آدم الجماعي
يرتكز العمل السِّياسي على ثلاثة مستويات ضرورية، وكل مستوى يؤسس للمستوى التالي بعده:
1ـ مستوى الفكرة السياسية.
2ـ مستوى الحركة السياسية.
3ـ مستوى السلطة السياسية.
وقد نجحوا في إثراء الوعي السياسي على المستويين: الأول والثاني؛ وأما مستوى “السلطة السياسية” فما زالت تواجههم تحديات عميقة؛ ويُعَدُّ المأزق الذي يواجهه الإسلاميون اليوم.
نقطة الضوء تبدأ من إدراك الماجريات السياسية؛ سيما التفريق بين فنين:
الأول: “فن إدارة الشعوب”؛ وغرضه: “الكسب الشَّعبي” بالأغلبية للوصولِ إلى الحكم.
الثَّاني: “فن إدارة السلطة”؛ وغرضه: “الكسب السياسي” لمزيد من القوة للنفوذ داخل الدولة.
فإذا كان لكل فنٍ غرضه، فله أدواته وخطابه وخطته الملائمة. فالوصول إلى السلطة يعني: تغيير الخطة السياسية بما يتلاءم مع كفاية “إدارة السُّلطة” داخل الدولة؛ لأنَّ غرضها شروطها وأدواتها تختلف عن خطة “الكسب الشعبي” في الشارع السياسي.
فلا نستغرب أن ينجح الإسلاميون في “فن إدارة الشعوب” لاستثمار “الكسب الشعبي”؛ كرافعة للوصول إلى الحكم؛ ثم يُخفقون في “إدارة السلطة” بضَعْف الرهان على “الكسب السياسي” بمزيد من النفوذ؛ مما تختلّ عليهم موازين “إدارة السلطة”.
وهذا ما يمكن مناقشته من خلال المشكلات الآتية:
(1) «موازين القوة»:
عندما يتولى الإسلاميون “السلطة” بعد صراع طويل من ممارسة “المعارضة السياسية”؛ يظلون متأثرين بـ “روح المعارضة والثورة”، ويمارسون السلطة بموازين “التنافس السياسي”، ويواجهون عبئ الخطاب المتضخِّم بشعارات “الحل الإسلامي”؛ ليجدوا أنفسهم أمام أزمة في الآلية، وقصور في كفاية القوة مع إدارة السلطة، وتنفتح أمامهم فجوات الصراع مع القوى المنافسة.
بينما موازين “إدارة السلطة”؛ تعني: الكفاية في استثمار عناصر القوة داخل الدولة، لإنتاج المصلحة الوطنية وِفق العادات الدستورية، والنظم السياسية؛ لإثبات مدى ملاءمة الإسلاميين في إدارة الدولة، والحكم الرشيد. وكلما توفرت الكفاية في استثمار عناصر الدولة من داخلها؛ كانت سبيلاً للمزيد من القوة، والمزيد من نفوذ السلطة.
وتبدو مشكلة أخرى: عندما يستدعي الإسلاميون التجارب المعاصرة في أي بلد؛ لاستنساخها في بلدانهم. مع وجود التفاوت الكبير بينها في موازين القوة؛ ومع إهمال موازين القوة المتوفرة في البلد نفسه!. فكأن نجاح الإسلاميين في أي بلد يعني: أن التجربة قابلة للاستنساخ برمتها؛ حتى ساد الولع باستيراد نفس الشعارات، وأسماء تلك الأحزاب والحركات، والانفتاح على الخطابات السياسية بشيء من المبالغة.
ويغلط الإسلاميون أيضًا: بمستوى التمكين والتحكم بمعادلات الصراع مع القوى المنافسة والمعارضة، في تشكيل الحكومة، وكيفية إدارة المشكلات، وفرص الحوار، وتمكين الشراكة، ومعالجة قضايا الحقوق والحريات، واقتراح التعديلات القانونية.. وغيرها. ويكمن الغلط في ضعف “المبادرة” لدى الإسلاميين، ورضوخهم تحت طائل “رد الفعل”.
