آثار

التاريخ والخطاب وميشيل فوكو

نالت المعرفة التَّاريخية اهتمام رواد ما بعد الحداثة، الذين ناقشوا المنهجية التَّاريخية والكتابة التَّاريخية، حيث يُرى بأنَّ المؤرخ يتدخل حينما يكتب أحداث الماضي باستخدام أدوات حاضره، ولعلَّ أبرز من نقد المعرفة التَّاريخية هو الفيلسوف ميشيل فوكو.

تشمل أعمال ميشيل فوكو(1926-1984م) على منهجية تاريخية غير كلاسيكية، حيث أنه لا ينتج تصور عام عن كيفيةِ ما ينبغي أن تكون الحياة عليه، فكل ما يرنو إليه هو فحص ممارسات الخطاب، لذلك وصف رابينوف منهج فوكو “بوصف مختلف الأشكال التاريخية للممارسة الخطابية” [1] وهو ما تبلور لاحقًا بمسمى نظرية الممارسة الخطابية ، ففلسفة فوكو تمتاز بالثراء حيث طرقها لموضوعات متعددة وأسئلة مختلفة غير تقليدية، تحديدًا مساءلته للعقل الغربي ونقده للحداثة وانطلاقه من قاعدة الاعتماد على العلوم التَّجريبية التي تزعم الحقيقة بالمعرفة عن أخبار الإنسان وذاته، وسنحاول في هذا المقال التَّعرف على الخطاب وعلاقته بالتاريخ لدى ميشيل فوكو.

الخطاب والتاريخ:

ظهرت البنيوية في فرنسا في ستينيات القرن الماضي، وأبرز روَّادها عالم الاجتماع ليفي شتراوس (ت1981م) وميشيل فوكو (ت1984م) وبول فين، ويرفض الاتجاه البنيوي اعتبار التاريخ علمًا وضعانيًا، حيث ينكر شتراوس طبيعية الموضوعية للتَّاريخ كما يدحض وحدة التاريخ [2] ، كما رفض ميشيل فوكو أن يكون خطاب العلوم الإنسانية مماثل للعلوم الطبيعية، وفي كتاب بول فين “أزمة المعرفة التاريخية فوكو وثورة في المنهج” فأول ما يوضحه بول فين تركيز فوكو على كيفية تحديث المجتمعات التَّقليدية من خلال ترابط السُّلطة بالمعرفة والتنظيم الاجتماعي، كما ينتقد الاتجاه الوضعاني، ويقول فوكو “إنَّ الواقع مفتت تعددي غير متجانس، وبالتالي لا يمكن للتَّخصص التَّاريخي أن يصوره كواقع موضوعي واحد” ويضيف في مكان آخر إن التاريخ له شكل علاقات قوة وليس علاقات معنى فلا وجود لعلاقة القوة دون تأسيس معرفة [3]، فما الحقيقة إلا شكلًا من إرادةِ القوة.

لقد قام فوكو بهزة في منظومة المعرفة التاريخية وذلك من خلال كتبه التاريخية التي رسم منها خطوطه العامة مثل كتاب الكلمات والأشياء وتاريخ الجنون والجنسانية وولادة السجن في المراقبة والمعاقبة، والتي بيَّن فيها نوعية الاختلاف والتباين الموجود في معايير وقيم الشُّعوب والأمم، ويعتبر مفهوم الخطاب من أهم ما قدمه فوكو وهو ينتج عنه مفاهيم أخرى تتقاطع مع المعرفة التاريخية، حيث يعرف الخطاب بأنه “مجموعة من العبارات بوصفها تنتمي إلى ذات التشكيلة الخطابية (…) يمكن الوقوف على ظهورها واستعمالها خلال التاريخ، بل هو عبارة عن عدد محصور من العبارات التي نستطيع تحديد شروط وجودها. فالخطاب، على هذا النَّحو، ليس شكلًا مثاليًّا، ولا زمانيًّا له بالإضافة إلى ذلك تاريخ. ولا يمكن جوهر المشكل في التساؤل عن أسباب انبثاقه وظهوره في هذه اللحظة المعينة من الزمن أو تلك، فهو تاريخي، من جهة إلى أخرى جزء من الزمن، وحدة وانفصال في التاريخ ذاته”. [4]

ومما سبق نستخلص بأن الخطاب يتجاوز النَّص ويتفرع منه ميدانه وممارساته وتشكلاته، وهو ما يلزم المؤرخ باستخدام المنهج الأركيولوجي، كما يرى بأنَّ المنهج الأركيولوجي يستبعد جميع الأمور الذاتية والأيديولوجية، كما ويدعو إلى التخلص من المنهجية التي يفرضها البحث الميتافيزيقي، ويوجب القضاء على العوامل الذاتية وقدسيتها، ولا ينبغي للباحثين الذين يعتمدون على الأساليب المنهج الأركيولوجي أن يتبعوا خطابات مختلفة، بل يجب أن يتعاملوا مع الخطابات كوثيقة [5] ، لذلك أصبح البحث معتمدًا على تحليل البنية المعرفية للخطاب، وأصبح الخطاب موضوع بحث أركيولوجي. بالإضافة إلى ذلك، يتعامل الأركيولوجي مع الخطاب نفسه كنص أركيولوجي. وفقًا لفوكو، لا يتم البحث عن المعرفة من خلال إعادة التفكير فيما تم قوله، أو بمحاولة ارتباطها بالبنية الاجتماعية والنفسية للنَّص، لأنَّ هدف الأركيولوجيا ليس إيجاد العلاقة المحتملة بين النَّص ومحتواه. لأنّ مثل هذا البحث ينحرف عن الهدف المقصود من النص ويصبح بحثًا في علم النفس أو علم الاجتماع. بدلاً من ذلك، يجب أن يتعامل مع الخطاب كنص مستقل، دون النظر إلى الجوانب النفسية أو الاجتماعية. بل يجب أن يُنظر إليه على أنه أرشيف يسأل فيه الباحثون ويحللون الخطاب ويكشفون عن علاقته الداخلية بالواقع الإنساني في الحياة. ونجد أن نهج فوكو الأركيولوجي مستقلٌّ بذاته حيث يتجاوز معضلة المنهج الكلاسيكي الذي تعلوا من قيمة المؤلف.

وبإمكاننا القول: إنَّ المنهج الأركيولوجي الفوكوي يسعى إلى استنطاق الأرشيف من خلال الكشف عن اللحظات التاريخية التي تكون بها الخطاب علاوة على تحليل الخطابات حيث بزوغها واختفاءها وانقراضها، مما يشكل تاريخ أركيولوجي يقدم نقد للخطاب الذي تكون في فترة تاريخية مشكلاً الحقيقة، حيث أن الأركيولوجيا قد تعتبر “وصف وتحليل للتاريخ العام لمجموع الممارسات الخطابية وغير الخطابية، فتحليلية تاريخ الخطاب فيها تخلي مطلق عن الشمولية التاريخية، لكنها في الوقت نفسه تُعنى بمجموع الآثار الفعلية للخطاب عبر التاريخ”[6]. لذا يصبح التاريخ سلاسل متقطعة من الأحداث، كون كل مرحلة تاريخية لها سياقها وخواصها.

الخاتمة:

في الختام نجد بأن نظرة فوكو واضحة حول تحديد أنواع ممارسة الخطاب ضمن الخطاب التاريخي حيث قدم معالجة لعمل المؤرخ وأن عليه امتلاك أدوات ليستطيع (المؤرخ) عبر – هذه الأدوات – انتاج معرفة تاريخية حقيقية، مركزًا على أن قيمة الوثيقة تكمن من خلال أن يعرف المؤرخ الخطابات السائدة في زمن الوثيقة ذاتها، حيث ركز المؤرخون على أخذ الحقيقة من جعبة الوثيقة التي تصف الأحداث والتغيرات التَّاريخية، دون إدراك سلطة الخطاب على الوثيقة التاريخية وتحوير حقيقتها، لربما بإمكاننا القول: إنَّ فوكو استطاع الكشف عن عيوب التاريخ التقليدي محولاً إياه الى تاريخ جديد “هو ما يحول الوثائق إلى نصب أثرية، ويعرض كمية من العناصر ينبغي عزلها والجمع بينهما وإبرازهما والربط بينها وحصرها في مجموعات”[7]

الهوامش:

  1. الزواوي بغورة، مفهوم الخطاب في فلسفة ميشيل فوكو (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2000م) ص110.
  2. كلود ليفي شتراورس، الفكر البري، ترجمة نظير جاهل (بيروت: المؤسسة الجامعية، ط1، 1987م) ص309
  3. بول فين، أزمة المعرفة التاريخية فوكو وثورة في المنهج، ترجمة إبراهيم فتحي (دون ذكر، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، دون ذكر) ص34.
  4. ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت (بيروت: المركز الثقافي العربي، 1987م) ص108.
  5. المرجع نفسه، ص128.
  6. عبد الحق طالبي، ميشيل فوكو وتجاوز المناهج الفلسفية التقليدية، مجلة منتدى الأستاذ، مج15، ع1، جانفي 2019، ص55.
  7. ميشال فوكو، مرجع سابق، ص9.

فوزي الغويدي

باحث ماجستير تاريخ مهتم بتاريخ اليمن الحديث والخليج والعلاقة بينهما.

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. مقال رائع ،هنا تساؤل ما تداعيات تطبيق المنتج الاركيولوجي الفوكوي على النص المقدم وخاصة القران الكريم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى