لتكون الرسالة منهم، وليكون رسول الله صلى الله عليه وسلم نبياً عربياً من خير قبائل العرب. لكن هذه الأفضلية العامة للعِرق العربي لا تعني أفضلية الأفراد العرب في كل زمان ومكان، ففي العرب قديماً وحديثاً كفَّارٌ وفجَّار، ومنهم شرار الخَلق وحطب النار، كما أن من العجم صالحين وأخياراً في كلِّ زمان ومكان. إنما التفاضل بالدين والتقوى. ثم إننا في حديثنا عن الطبائع البشرية العامة، وعن الملَكات والمهارات، وعما هو دنيويٌّ صِرف، فإننا ننظر في الواقع كما هو، ونعترف بالأفضلية لمن ثبتت أفضليته، وليس من إهانة العرب في شيءٍ أن نقرَّ بأن هذه الأمة أو تلك تتفوَّق عليهم في هذا المجال أو ذاك، فالواقع واقعٌ لا سبيل إلى إنكاره، ونحن إن كنا نقرُّ للعرب بالعبقرية في مجالات محددة، فإن للأمم الأخرى عبقرياتها الخاصة التي تتفوَّق بها على العرب، وهذا أوضح من أن يُتكلَّف بيانُه أو أن تُضرَب لأجله الأمثلة.
ثالثاً: الخروج عن الموضوع: كان ما تحدثتُ عنه في مراجعتي للكتاب محصوراً في نطاقٍ موضوعيٍّ ضيقٍ هو علاقة الإنسان العربي المعاصر بفنِّ الأنيمي الياباني، لكنك يا أخي حمَّلت كلامي ما لا يُحتمل، ومضيتَ تعدِّد فضائل العرب ومآثرهم التاريخية في التأليف والعمران والحضارة، ورميتني بالشعوبية وبأني سائرٌ في طريقها، وبأني أمجِّد “الحضارة اليابانية” بكلِّ ما فيها من الإلحاد والشرك وفساد العقيدة!
ولو أنك يا أخي حرَّرتَ موطن النزاع ولزمتَه لما انجرفتَ إلى أحاديث بعيدةٍ تماماً عن الموضوع المتناوَل، ولما بنيتَ ردَّك على تصوُّرات ذهنية موهومة لا يصحُّ منها شيء؛ فلا يستقيم في الذهن أن تربط حديثي عن الإنسان العربي المعاصر في علاقته بأعمال فنية متلفزة بالعرب القدماء ومآثرهم العظيمة! فأين نحن اليوم من تلك العصور؟ وأين عرب هذه الأيام من عرب العصور الزاهرة؟ وما علاقة العرب القدماء بالأنيمي الياباني؟ وهل من الإساءة للعرب في شيء أن نقول بأن اليابانيين أفضل منهم (ومن الغربيين) في الرسم وإبداع القصص الخيالية؟
أخي الكريم: لقد بنيتَ ردَّك على فكرة أني أمجِّد الحضارة اليابانية، وليس في كلامي أي تمجيدٍ لتلك الحضارة، بل هو إقرارٌ موضوعيٌّ بتفوُّق اليابانيين في مجالٍ فنيٍّ معيَّن، وهذه حقيقة لا تقبل النقاش كما لا يقبل النقاش قولُنا بأن الألمان -مثلاً- أكثر الناس إتقاناً لصناعة السيارات، فهل من إهانة العرب في شيء أن نقرَّ بتفوُّق الألمان عليهم في الصناعة والجودة والإتقان؟ إن العلوم والفنون والصناعات أمورٌ مستقلةٌ في ذواتها عن العقائد والأخلاق، لذلك فليس تناقضاً أن نقول -مثلاً- بأن الغرب يفضُل العرب في الصناعة والفن، وأن العرب تفضُل الغرب في الغيرة والكرم. وكذلك في المواضيع الفنية كالأنيمي وغيره، فإنه تحصيل حاصل أن نقرَّ بتفوُّق اليابانيين فيه من حيث الصناعة والخيال، وأما العقائد والأخلاق فموضوعٌ مستقل، ولا أحسبنا سنختلف فيه إذ نحن جميعاً مسلمون، وينبغي أن ندعو إلى أن تكون لدينا ولدى أبنائنا من المناعة الفكرية والعقائدية ما يدفعهم لحسن الاختيار أولاً، وما يحميهم بعد ذلك من التأثر بما يخالف ديننا وأخلاقنا مما قد يوجد في آداب غيرنا وفنونهم.
ولا مجال للحديث هنا عن منع تلك الآداب والفنون، فضلاً عن اعتبار بعضها من “خوارم المروءة” كما ذكرت! بل لا يخرم المروءة إطلاقاً تذوُّق الفنون، وإنما قد يخرمها تبلُّد الحس وجفاف الذائقة، والعجز عن استشعار الجمال حيثما وجد وأياً كان مصدره.
أخي الكريم: إن مكانة العرب محفوظةٌ بما فُضِّلوا به من الطبائع وبما أبدعوه من المآثر العلمية والأدبية والعمرانية والحضارية، وإنما اقتصر حديثي على فئة من العرب المعاصرين في موقفهم من أحد الفنون الخيالية، وليس من إهانتهم في شيءٍ أن نحاول تفسير ظاهرةٍ ما تفسيراً موضوعياً، وأن نتوجَّه بدعوةٍ إلى التصالح مع الخيال وتقبُّل الفنون الخيالية، والتي أثبت المجلُّون في مضمارها أن خصوبة الخيال قد تصنع العجائب، وأن الموقف المتحجِّر من تلك الفنون يحرمنا من كثير من المتعة والفائدة، بل ويخفي عنا نظرات فريدة إلى الكون والحياة تستحقُّ أن تُتأمَّل وأن يُمتصَّ رحيقها، بما لا يخالف ثوابتنا العقائدية والأخلاقية بطبيعة الحال.
ولستُ محتاجاً إلى الدفاع عن نفسي، لكني أختم بإشارةٍ لشيءٍ أتبرَّأ به مما رميتَني به، وهو مراجعةٌ كتبتُها قديماً (عام 2016) لكتاب “العرب، وجهة نظر يابانية”، فها هو ذا كتابٌ ألَّفه رجلٌ يابانيٌّ ينتمي للذين قلتَ أنني أمجِّد حضارتهم، يحطُّ فيه من قدر العرب الذين قلتَ أنني سائرٌ في ركاب أعدائهم من الشعوبيين، فماذا كان موقفي من الكتاب وكيف صغتُ مراجعتي له؟ سأكتفي يا أخي بنقل الفقرة الأخيرة من تلك المراجعة، ولك الرأي بعد ذلك فانظر ماذا ترى: “إننا نحن العرب والمسلمون لنا هويَّتنا، ومبادئنا، وأخلاقنا، وتراثنا، ولنا ديننا العظيم الذي ندين به، ولنا الوحي المنزَّل من فوق سبع سماوات، ولنا سنَّة رسولنا صلى الله عليه وسلم. ومن ديننا نأخذ مبادئنا وشرائعنا وأخلاقنا، وإذا انحرفنا فإننا نحن من نحدد الانحراف وبواعثه، ونحن من ينبغي أن يصف دواءه، ولا نحتاج ليابانيٍّ كافرٍ كي يعلِّمنا كيف يجب أن نفكر وكيف يجب أن نعيش! فضلاً عن أن يقيسنا -متعالياً– إلى قومه أصحاب الفطرة المنتكسة، والذين لو عدَدنا فضائحهم ومخازيهم وفظائعهم الشنيعة ما أحصيناها… ولا يقال لمثل هذا الكاتب إلا: ظُفر مسلمٍ عربيٍّ برقبتك ورقبة قومٍ من أمثالك… وكفى!”.
* رابط مقال (على هامش النَّقد: قراءة القراءة)