آثار

الإمامة والقبيلة.. جدلية الصراع المستدام (2-3)

د. ثابت الأحمدي

الأثر النفسي لسياسة الإمامة تجاه القبيلة

هذه الحالةُ طبعتْ النَّفسِيَّةَ اليَمنيَّةَ، سواء على الصعيد الشخصي أو الجمعي بطابعِ الحذرِ الدائمِ والتوجس المستمر من الآخر، ولم تكن العَلاقة الاجتِمَاعيَّةُ علاقةً طبيعيَّة في غالبها، يغلبْ عَليْها الأمانُ والطمأنينةُ، كما كان عليه الأمر سَابقا قبلَ الإِسْلام مثلا؛ لذا لجأ النَّاسُ إلى الاحتماءِ بالطبيعةِ لقساوتها في حد ذاتها؛ حيثُ سَكنَ الشَّواهقَ الجبليَّة، فلا يكادُ يخلو شاهقٌ أو مرتفعٌ على طُول اليَمَنِ وعرضِه من بيتٍ أو آثارِ بيتٍ أو حصنٍ منيع لهذا السبب، مع أنَّ المكان الطبيعي للسُّكنى في المنبسط من الأرضِ أو القريبَة من الوديانِ، كما هو الشَّأن لدى كل الأممِ في شتى بقاعِ المعمورة. وظلت هَذِه العادةُ إلى اليَومِ راسخةً في الذهنيَّة العَامَّةِ، وفي نفسِ كل يمنيٍ، مع ما أصبحَ يمتلكه من مقوماتِ الدفاع عن نفسِه من السِّلاح الفتاك بالأعداء، ومع وجودِ الدَّولَةِ ولو في حدها الأدنى. إنَّها حالةٌ من الشُّعور بالخوفِ أو عدم الطمأنينة، تسكن أعماقَ أعْماقه، شَعرَ بذلك أم لم يشعر. ويبدو أنَّ التخلصَ منها أمرٌ بعيدَ المنال؛ لذا تُعتبرُ اليَمَنُ من أكثرِ الدول العَربيَّةِ توزعًا سُكانيا، فهِي تفوق مصرَ البلد الكثير السُّكان، في هَذا الجانبِ أكثر من الضعف تقريبًا لهذا السَّبب! ولم تكن ظاهرةُ حملُ السلاح الناري أو التمنطقِ بالسِّلاح الأبيض “الجنْبِيَة” إلا أحدُ أشكالِ وتمظهراتِ هَذا القلقِ الدائمِ، وضعف الطمأنينةِ، على الأقل لدى مناطقِ الشمال اليَمني وبعضِ مناطقِ الشَّرق منه![1].

2 1 الإمامة والقبيلة.. جدلية الصراع المستدام (2-3)

إلى جانبِ الآثار السِّلبيَّةِ التي تركتهْا الحروبُ على الجانبِ العلمي والثقافي كما أشرنا، يبقى أثرُها الكبيرُ على الجانبِ النفسي وما تتركه على سَيكولوجيَّة الإنسَان؛ خاصَّة وأنَّ هَذِه الحروبَ ذاتُ طابعٍ ُمغَايرٍ لأيةِ حروبٍ أخرى، فليستْ حروبَ جُيوشٍ نظاميَّةٍ تقتصرُ على فرقٍ مدرَّبة ومقاتلة فقط، بل تُعتبر القبيلةُ كلُّها جيشًا محاربًا، غازيًا أو مغزيًا، قاتلا أو مقتولا.. فكلُّ فردٍ في القَبيلة هو جنديٌ مقاتلٌ بالفطرة، ولديه من قصصِ الموروثِ الحربي التي تفتَّحَ وعيُه عَليْها منذ الصِّغر، ما يفوق الجنديَّ النظامي من المعارفِ النَّظَريَّةِ  والعَمليَّة في مَجَال الحرب! وعادةً ما تدورُ رحى هَذِه الحروبِ في الأغلبِ الأعم على مقربةٍ من الديارِ والأهل والسكنى؛ لذا ذكر التَّارِيْخ لنا بعضًا من النِّسَاء المحارباتِ اللاتي حملن التروسَ وتقلدنَ الدروع، كالشَّيْخة صَالحة الحجرية، وأيضًا تحفة حُبَل في شَرعب السَّلام بتعز، ونورة بنت معوضة بن محمد بن عفيف في يافع، والتي قُتلتْ في إحدى المعارك مع جنود الإمَام المهدي صَاحِبِ المواهب، وأيضا “أم أولاد أبو دنيا” و فندة الدرويشة. وأخريات كثيرات..[2].

وثمة قصيدة لأبي الأحرار الزبيري عنوانها: “العجوز وعَسْكري الإمام” تُجسد نضالاتِ المرأة ضد هَذا الطغيان الغاشم، في حوارية ديناميكية، يقول فيها:

المرأة:

يا رب كيف خلقت الجند ليس لهم       عندي طعامٌ ولا شاء ولا نعم

ويلاه مالي أرى وحشًا وبندقه           أذلك العسْكري الغاشم النهم

العسكري :

نعمْ أنا البطلُ المغوار جئت إلى          عجوزة لم يهذب طبعَها الهرم

إنا جنود أمير المؤمنين فلمَ لا           تذبحي الكبش يا حمقاء دونهمو؟

أين الدجاجةُ؟ أين القات؟ فابتدري      إنا جياعٌ وما في حيكم كرم

المرأة :

يا سيدي ليس لي مالٌ ولا نشبٌ       ولا رجالٌ ولا أهلٌ ولا رحم

إلا بني الذي يبكي لمسغبةٍ            وتلك أدمعه الحمراء تنسجم

وهذه البيدُ فاقطف من هواجرها   ما شئت إنا إلى الرحمن نحتكم

ماذا يريدون من جوعي ومسغبتي       إني لكالحمل المشوي بينهمُ

يطلبون زكاةَ الأرض؟ ليس بها      إلا الحِمام وإلا الحجر والرخم

أم جزية الكوخ ؟ لا كانت جوانبه      السوداء ولا نهضت في ظله قدم

أم قيمة القبر قبل الموت وا أسفًا       الكوخُ قبري فما للظالمين عموا؟!

العسكري :

 

إني إذن راجعٌ للكوخ أهدمه      يا “شافعية” إن الكذبَ دأبُكمُ

5 2 الإمامة والقبيلة.. جدلية الصراع المستدام (2-3)

وتعكسُ هَذِه المقطوعة من القصيْدةُ “الشعبيَّة” طرفًا من تلك الحالةِ الفوضويَّة التي كانتْ عليها فَتراتُ الإِمَامَةِ في غالبها، والتي اضطرت القبيلة للتعامل بها، وهي لشَاعرٍ غير معروف، تُفلسفُ دلالتُها طَبيْعَةَ الصِّراع، ونوع المواجهَة، وكيفيَّة التعاملِ معها من قبلِ العَامَّةِ الذين أصْبحوا مُدركين حقيقةَ كل تلك الصِّراعاتِ على جهلهم وبساطتهم، يقول:

حين قالوا: هيا شرق يا قبيلي   قلت هيا مَره، قومي وهاتي صميلي

أصبحت بين دولتين أغتنمها   شـوري اليَوم شــور، والقيــل قيلي

قبلما يسبروا يســــدوا علي     ذاك يا صنـو لك، وهـــاذاك لي.. لي

وانت سر لك هناك واذبح وهات قات   واعصدي يا مره، وزد يا قبيلي

 

أجرة العسكري والا باب سيدي    القصب والحبوب وأدي حمولي

أمَّا أثرُ الحربِ على البناءِ والتنميَة وصِناعةِ المستقبلِ فأمرٌ معلومٌ وواضحٌ عند الجميع، ولا يحتاجُ الأمرُ فيه إلى توضيح.

لهذا السَّببِ ولغيره من الأسْبابِ تعززتْ في النَّفْسِ اليَمَنِيَّةِ فكرةُ الهجرةِ والاغترابِ عن الوطَن، وشكلَ اليَمَني بمعارفِه وخبراتِه وتفانيه عاملَ بناء وتقدم للغيرِ خارجَ وطنِه، في الوقتِ الذي يحتاجُ وطنُه لنصف تلك الجهود منه؛ بلْ لقد تم استغلاله خارجَ وطنه بصورةٍ تبعثُ على الأسى والحزن، كما تم هَجر الأرض اليَمَنِيَّةِ على خُصوبةِ تُربتها، وتُركتْ هَملا من قبل أهلها؛ لأنَّ ناتج ثمرتها لم يعد في يده، بقدر ما يؤولُ ظلمًا إلى الإمَامِ أو حاشيتِه، فكانت تلك المشاهدُ والمآسي الإنسانيَّة التي نقرأ عنها ونسمعُ، خَاصَّة في الريف اليَمني، الذي مثل مسرحًا دراماتيكيًا لأحْداثٍ لا تخطرُ على ذهنِ الشَّيطان. ذاتُ الشَّأنِ نفسِه مع التجارةِ التي كادتْ أن تنتهِيَ تمامًا من ثَقَافَةِ المجتَمع، مع أنَّ المُجتَمعَ اليَمَنيَّ ـ تاريخيًا ومنذ آلاف السنين ـ قد تميزَ بهاتين الحرفتينِ على غيره من الشُّعوب وبرع فيهما، وهما الزراعة والتجارة؛ إلا أنَّ عصورَ الإِمَامَةِ كادتْ أن تجعلهما نسيًا منسيًا؛ لأنه يستحيلُ وجود زراعةٍ أو تجارة، أو هما معًا في ظلِّ مجتمعٍ مُضطربِ أمنيًا وسِياسيًا، فهما ابنا الأمنِ والأمانِ ونتاجه؛ علمًا أن صَنعاءَ قد كانتْ يومًا ما واحدًا من أشهرِ أسْواقِ العَرَبِ التاريخيَّة؛ بل لقد كانتْ اليَمَنُ من أهم دول العالم المسيطرةِ على التجارة العالميَّة سَابقا، ومنها وعبرها تمرُّ أغلى السِّلع العالميَّة وأثمنُها، وكان اليَمَنيُّون بحارينَ مهرةً، لا تضاهيهمْ أمَّةٌ في الدنيا في هَذا الفن. وقَدْ أشَار إلى ذلك المؤرخُ الروماني الشهير “هيرودت”، مشيدًا بخبرةِ اليمنيين في صِناعةِ المراكبِ والسُّفنِ والإبْحارِ صيفًا وشتاء.. إلخ. ولم يكن الغزوُ الروماني لليمن سنة 23 قبل الميلاد إلا منافسَة لليمنِ من قبل أعتى وأكبرِ امبراطوريةٍ عالميَّة يومها، ومع هَذا فقد هُزمتْ هَذِه الامبراطوريةُ أمَامَ اليمنيين وذُبح جنودُها ذبحًا في صحارى الجوف ومارب! وما حالُنا اليَومَ وحالُ تلك الفتراتِ التَّارِيْخِيَّةِ إلا كما قَال المتنبي يومًا:

 

