آثار

العُكفة.. والغداء الأخير (2 – 2)

لم تعتن الذاكرة الشفهية بتوثيق تفاصيل تلك المعركة، ولم يصلنا عبرها سوى النزر اليسير، وتمثل أبرزها – حسب إفادة الصحفي بندر المحيا، نقلًا عن معمررين – ببروز اسم قائد إمامي اسمه يحيى علي مهدي، اشتهر بـ (ابن سويدان)، وتولى مهمة الهجوم الأول، ولقي مَصرعه في القُرب من دار الزربة، وذلك على يد الثائر محمد غالب مُحسن من عُزلة خُريشة المُجاورة، وبمساندة مائزة من قبل الثائران عبدالحميد شمسان من صَنِمَات، وعبدالحميد نعمان من حصبان، والأخيرة أيضًا عُزلة مجاورة لصَنِمَات، وتقع في شمالها الغربي.

الشاعر الشعبي مُكرد البدوي، نسبة لخدير البدو، والذي حل حينها ضيفًا في عُزلة النجادة المُجاورة، ولمدة شهرين، تسنت له مُعايشة معظم تلك الأحداث عن قُرب، ونقل تفاصيلها بقصيدة طويلة، ولأنَّ تناقل تلك القصيدة تم شفاهة، ولم تحظ بالتدوين الجيد، فقد فقدت بعض أبياتها، وحُرفت بعض كلماتها، واختل وزنها، وهي على ركتها لا تخلوا من معلومات مهمة، سننثر أبرزها في السطور التالية.

اختزل الشاعر مُكرد لحظات الهجوم الإمامي الأول، الذي تولى قيادته القائد ابن سويدان بقوله:

مـــن بعـــــد هـــــذا جـــــَــــانـــــا هــــــــاجس دفر

من بحـــــر سيحــــــون ويغــــرف من الجوهر

وقـــــم يـــــــا فتــــــى وخـــــذ القـــــلـم واشــــــــعر

واذكر صُنـــــــامة حيــــــث الـــــذخـــــائر تندي

والـــــزم تِلــــــــزم وعنـــــــــد الصبــــــح شِطــــــلعْ 

وهــــــز الجبل جُمــــلة واذكر بنـــــــي مصرع

يـــــــا اهــــــــل الـــــــذخــــــــائر والـــــــروم تقــــطع 

والطيــــــر عــــــــاكـــــــف والتحــــــاضيـــــر تندي

جُـــــــمــــــلــــة فــــــــي صُـــــــنــــــامــــــــة تُــــــكـــــــسر

مــــــن بعـــــــد مــــــــا بــــــــدي هـــــــــــذا الأعـــــــور

طَلَّـــــــــع مـــــــــدافـــــــــع ونـــظــــــــام وعســـــــــكر

قــــــائدهم بن ســــويدان يحيى علي مهدي

اعتنى الشاعر مُكرد بتخليد بطولات ثوار صَنِمَات، ووصف تنكيلهم لعساكر الإمامة بصورة مُبالغ فيها، وشنع على الأخيرين وأميرهم علي الوزير الذي نعته بـ (الأعور)، وتحدث عن مصرع قائد هجومهم الأول (ابن سويدان)، الذي أغفل مؤرخو الإمامة ذكره، وعدد ضحاياهم بـ 90 قتيلًا، غير الجرحى، في حين تجاوز عدد ضحايا الطرف المُقاوم الخمسة شهداء، ومن قصيدته الطويلة اقتطفنا أيضًا:

وعنــــــــد الـــــــــوصـــول يـــــــــا صاح تـــــفـــــــكر

كم يـــــــا مَقــــــاتــــيـــــــل راحــــت من العسكر

ومـــــــن الــــــرعيـــــــة خـــــمســــــة نفــــر وأكثر

واختـــــلــط الجيــــش في المـــــواقع الفردي

وجبـــــــريــــــل يُنــــــادي من عــالي الحجاب 

أخــــــي يا عـــــــزرائيل يـــــا كــــــواب الـــــرِقـاب

جــــــاءنا أميـــــر الجيـش هو ساحر كذاب 

وهــــــو دجــــــــال ولـــــــــه أمـــــــــائر عــــــــــنــــــدي

وعنـــــــد المــــــشـــــــافات وعـــــزرائيل واقف 

فقــــــلــــــــت مُنـــــــكر في قبـــــــورٍ غـــــــــاطــــــف

ونكيـــــــر يٌحـــــــرر كـــــم راحت من عرائف 

في بطـــــــون اللحــــــــود مــــــالهـــــــم مــــن حدِ

هــــــــذي اللـــــــــحـــــــود وجملــــــــوهم جُمـــلة

عنــــــــد الفـــــــــرش ورصفــــــــوهــــــم جـَــــمــــعـــــة

الله أكــبــــــــر مـــــــــا هــــــــــذه الـــــــــــوقــــــــعــــــــــــة

تسعيـــــــن نــــــقيــــــــب قـــد صاروا في اللحد

وأضاف مُشيدًا بعزلة صَنِمَات، وتاريخها البطولي، وبعزلتي خريشة، وحصبان اللتان شاركتها انتفاضتها تلك:

هـــــــذا يـــــــــا صــــــديــــــقي حقيــــقي واتخبــر

إن صُنـــــــامة مـــــــــن قــــــبــــــــل هـــــــذا تُــــــــذكر

تشـــــهد لهــــــم صُهبــــــان وجبـــــــال التعكر

تشهـــــــد لهم بعـــــــــدان وبــــــــلاد الجعـــــدي

صُنـــــــــامة المــــــــــوت يـــــــا صديقي واسأل 

وعنــــــــد الصِــــــــــــــدام رصــــــــاصــــــهم مُنـــــزل

ويــــــــــوم البَــــــرْد بـــــــارودهـــــــــم يـــــــــشــــــعــــل

أهـــــــل النصـــــــال مُـــــــرهـــفـــــــــات الــــــــحــــــــدِ

يا أهـــــل العقــــــول والحــــــس والإذهــــــــان 

يا أهـــــــل المغـــــــارس العـــــــلب والأغصـــان

خــــــريــــــشــــة وصنــــــامة مـــــع بنــي حصبان 

جُمـــــلة يــــــبلغــــــهم الســــــلام مــــــن عنــــدي

وقد جاء تصوير الشاعر مُكرد للدمار الذي لحق بمنازل الموطنين في قرى عُزلة صَنِمَات مُقتضبًا، واكتفى بالقول:

فقــــــــلت لهــــــــم أيــــــن الحصــون الــــــرَافع 

وأيــــــــن النـــــــــوب الظــــــــافـــــــرة مـــــــن طــــالع

وأيـــــــن هـــــــم كـــــــم مــــــــن شــــــــهاب قاطع 

وأيــــــــــــن الملــــــــوك اللي أسمـــائهم عندي

تفقــــــدت القصور فقلت ما هذا المُنكر

وما سبب فــــــعــــــل هــــــذا الأميـــــر الأعــــور

وكــــــم مــــــن جُـــــلب في صُنـــــــامـــة يُكسر 

وكم مــــــن نقــــيب عند الحُــــرامي الضـدي

أدرك بعد ذلك من تبقى من ثوار، بأنْ لا طاقة لهم بمواجهة ذلك الجيش الجرار، فتسللوا هاربين من أطراف عُزلة صَنِمَات، في جنح الظلام، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «فعلموا حينئذ أنَّهم لا طاقة لهم بالصبر على هذه الحرب الضروس، ولا بملاقاة هجمات المجاهدين، وقد أنزلوا بهم كل بؤس، وقتلوا منهم عدة، وأخذوا منهم بثأر من قتلوهم غيلة، في أوجز مدة، فدافعوا عن أنفسهم إلى أنْ أسبل الليل أستار ظلامه، وانسلوا من طرقٍ لا يعرفها سواهم».

أشاد المُؤرخ أحمد الوزير – هو الآخر – بثوار صَنِمَات، وحدد المدة الزمنية لهذه المعركة الحاسمة بأكثر من يومين، وقال: «وقد واجه أهل صَنِمَات هذا الجيش ببسالة، واستمرت المعركة أكثر من يومين، واكتسح الجيش القرية الحصينة».

بعث الشاعر الإمامي علي بن عبدالله الشامي بعد ذلك بقصيدة طويلة للأمير علي الوزير يونيو 1920، هنأه فيها بذلك النصر، وبتوصيف أدق بذلك النصر الذي لم يكتمل، وقال عن تلك المعركة:

ويـــــــوم ظـــــل نـــــار الحرب فيه 

مــــنــــبـئــــــة بــــــأيــــــــام الـــمـــــعــــــــــــــــادِ

كيـــــــوم الجـــــمـــــعــــة الغراء لما

كسا حصــبـان أثواب الحـــــــــدادِ

وقـد ثكلتــــه من صَنِمَات دور

مُجللــــــــة بــــــأكــــفــــــان الــــــرمـــــــــاد

وشنــت غـــــارة بخميس جيشٍ 

يضـيــــق لحـــــربها صم الجمـــــــــاد

فيـــــا سُحقًــــا لحصـــــبـان وبُعدًا

بــــــه صَنِمَات مُــــلحقــة بــــعــــــــــــــادِ

وأضاف مُشيدًا بالمجاميع القبلية التي شاركت في تلك المعركة:

فلــــلــــه الــــعــــــرائف كــــــل قـــــــــرمٍ 

معــــــد للــــطـــــراد ولـــــــلـــــــجــــــــلاد

هـــــــــراكيل الوغى إنْ ضاق فيه 

نطــــــاق الأمن بــالكرب الشداد

علــــــت قـــــــدرًا بـــــــه غيـلان لما

تــــــلتـــــهم أرحـــــب سـم الأعادي

وحــــاشد ذو الكرم ونهم أيضًا

وأهــــــل الروس نُصرة كل هادي

وأكــــــرم بــــــالشوافـــع إنَّ منــــهم 

نجار الحرب إنْ نادى المنادي

لقد شهـــدت لحربهم الرواسي 

وأرجــــــاء الــــــربــــــوعــــــات الوهاد

فخـــاضوا حومة الهيجاء شوقًا

إلى حـــــربِ البغـــــاة بـــلا تمادي

8 1 العُكفة.. والغداء الأخير (2 – 2)

عمليات استنزافية

استباح عساكر الإمامة بعد ذلك عُزلة صَنِمَات، وما حولها من عُزل وقرى مُعلقة، وأفرغوا الشعاب من الأنعام، والمدرجات الزراعية من المحاريث، والمدافن من الحبوب، وصادروا جميع الأسلحة والذخائر من المواطنين، ممن شاركوا في تلك الانتفاضة أو لم يُشاركوا، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «واحتوى المجاهدون على أموالهم، وأرضهم، وقراهم، واستأذنوا في قلع قاتهم، وهو شيء كثير.. فقلعوه من أصوله».

أمتدت أيادي أولئك العساكر المُتوحشين بعد ذلك إلى مَنازل المُواطنين، وقامت وبتوجيه من الإمام يحيى نفسه بهدمها، وتركها قاعًا صفصفا، باستثناء المُشرف منها، التي ارتأوا الإبقاء عليها، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «ثم أمر مولانا الإمام بهدم دورهم التي كان فيها جرأتهم على العصيان، وفعل ما يُغضب الرحمن، وشدد الإمام في ذلك، فمكثت أيدي الخراب تعمل في تلك المباني مدة غير قصيرة، إلى أنْ ألحقت بالعدم».

وقال المُؤرخ حمود الدولة مُتباهيًا: «وكان الأمير قد فاوض الإمام في أمرهم، وما جرى من تعديهم ونكرهم؛ فأمر الإمام حفظه الله بهدم كل دار بُنيت للفساد في بلادهم، أو تأهبت للعناد من آبائهم وأولادهم، فأهدم جميع حصونها هدمًا بتا، وصارت قاعًا صفصفا، لا ترى فيها عِوجًا ولا أمتا، إلا ما انتخبه من المحلات الحصينة، والدور الزبينة، فكان إبقاؤها للترتيب فيها، وكان استحسان المحافظة عليها».

المهام النضالية لأبناء صَنِمَات لم تتوقف عند حدود تلك الانتفاضة، فالاستباحات المُطلقة لممتلكات الرعية، وتدمير مَنازلهم المتواضعة، وتحويل من تبقى منها لثكنات عسكرية، جعلت كثيرًا من الثوار المُتحمسين، والمُهجرين قسرًا، يضيقون ويتذمرون، ويلجأون لحرب عصابات، وكانوا يقومون بين الفينة والأخرى بمُناوشات وتحرشات استنزافية، كلفت العساكر الإماميين المُحتلين لقُراهم الشيء الكثير.

اعترف المُؤرخ حمود الدولة بإحدى تلك العمليات، التي تولى هو نفسه مهمة إخمادها، حيث كان يشغل حينها منصب حاكم العدين، ولأنَّ انطلاق تلك العملية الاستنزافية كان من عُزلة خُريشة المُجاورة، والواقعة كما سبق أنْ ذكرنا أسفل عُزلة صنمات من جهة الجنوب، فقد كان مُرور ذلك القائد بوادي الضباب، وصولًا إلى عُزلة عَرش، ومن الأخيرة قام بهجومه المضاد.

وقد صور ذات المُؤرخ تلك العملية بقوله: «وأخيرًا بلغ رجوع الأشرار منهم إلى مَحل خُريشة، ومناوشة المراتب ليلًا ونهارًا، مُتأبطين شرًا، استفز كل واحد منهم طيشه، فجهز الأمير سرية نافعة، وعصابة رائعة، في قيادة حاكم العدين، وأرسل معه من الرؤساء من توضح نصحه ومحبته لخير الثقلين، وأرسل معه المدفع السريع، والمونات التي تملأ الفضاء الوسيع».

وأكمل ذلك المشهد بقوله: «ولما باشرهم المجاهدون، لم يثبتوا – أي الثوار – وولوا على أعقابهم مُدبرين، وقتل منهم جماعة من أشرارهم الخاسرين، وخمدت نارهم المتطايرة، وطفيت شرارهم المُتكاثرة».

أما المُؤرخ مُطهر فقد تحدث عن تلك العمليات الاستنزافية بصيغة عامة جامعة، ونفى نجاح أي منها بتحقيق أهدافها، وقال: «وبعد فرارهم – يقصد الثوار – ظنوا أنَّهم سيتمكنون من إنزال الضرر على المجاهدين بالطرق ليلًا، والتردد على تلك الأطراف، فضبطت الأطراف، ولفظتهم الأطراف جميعها، ولم يتوصلوا إلى شيء».

وما لم يعترف به المُؤرخان مُطهر، والدولة أنَّ الجلاء التام لأولئك العسكر تحقق بفعل تلك الضربات المُوجعة، المتبوعة أصلاً بهَجر قبلي، ثور للإمام، وثور للعُكفة، لتنقشع بذلك صفحة مظلمة عاشها أبناء عُزلة صَنِمَات لشهور، عاد بعدها غالبية السكان إلى قراهم، وذلك قبل أنْ ينتهي ذلك العام، فيما استقر بعضهم في منطقتي عبدان، والصرمين، الواقعتين شرق جبل صبر، ولا يزالون هناك حتى وقتنا الراهن.

أخذ بعد ذلك أمير تعز علي الوزير من أبناء المنطقة ديات القتلى، وهي الديات التي تكفل الشيخ عبدالله يحيى الصبري بدفعها، حسب إفادة حفيد الأخير الشيخ أمين حسن الضباب. وأخذ منهم – أي أمير تعز – رهائن الطاعة، وتم إيداع الأخيرين في سجن قلعة المقاطرة، وقد حددتهم الذاكرة الشفهية بخمسة رهائن، ثلاثة من عزلة صَنِمَات، ورابع من عزلة حصبان، وخامس من عُزلة خريشة، والأخير اسمه عبدالله محمد غالب، نجل الشيخ محمد غالب مُحسن، قاتل القائد الإمامي ابن سويدان، كما سبق أنْ ذكرنا.

وعلى ذكر الشيخ محمد غالب، فقد كان – كما تفيد الذاكرة الشفهية – قصير القامة، وهي الهيئة التي أثارت استغراب الأمير علي الوزير حين التقاه لأول مره، وخاطبه ساخرًا بما معناه: «كل هذا وقع منك؟»، فرد عليه مُعتزًا بنفسه: «السُم قيراط يا أمير»، وهي العبارة التي صارت مثلًا مُتداولًا في المنطقة.

وما يجدر ذكره أنَّ الأمير علي الوزير لم يسمح للعائدين ببناء منازل جديدة إلا بعد مُوافقة الإمام يحيى، وعن ذلك قال المُؤرخ مُطهر: «وأذن مولانا الإمام لهم بعمارة مساكن لهم، تليق بهم، وانقضت فتنتهم التي أحرقتهم، وصلحت الأحوال، وعادت الأمور إلى مجاريها بفضل الرب المتعال».

العُكفة.. والغداء الأخير (2 – 2)

كم نفذوا عساكر؟

في مطلع أربعينيات القرن الفائت، وتقريبًا في سنة 1941م، وهي من عُرفت بـ (سنة الفساد)، وبعد انقشاع الغُمة السابق نقل تفاصيلها بأكثر من عشرين عامًا، اختلف – كما أفادت الذاكرة الشفهية – المواطن محمد عبدالوهاب مع أحد عساكر الإمام، وتطور الشجار إلى العِراك؛ فما كان من بعض مُواطني عُزلة صَنِمَات إلا أنْ تَدخلوا لنصرة صاحبهم، وضربوا ذلك العُكفي ضربًا مُبرحًا، وأتبعوا ذلك بكسر بندقيته؛ وإرساله إلى من يهمه الأمر مُخضبًا بدمائه.

كان الطاغية أحمد يحيى حميد الدين أميرًا لتعز آنذاك، وكانت تلك الحادثة ذريعته الناجزة بأنْ يرُسل إلى تلك العُزلة بحملتين عسكريتين، قوامهما 300 مُقاتل، وقيل أنَّه هَمَّ بادئ الأمر بإرسال أضعاف ذلك الرقم تسع مرات (3,000 مقاتل)، إلا أنَّ أحد مُعاونيه نجح في ثنيه عن ذلك.

ويعود غضب السيف أحمد المُبالغ فيه لسببين: الأول أنَّ كسر بُندقية ذلك العسكري إهانة كبرى لدولة والده، وعيبًا أسود، والأمر الآخر أنَّه كان وبفعل الانتفاضة السابق ذكرها، يُكن لأبناء عُزلة صَنِمَات شديد الكُره، وعظيم الاستهجان، ويسميهم احتقارًا بـ (الأصنوم).

كان الطاغية أحمد على يَقين أنَّ أبناء صَنِمَات لن ينصاعوا لعساكره بِسهولة؛ وتعمد إرسال الحملة الأولى التي كان قوامها 150 مُقاتل، تحت قيادة الشيخ محمد علي عثمان، مُكلفًا الأخير بالتحرك من مدينة تعز في وقت مُتأخر، كي يتزامن وصوله إلى صَنِمَات ليلًا، ويحصل ما لا يحمد عُقباه، وفي ذلك إشارة عابرة وغير أكيدة إلى أنَّه أراد توريط ذلك الشيخ في مُواجهة أبناء منطقته (جبل صبر)، إلا أنَّ عثمان أدرك ذلك، وقام بعد أنْ تجاوز عُزلة الموادم صعودًا إلى عُزلة المعقاب، بتوزيع العساكر على مَنازل الأخيرة (خِطاط)، فيما تكفل مواطنوها بضيافته وضيافتهم حتى الصباح.

وفي صباح اليوم التالي، تحرك الشيخ محمد علي عُثمان هبوطًا صوب عُزلة حصبان، وكان قد استبق تحركه ذاك، بإرسال رسالة إلى مشايخ عُزلة صَنِمَات، طمأنهم فيها، وهدأ من روعهم، ونصحهم بالامتثال لحُكمه الذي لن يكون جائرًا، وما أنْ وصل إلى قرية العاوات، حتى قام في تلك الحملة خطيبًا، وطالب العسكر بعدم التعرض للمواطنين، مُذكرًا إياهم بما حدث لأقرانهم من قبل، وزيادة في الاحتياط، أخبرهم أنَّهم أذا وجدوا دخانًا يتصاعد من المنازل، سيدخلون صَنِمَات بسلام، وإذا لم يجدوا ذلك، سيعودون من حيث أتوا، وبسلامٍ أيضًا.

ذات جمعة، والأجواء شبه هادئة ومُستقرة، أطل الشيخ محمد علي عثمان على صَنِمَات، ووجد كُبراء تلك العُزلة في استقباله، كالشيخ عبدالولي مرعي، والشيخ يحيى شمسان، والشيخ مُطيع غالب، والشيخ محمد عبدالحق، وطالبوه بتوزيع العساكر في منازل المواطنين، تمامًا مثلما فعل في عُزلة المعقاب، وجهزوا دار المصرع التابع لعبدالغني محمد رضوان لإقامته.

وهكذا، نجح الشيخ محمد علي عثمان في تجنيب صَنِمَات مخاطر الحرب، وكان انصياع سُكانها له احترامًا لا خوفًا، كيف لا؟ وهو ابن الشيخ علي عثمان، صاحب التاريخ النضالي المُشرف، ومكانته، وأبيه، وعمه عبدالله مرموقة، ومحفوظة عندهم، وعند أبناء جبل صبر قَاطبة.

وجه الشيخ محمد علي عثمان من فوره بالقبض على المواطنين الذين اعتدوا على العسكري السابق ذكره، والتحقيق معهم، وحبسهم، وحين أراد بعض العساكر الانتقام لصاحبهم منهم، أوقفهم، وهدأ في ذات الوقت من ردة فعل الطرف الآخر، الذين بدأوا بالتحرك، تحت قيادة الشاب أحمد عكيش، ولم يتخذ في حق ذلك الثائر أي إجراء عقابي؛ بل أعجب به وبشجاعته.

وفي اليوم التالي، بعث الشيخ محمد علي عثمان برسالة شارحة إلى أمير تعز (السيف أحمد)، وقد تلقى الأخير ذلك النبأ باستغراب شديد؛ فهو لم يكن يَتوقع أصلًا رضوخ أبناء صَنِمَات بسهولة، وقال في رده على تلك الرسالة: «إذا كان الأمر كما تقول، فاطلب منهم أسلحتهم»، وبدأ القائد عثمان بعد تردد بمُصادرة أسلحة المواطنين، وذلك بعد أنْ جس نبضهم، وصارح كبرائهم بعدم رضاه عن ذلك، ولكي لا يحرجوه، تجاوبوا معه، وسلموه 12 بندقية، هي قطعًا غير العدد الحقيقي.

رغم ذلك التجاوب غير المُتوقع، بادر السيف أحمد بإرسال حملة أخرى قوامها 150 عسكري، تحت قيادة قريب له، يُدعى مُطهر، أو ابن مُطهر، وكان مرور هذه الحملة من عُزلتي الموادم، وسيعة، وقرية المعاين (قريتي) التابعة للأخيرة، وكن النساء كما أفادت جدتي مسك أحمد عبده رحمها الله، التي شاهدت ذلك المشهد عن قرب، يرددن:

وابو ينا كـــــــم نفـــــذوا عساكـــر

على صُنــامة يقبضــــوا الميـازر

وابــو ينــا كــم نفـــذوا يا عسكر

وسلمــــوا الدفعة لابـــــن مُطهر

في اليوم الثالث لوصول الحملة الأولى، وصلت الحملة الأخيرة إلى مشارف صَنِمَات، وقد منعها الشيخ محمد علي عثمان من دخول تلك العزلة؛ كي لا يحصل أي طارئ، يُعكر صفو الصلح والتجاوب القائم.

وفي اليوم الرابع خرج أبناء صَنِمَات بموكب كبير لوداع الشيخ محمد علي عثمان، في حين طلب الأخير من القائد مُطهر بالنزول من موقعه، كي يغادرا ومعهما الـ 300 عسكري المنطقة برمتها، عبر طريق آخر، يصل تلك المنطقة بالمسراخ، وهو ما كان.

إنَّ الثورات والانتفاضات المنظمة التي قادها أهل العلم والدراية، هي من حظيت بالاهتمام، وما دونها من ثورات وانتفاضات عفوية ارتجالية، محصورة في مناطق معينة، فإنَّها – وعلى كثرتها – لم تحظَ بالدراسة والتوثيق إلا ما ندر، ومن هذا المنطلق، تبقى الدعوة مفتوحة لأولئك المفتونين بالتاريخ، الباحثين في أغواره عن كل جديد، أنْ يخوضوا غمار البحث والتقصي عن جميع التفاصيل الثورية المُنتصرة للكرامة، تمامًا كتلك التي حدثت في عُزلة صَنِمَات [1].

الهوامش:

  1.  كتيبة الحكمة، مطهر، ج2 (الجزء الثاني للمقال)، ص 156 – 157 – 158 / زورق الحلوى، الدولة، ص 159 – 160161162 – 163 – 164 – 165 – 166 / حياة الأمير، الوزير، ص 150 – 151.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى