ما الذي يدفعُ إنسانًا إلى إعادة قراءةِ كتاب؟!
من أهمّ دوافعه، تتبعُ أفق توقعه للعمل (النَّص/الصورة)، ومدى توافقها أو تخييبها لأفقِ التَّوقع المرصودِ لديه.
يتحركُ سيْلٌ من الأسئلةِ في داخلي لمعرفة ما يحملُ المتلقي على إعادةِ قراءةِ أو مشاهدةِ عملٍ انكشفت له (آفاقه)، وزالت بواعثُ الدَّهشةِ عنه، وباتَ خطُّ سيْره مرسومًا في ذهنه. فما الذي يدفعه إلىٰ هذا الاجترار والتَّكرار؟!
يظهر أنَّ (القارئ) ما زالَ يبحثُ في النَّصِ عن سرٍّ دفين، لمَّا يعثر عليه بعد. يحتمُ عليه العودة، أو ثمَّةَ ارتباطٌ بينَ القارئ والنَّص= علاقة حميمية تكونت في اللقاءِ الأول، وباتت عودة القارئ إلىٰ النَّصِ عودة اغتراف شعوري يروي الظَّمأ، ويسدُّ منافذ الفراغ لديه. وفي بعضِ الأحيان يبني القارئ أفقًا جديدًا عبر اكتسابه لوعيٍ جديد/ أداة معرفية، تفضي به إلىٰ النَّظر في النَّص نظرة مغايرة للقراءةِ السَّابقة.
ما الذي يدفع إنسانًا إلى إعادة مشاهدةِ عملٍ دراميّ؟!
أمَّا إعادة مشاهدةِ العمل الدرامي، فذاك أمرٌ متعلقٌ بسحْر اللحظةِ التي ما زالَ مأخوذًا بها منذ اشتباكه الأول.
فرغم حفظه لدقائق كلّ مشهد، ومعرفته بدكةِ الختام؛ لا يزال الحضور متوهجًا لديه؛ لرغبته في إبقائه، بسبب تأثيرات عديدة يشعر بها عند اندماجه مع الصورة…!
وفي المحصلةِ النهائية، تُوحي إعادة المشاهدة/القراءة بجودة العمل المعروض/ المقروء الذي استطاع أن يكشفَ أسراره ثمَّ يعود بكرًا كيومِ ميلاده الأول.
‹ذلك أنَّ الآثار الأدبية العالية هي التي تنمي انتظار المتلقي بـ الخيبة، إذ الآثار الأخرىٰ التي ترضي آفاق انتظارها وتلبي رغبات قرائها، وتروي ظمأهم بسهولةِ ويسر؛ هي أعمال عادية تكتفي باستعمال النَّماذج العابرة، والصور النمطية في عمليةِ البناءِ النَّصي المكشوف›.
أمَّا الآثار التي تخيبُ آفاقَ الانتظار، وتضعُ ‹المتلقي› في جو متوترٍ من التفكير، والمساءلة؛ فهي التي تستحقُّ أن يُعادَ إليها مرة أخرى؛ لأنها تحتفظُ بإكسير البقاء= صناعة الدهشة المتجددة. وفاعليتها الممتدة في نفوسِ القراء في كلِّ زمانٍ ومكان.
في الفيلم الفرنسي (القصير) Emilie Muller (1949) تصابُ بخيبةٍ ثقيلة، إرباكٌ حاد، انتفاضة متخمة بالمتعةِ وعنف السؤال، لا تترككَ مهما استطالَ بك الزَّمن، ففي غمرة انشغالكَ يصيبك شيءٌ من السِّحْر الذي رأيته في هذا الفيلم العبقري القديم، أقول في نفسي: لو كررتُه مرارًا لما ضاقَ بي خناق الإلف، والملل؛ لأنك تركضُ في نصٍّ بصريٍّ يحيا وَفْق خطة سابقة يحددها بذاته ويشرع في تنفيذ بنودها بدقة متناهية منذ لحظة التبدي للمبدع إلى أن يصير نصًّا تامًا، بإمكانك أن تقرأه مرة بعد أخرى دون أن تنكسر حدة إثارته، وما يحدثه في النَّفس من تساؤلاتٍ مفتوحة. كيف تركتَ لنفسك أن تستمع لتلك المحاورة دونَ أن تفكر ولو مجرد تفكير عابر أنَّ حالة الجمال الذي جسَّده الحوار لم يكن هو المقصود ذاته؟ وإنما حالة الرَّعب التي تعيشها عندما تكتشف أنَّ الإجابات السَّاحرة التي سردتها Emilie Muller كان بناءً لحظيًا بديعًا، كأنها تنهل من ذاكرةٍ طرية غلفت بمظروفٍ أنيقٍ ترويه علينا لحظةً بلحظة، قدرتها تلك، تكشفُ ببراعةٍ أننا – البشر – نمارسُ قصَّة واحدة متفرِّعة الجذور، مفتوحة النهايات، لكنَّ الأصل واحد، ذكرى مثقلة بحيواتٍ متكررة من ثنائياتٍ متضادَّة، تختلفُ في طريقةِ السَّرد، والعرض، وعفوية Emilie Muller.
تجليات اللحظات الأخيرة:
عند توسيعِ دائرة السؤال الذي يلحُ بفرضِ ذاته في الفَضَاء الإبداعي وعلاقته بالمتلقي، أجدني يشغلني دومًا سؤال التَّأثير، هل هو لحظيٌّ عابر أم باقٍ إلى أزمانٍ لا حدَّ لها؟
يتجلى لديكَ عند لحظاتِ الانتهاء من قراءةِ أو مشاهدةِ عملٍ فنيٍّ عبقري؛ إحساس بالحزن النَّبيل، يهبطُ عليكَ فجأة؛ شعورٌ بالوداع، وإحساسٌ بالانفصالِ عن الزَّمانِ والمكان الذي عشتَ فيه لحظةً بلحظة، تشعرُ أنكَ تفقدُ شخصيات كنتَ تعرفهم من قبل، حالتْ بينكَ وبينهم الحلْقَة أو الصَّفحة الأخيرة…!
أحيانًا أقضي بضع أيامٍ للخروجِ من دوامةِ الانتهاء، محاولة نسيان كل الفصول التي انتقلنا إليها، وتنقلنا فيها، الابتعاد عن الإحساس بالعودةِ من المكانِ الذي نُصِبَتْ في ساحته قصَّةُ البدء إلى مكاني الذي أجلسُ فيه.
تأثير العمليات العبقرية على المتلقي:
في الأعمال العبقرية يتوحَّد المتلقي/القارئ المشاهد مع شخصياتِ وأبطال العمل، ويضعُ نفسه في أماكنهم في لحظاتٍ كثيرة؛ ثم يتوقعُ ما يمكن أن يفضي إليه تفكيره في تلكَ الأزمات والمواقف الحرجة التي يمرُّ بها البطل الافتراضي، وما يمكن أن يفعله البطل القابع خلف غلاف شاشة أو كتاب!
من هنا تأخذ الفنون أهميتها ومكانتها في التأثير والتغيير، والقدرة على حفْر كثيرٍ من المعاني والأفكار بطريقةٍ هادئة، يتشربها المتلقي سريعًا دونَ أن يعي طبيعتها في كثيرٍ من الأحيان.
ما زلتُ أتذكر جيدًا عندما كنَّا نشاهد – سويًّا – مسلسل “المال والبنون”، كنتُ أسترقُ النَّظرات خلسة وإخوتي تنحدر دموعهم في لحظةٍ عالية من التَّأثر والتَّجلي، وأمي تمسحُ البلل من عينيها، ولا زلتُ أتذكر أني بكيتُ على موت “أسامة” عندما قُتِلَ بيد والده “ابن الوهَّاج” في مسلسلِ الجوارح!
ومن منَّا لا يعيشُ في مخيلته “عبد الله غيْث” الذي قام بدور حمزة بن عبد المطلب، وموقفه الخالد في الأذهان؛ وصفعته المدوية لأبي جهل، ما زلنا نحفظُ مقولته الشهيرة: “ردَّها عليَّ إن استطعت”.
شعرتُ أيضًا بحرارةِ الانفصال والشعور بالوداع عندما خرجتُ يومًا من دوحةِ الأندلس، وجلال قرطبة، ورهبتها، كان انتهاء مسلسلي “ربيع قرطبة”، و”ملوك الطوائف”، انتهاء لحالة من الدَّهشة، والعيش في روابي الأندلس، وفقدان للذةِ الفصحى التي تطرب لها الآذان، ومفارقة لمن كنَّا نعيشُ معهم ويعيشونَ معنا على مدى أيامٍ من حالة الانتقال الشعورية والحقيقية في الآن ذاته.
ما زلتُ أقف قريبًا من تلةٍ تطلُّ على مدينةِ غرناطة، رأيتُ يومها، أبا عبد الله الصَّغير، واقفًا، يبكي، ساكنًا مضطربَ النَّظرات شارد الذِّهن من الهوْل، بعد أن سلَّمَ غرناطة، كان صوتُ أمه الأميرة عائشة الحرة مسموعًا، تقول: “ابكِ كالنِّساء مُلكًا لم تحافظ عليه مثل الرجال”. ما زلتُ أقفُ بجسدي المصلوب في المكان المسمى بـ”زفرة العربي الأخير”.
أمسِ انتهيتُ من مشاهدةِ عملٍ فنيٍّ باذخ، ومن لحظتها وأنا أشعرُ أني بقيتُ وحيدًا، كأنهم رحلوا من نافذة غرفتي دونَ وداع.. وبقيتُ وحدي أندبُ مرارةَ الفراق، ويبقى مثل هذا الأثر بضع أيام في نفسي حتى أرخي ستائر النِّسيان، واستمرّ في المسير.
لم تُشف نفوسنا بعد من ألمِ الفراق في واقعنا الحقيقي، حتى يضفي أثره علينا عبر حيواتٍ افتراضية تتركُ فيكَ أثرًا يذكركَ بالرَّاحلينَ نيامًا...!
المقال ممتاز كالعادة من الكاتب الرائع أ. خالد بريه. أتفق معه فيه في كثير مما ذهب إليه. والموضوع ذو شجون. وأفكار أ. خالد أثارت الأفكار التالية عندي. قد يكون فيها قليلا من الاختلاف عما ذهب إليه، لكن في المحصلة النهائية أظنكم ستتفقون معي في أنها أفكار تثري الموضوع ولا تمس جوهر مقاله الذي ذكر فيه أمثلة لطيفة لبعض الأعمال الإبداعية التي فعلا خبرتها بنفسي مشاهدة.
تعليقا، أقول: ذهن الإنسان عادة هو الذي يقوم بعمليات التحليل والتركيب والفهم والاستبصار في الحياة عموما؛ وهذا جهد كبير لا ينبغي الاستهانة به. ومع ذلك، فعملية التفكير هذه عملية تصحبها متعة (متعة فكرية) وتعقبها راحة ورضا عند الإنسان. تخيل هناك من يقوم بعملية التفكير هذه بدلا عنك وأنت تنظر أو تسمع أو تقرأ، ألا يكون قد وفر عليك عناء ذلك الجهد المصاحب لعملية التفكير تلك؟
مَهَمَةُ عملية التفكير المجهدة تلك، في جُلِّها، توفرها لك الأعمال الإبداعية (سواء كانت مرئية أو مسموعة أو مقروءة) وأنت مسلقٍ في كرسيك أو سريرك. نعم، ولكن ماذا ستستفيد أنت من ذلك؟ إجابة أقول: هنا تبقى المتعة (دعنا نقول المتعة الفكرية) من نصيبك؛ وهي ما تجعلك تبحث عنها في الأعمال الإبداعية التي توفرها لك وِفْقا لخلفيتك المعرفية ومزاجك وذوقك. أقول المتعة الفكرية لأنها متعة لا تنتهي بانتهاء حبكة العمل الإبداعي أو معرفة تفاصيله؛ المتعة الفكرية تتعدى تفاصيل وحكاية العمل الإبداعي إلى الشعور أو الإحساس باللحظات المصاحبة لتلك التفاصيل والحكاية كلها. هذا الشعور أو الإحساس قد يكون مرتبطا بقيمة جمالية أو قيمة أخلاقية أو قيمة دينية؛ (بشكل عام، قيم عليا).
الإفتراض أعلاه هو أن عطاء الأعمال الإبداعية للمتلقي عطاء إيجابيا؛ لكن ماذا إن كان ذلك العطاء سلبيا؟ ألا يمكن أن يكون كذلك كالدعوة لإفساد القيم مثلا بقالب جمالي جذاب؟ ممكن، أليس كذلك؟
هناك مقال لي في مكان آخر (رابطه أدناه) يتحدث عن النقطة الأخيرة وبالتحديد عن التشييد التصوري في الأعمال الأدبية من ناحية فلسفية مهمة لمن يرغب بالمزيد. ومما ورد في المقال الإقتباس التالي:
” الأعمال الأدبية ليست خيالية تمامًا، ولا واقعية تمامًا، وإنما خليط بين الاثنين، تهدف في نهاية المطاف – لنا كعربٍ مسلمين على الأقل – للرقي بإنسانيتنا في الواقع المعيش، وتعزيز القيم الإنسانية النبيلة فينا، إنْ أحسَن أُدباؤُنا ونقَّادنا ضبطَ معادلة تلك العلاقة، وليس أن تفصِلَنا فكرًا وممارسة عن واقعٍ يراد لنا أن نتخيَّلَه دائمَ التشكُّل في الأذهان فقط”.
https://www.alukah.net/literature_language/0/108028