وما الدهرُ إلا من رواةِ قصائدي   إذا قلتُ شعرًا ردد الدهرُ منشدا

إنَّ صناعةَ السِّلم الاجْتماعي والرفاهِ الحضَاري تَستدعي قيادةً راشدةً بعقلٍ مُستنير، تسعى جاهدةً قبلَ تحقيقِ هَذا السِّلم والرفاه إيجاد “العمل لكل يد، والطعام لكل فم، والكرامة لكل مواطن” حسبما ذكر البردوني؛ لكن مقابل هَذِه الأساسيات الثلاث من الحياة، كانت المهلكاتُ الثلاث هِي البديلُ عنها، أو ما عرف بالثالوث القاتل الذي ارتبط تاريخيًا بهذه النَّظَرِيَّةِ وحكامِها “الجهل والفقر والمرض” وذلك لعدمِ رُشديَّة القيادةِ ذاتها، ولأنَّ الحكمَ/ التحكمَ لديها غايةٌ في حد ذاتها، لا وسيلة؛ فكانت عمليَّة تخليقِ الصِّرَاعِ أقصرَ الطرقِ للبقاء على كرسي الحُكم، لأن الإنسَان بلا عِلم ليس أكثر من تُرْسٍ في آلة تُديرها أصَابعُ السِّيَاسَةِ يمينًا أو شمالا بلا إدراك ولا معرفة، خاصَّة في مُجتمعٍ الثاراتُ والغزواتُ والتقطعاتُ خبزُه اليومي، بعد أنْ رسَّخها أسَاطينُ الشر، حتى صَارتْ ثَقَافَة عامَّة! وبدلا من تحريكِ السَّواعدِ لاسْتصلاح الأرضِ وشق التُّرعِ وعمارةِ المدرجاتِ وصناعةِ السُّفن، والانشغالِ بالتجارة، كما كان الحالُ عليه في العهود السَّبئيةِ والحِمْيَرِيَّةِ، تحولتْ هَذِه السَّواعدُ حمَّالةً لسيفِ الثأرِ أو بندقيَّة الغزو، أو هراوة الانتقام، في أقبح تحولٍ تاريخي.. من حَضَارَةٍ عريقة بهرتْ العالم بعراقتِها وأصَالتها ومدنيَّتها، وبانفتاحها على العالم، إلى “كانتونات” منغلقة، تقتاتُ البؤسَ وتحتسي الحرمان.. وأرخصُ ما فيها هو الإنسَان!

فشل الإمامة في القضاء على القيم الإيجابية في القبيلة

نتريثُ هنا مليًّا لاستقراءِ طَبيْعَةِ الروابط الاجتِمَاعيَّةِ التي تُميز الشَّعبَ اليمني عن غيرِه من الشُّعوب، حتى صارتْ الدَّولَةُ والشعبُ يغلب عليهما “الطابع الاجتماعي”، وهو ما لا نجده في كثيرٍ من دول المنطقة على الأقل. إنَّ ما تبقى اليَومَ من هَذِه الروابط الاجتِمَاعيَّةِ ـ وهِي إيجابيَّة في أغلبِها ـ تعودُ إلى الجذور الأولى التي نشأتْ وترعرعتْ مع المجد السَّبئي اليَمني إبَّان ازدهار اليَمن؛ إذ إنه بقدر ما في القبيلة من السِّلبيات إلا أنها تحملُ بموازاةِ ذلك من الإيجابيَّات والخلال الحسَنة التي مثلتْ في كثيرٍ من الأحوال ضَمانةً حقوقيَّة؛ بل وإنسانيَّةً من خلال ما تبقى من منظومةِ الأعْرافِ القبليَّة السَّائدة، وهِي القوانينُ الشفاهيَّة غيرُ المكتوبة، ويَتسمُ كثيرٌ منها بالطابع الإنسَاني والحضَاري والمدني، كان من الممكن أن تشكلَ هَذِه المنظومةُ العُرفيَّةُ بإيجابياتها رافدًا ثقافيًا وسِياسِيًا لمنظومةِ القوانينِ الرسْميَّةِ للدولة لو وُجدت الدَّولَةُ التي تحملُ مشروعًا حضاريًا، خاصَّة أن جزءا كبيرًا لا يُستهان به من هَذِه المنظومةِ ذو طابعٍ إنساني ومدني مَهْما كان تحامُل البعضِ على القبيلةِ أو ازدراءِ بعض تصرفاتها. ومما يحسبُ لهذه المنظومةِ العرفيَّةِ “القانونية”، أن صَمدتْ آلافَ السِّنين، رغم محاولةِ الإِمَامَةِ طمسَها والقضاءَ عَليْها وتشويهها، كما أنَّها ـ لرسوخِها التاريخي ـ اسْتطاعتْ أن تُنافسَ قوانين الدَّولَةِ الرسْميَّة، بل وتتجاوزَها إلى حد أن يُقْدِم رئيسُ الدَّولَةِ ـ أحيانا ـ إلى اللجوءِ إليها، عجزًا عن تطبيقِ القانونِ الرسْمي للدولة، مهما كانت النوايا المتخفيَةُ خلفَ هَذا الإجراء.[3]، فضلا عن أن 80% من مشاكل المواطنين تُحلُّ بالصُّلح الثنائي، أو العُرف القبلي، كما تشيرُ إلى ذلك بعضُ الدراسَات الميدانية.