ثالثاً: «الأرضية المشتركة»:
ممارسة “إقصاء المعارضين” من استحقاقاتهم السياسية، لا ينسجم مع مصلحة الدولة التي تمثل “الأرضية المشتركة” لكل الفئات الوطنية، ولأن التحكُّم بالسلطة لا يعني إقصاء القوى السياسية الأخرى؛ كون العلاقة مع الدولة أوسع من وظيفة السلطة.
وقد غلط الإسلاميون إبّان ثورات الربيع في معالجة مشكلة “الدولة العميقة”؛ بقرار “العزل السياسي”؛ لإقصاء عناصر الأنظمة السابقة، حتى انعكست في ظاهرة سياسية سلبية. وهذا ما أفقدهم التوازن في إدارة السلطة، ومما أتاح للخصوم تنظيم تحالفات “الدفع الخلفي”؛ التي خلقت حالة الثورة المضادة.
كما أن إحداث التغيير على خريطة المناصب السيادية لم يأخذ حظه من التقييم الدقيق، من حيث ظروف صناعة القرار، أو معايير الترشيح، أو أولوية الكفاءات. سيما مناصب القيادة العسكرية، وسلك القضاء والقانون. فكان اللعب بهذه الخريطة مثقلاً بأعباء حرجة على الإسلاميين، وأحرجهم أمام المشهد السياسي بأنهم يخططون لتطويق الدولة.
حتى أن الإسلاميين لم يدرسوا مبدأ “المسؤولية الواسعة” على “أرضية مشتركة” بما يساعد على معالجة “الدولة العميقة” بسياج قانوني فاعل، وتحويل خطة التغيير إلى خطة للرقابة على المسؤوليات. وتكوين رأي شعبي، وتوافق سياسي؛ قبل اتخاذ القرارات في هذا الشأن.
رابعاً: «القلق السياسي»:
طبيعة التنافس والصراع حول السلطة أن تنشأ معها حالة “القلق السياسي”، وتكون حاضرة بقوة لدى الفئة الحاكمة. وكل القوى السياسية تتعامل معها بفن “علم النفس السياسي”؛ لتقييم مظاهر اعتلال النظام السياسي، ومعايير الولاء والانتماء داخل السلطة، ونمو حالات التطرف، ونشوء الكيانات المعارضة، وقياس ملامح الثورات.. وغيرها.
لكن الإسلاميون أصيبوا بمشكلة “القلق السياسي” المنعكس عليهم سلباً بالإفراط؛ سواءٌ مع تيارات المحيط الإسلامي، أو المنافسين السياسيين، وقياس قضايا الحرية والتعبير، وحق الشراكة السياسية.. وغيرها. فتعاملت بالمعايير السطحية لتصنيف المخالفين، وفقدت بوصلة “إدارة القوى” نحو المصلحة الوطنية؛ لتنشغل أكثر بسياسة “الاحتواء” أو “الإقصاء”؛ وهو الأمر الذي خلق التذمر السياسي، وعدم الرضا عنهم في السلطة.
خامساً: «تنظيم السلطة»:
غلبت على الإسلاميين بعض التصورات المثالية والتاريخية في موضوع الخلافة، وعندما وصلوا إلى الحكم حملوا معهم خطاب “التنظير للسلطة” أكثر من مهنية “تنظيم السلطة”؛ فبالغوا في ترشيح “الثقات” على حساب “مبدأ الكفاءة”.
وغالباً ما ينشط الإعلام المعارض في تقييم كفاية الإسلاميين، ويتابعهم على مساحتي “التنظير والتنظيم” داخل السلطة وخارجها! ليسيطر على وعي الرأي العام. في حين لا يأخذ الإسلاميون بعين الاعتبار هذه المهارات والمهنية المقبولة في تسخير الإعلام الحكومي، ولا يدرسون الخطة الإعلامية لتغطية أداء السلطة بما يطمئن الرأي العام؛ بينما يتضخم “الخطاب التعبوي” الموجَّه للموالين، أكثر من براعة الخطاب المهني الذي ينتظره الجمهور والنخب الوطنية.