 
 
88 2 الإمامة والقبيلة.. جدلية الصراع المستدام (2-3)

ومما لم يفطنْ له الأئمَّةُ على طولِ تاريخهم، ولم يدركوا حقيقته، لعمى التعصبِ الذي سَيطر عليهم، هو المآلاتُ المترتبةُ على اصْطراعِ القَبَائلِ واحترابها؛ حيثُ كانتْ تقومُ دولةُ إمَامٍ ما بموجب انتصارِ هَذِه القبيلة على تلك، وبالعكس ـ أيضًا ـ يسقط إمَامٌ بموجب سُقوط القبيلة الأخرى.. أي أن القبيلةَ هِي المحددُ الرئيسُ والمعادلُ الموضوعي لعمليةِ الوصولِ إلى الحكم، فظلَّ الأئمَّةُ يقتتلون بها على مر تاريخهم، في واحدةٍ من صُور المأساة والملهاة معًا التي تعكس ضَبابيةَ التصور الفكري والسياسي للحُكم، من لدن الإمَام الهَادي 284 ـ 298هـ، وحتى الإمَام البدر “دامتْ مملكتُه أسْبوعًا واحدًا فقط”!! في آخر الحروبِ الأهليَّة عقب ثورة 1962م التي استمرتْ ثماني سَنوات، وانتهت بمصالحةٍ سيَاسِيَّةٍ عام 1970م؛ لأنَّ هَذِه القَبَائلَ هِي جيشُ الدَّولَةِ “المجازية” أصلا، التي لا تمتلك جيشًا رسميًا مثل باقي الدول، أو كما كان عليه الحالُ في العهود السَّابقة من التَّارِيْخ القَديم؛ لأنَّ سُلطات الطغيانِ تخشى الجيوشَ المنظَّمَة، ولا تأنسُ لها أبدًا مهما كان ولاء قاداتها، خشيةَ أن يتبلور منها قياداتٌ وطنيةٌ تطيحُ بسلطةِ الطغاة؛ لذا كانت القبيلةُ هِي جيوشُ الأئمَّةِ وقتَ الحاجةِ، وهِي أدوات الصِّرَاع الاجتماعي/ الاجتماعي متى ما رأتْ أنَّ ذلك قد يحققُ لها مكسبًا سِياسيًا، على أي نحوٍ كان. 

4 1 الإمامة والقبيلة.. جدلية الصراع المستدام (2-3)

ولو كانت هَذِه النَّظَرِيَّةُ وأهلُها راشِدين، لجعلوا من الصِّرَاعِ الدموي صِراعا ناعمًا، بما يسمونه هم البيعةَ أو صناديقَ الانتخابات، أو مجلس أهْل الحل والعقد، أو ما أشبه، لنوفرَ على شَعبِنا مآسي الحروب وآلام الصِّراع؛ لأن عمليَّة إسْقاطٍ إمَامٍ بقبيلة، وقيام آخر بقبيلةٍ أخرى يعني انهيار بُنيةِ الدَّولَةِ نفسِها لا جهاز الحُكم فقط، “السُّلطة” على تقليديَّة هَذِه البُنيةِ وبدائيتها، فتتغير ـ أحيانا ـ عاصِمةُ الدَّولَة “السُّلطة”، ويتغير رجالاتُها، ناهيك عن النمط الثقافي السَّائد، وإن كان الحالُ من بعضه في هَذِه الجزئية تحديدا.. فلم يكن التغير ـ دائما ـ إلا بين السَّيئ والأسوأ فقط.[4]  ويعني ـ أيضًا ـ تخليق جماعاتٍ كبيرة من العبيد والإماء الذين يصيرون في عدادِ الملكيَّة الخاصة، وفقا لأدبيَّات الفقه التقليدي “الفقه الحربي” فبدتْ الدَّولَةُ ـ على مر تاريخها ـ أشْبهَ ما تكون بسلطاتٍ عشائرية، كل واحدة منها تأتي على النقيضِ من الأخرى، بينما الأصلُ أن تكون مكمِّلةً لها، كالسِّلسِلةِ الواحدة، كلُّ حلَقة فيها مكملةٌ لما قبلها وموصِّلةٌ للتي بعدها.

 

هوامش:

[1] ـ تذكر بعض الإشارات التَّارِيْخِيَّة أن الخنجر اليماني “الجنبية” هو في الأصل رمز وعلامة للصناعة التي اشتهرت في حَضَارَة اليمنيين سابقا.

2ـ تزعمت الشيخة صالحة الحجرية مواجهة قبائل خولان التي قادها أحد كبار أعيانهم يومها”…” وقَدْ عينه الإمَام المنصور قائدا لقبائل خولان، وكان متعطشا لجمع الأموال بأي طريقة، فاتجه بقبائله إلى الحجرية بتعز لنهبها، إلا أن أهل الحجرية تصدوا له، وبرزت الشيخة صالحة قائدة شجاعة، فصدت هَذا القائد ومن معه. وثمة قصيدة للشاعر محمد سعيد جرادة يجسد فيها نضال المرأة اليَمَنِيَّة في الشمال والجنوب معا، ومنها:

ورُب فقير عرسه قد تمنعت      عليه وهزت فيه نخوة جبار

وقالت له: فيم وقوفك والحمى   محاط بشر مستطير وأشرار؟

فقال لها: قد تعلمين بأنني        أخو فتكات في الوغى غير خوار

ولكنني من عُدة الحرب أعزل     وذلك ظرف لا يضير بمقدار

فأهدت إليه قرطها وسوارها    وما تدخر الأنثى لحالات أطوار

وقالت له: بعها لتشتري كرامة     وحرية لا يشتري مثلها الشاري

3 ـ في العَام 2010م أقدم الرئيس السابق علي عبدالله صالح على تحكيم قبائل آل شبوان في مارب، وتحديدا والد القتيل جابر علي جابر الشبواني، أمين عام محلي مارب، نائب المحافظ، الذي قتل بطائرة بلا طيار في مارب، اتهمت اسرتُه الدَّولَة وراء مقتله، وكان والده مصرا على تطبيق النظام والقانون، في الوقت الذي بدا الرئيس السابق أكثر إصرارا على التحكيم القبلي، وحل المشكلة بالطرق القبلية!

4 ـ خلال فترة حكم أسرة آل القاسم الذي ابتدأ في العَام 1006هـ وانتهى بقيام ثورة 26 سبتمبر 1962م، تغيرت العاصمة أكثر من مرة، ففي عهد المؤسس الأول للدولة القاسمية القاسم بن محمد كانت العاصمة في شهارة، وأيضا في عهد ابنه المؤيد الذي خلفه مباشرة، ثم انتقلت في عهد المتوكل على الله إسماعيل إلى ضوران آنس. وفي عهد الإمَام المهدي أحمد بن الحسن الذي تلا المتوكل إلى شبام الغراس “بني حشيش” وعادت مرة ثانية إلى ضوران آنس في عهد المؤيد بن المتوكل على الله إسماعيل. وفي عهد الإمَام المهدي نقلها إلى منطقة اسمها المواهب شمال شرقي ذمار. وفي عهد الإمَام المتوكل القاسم بن الحسين أحمد بن الحسن، نقلها إلى صنعاء، وظلت في صَنعاء لدى من أعقبه من الأئمة، حتى عهد الإمَام أحمد الذي نقل العاصمة إلى تعز. أما فيما يتعلق بتغيير رجالات الدولة، فعلى سَبيل المثال لا الحصر، حين ولي الإمَام المنصور علي بن المهدي قَام بعزل رجالات الدَّولَة الذين تم تعيينهم في عهد أبيه، وتعيين فريق من أصدقائه والمقربين منه، وحين انقلب عليه ابنه، قَام أيضا بتغيير رجالات أبيه كلهم، مستبدلا إياهم بفريق جديد، وحين انقلب عليه ابنه بعد ذلك، قَام بعزل رجالات أبيه، وإعادة بعض من رجالات جده المنصور، وآخرين من المقربين إليه، وهكذا دواليك!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى