آثار

الحركة الحوثية وتاريخها الآثم

«التجارة بالأديان هي التجارة الرائجة في المُجتمعات التي ينتشر فيها الجهل، فإنْ أردت التحكم في جاهل – فعليك أنْ تُغلف كل باطل بغلاف ديني»، مُقولة خالدة قالها – قبل ثمانية قرون – الفيلسوف العربي الأكثر استنارة أبو الوليد محمد بن رشد، تنطبق أكثر ما تنطبق على كل دولة ثيوقراطية حكمت واستبدت باسم الدين، وأشركت السماء في صراعاتها، ولوثت الدين والسياسة معًا.

خضوع العبيد

دولة الإمامة الزّيدِيّة في اليمن واحدة من كل، إلا أنَّها الأسوأ والأطول عُمرًا، وجدت البيئة الخصبة التي تتفق وتطلعاتها، وبمعنى أصح فَصَّلَها مُؤسسها الأول الطامح يحيى بن الحسين لتتناسب وخصائص وطبائع سكان هذا البلد المِضياف، وهي حقيقة أكدها أيضًا الباحث محمد الشهاري بقوله: إنَّ تلك الدولة ليست دخيله على الواقع اليمني، وأنَّها إفرازٌ له لا أكثر.

وبتوصيف أكثر دقة قال بول دريش – وهو باحث غربي سبق له العمل في جامعة أكسفورد – إنَّ الأئمة لم يقبلوا أبدًا بشرعية الاستقلالية والحماية القبلية، إلا أنَّهم كانوا في الممارسة يشذبون سياستهم لمجاراة حقائق الواقع المحلية.

بول دريش قال – أيضًا –: إنَّ الإمامة لا تنطبق عليها التعريفات المُرتبطة بكلمة دولة، وأنَّها في فترات عديدة كانت نقيضًا للدولة، وأنَّ الدولة تبدو ظاهرة ثانوية بالنسبة للتاريخ الزيدي، وأضاف: «وفقًا للمعايير الخارجية، تبدو الإمامة دولة، لكنها سرعان ما تتحول إلى لا دولة من سنة إلى أخرى، أو حتى من شهر إلى آخر تقريبًا»، وأردف: «وللمُطالبة بسلطان أوسع، يـراهن السيد على الإمامة، أما غير السيد فلكي يحصل على نفوذ أكبر، فإنَّه يساند الداعي للإمامة».

وخلص بول إلى القول: «ومع ذلك تبقى أمامنا حقيقة أنَّ الإمامة كما تبدو لنا قادرة لا على إقامة دولة في بعض المراحل فقط، ولكن أنْ تكون شبه دولة ومتممة واضحة للقبيلة، رغم معرفتنا أنَّ الإمامة والقبيلة لا يمكن فصلهما من الناحية التجريبية».

وقبل التعمق أكثر في هذه الجزئية، وجب التذكير أنَّ خُضوع العبيد لا قوة السادة هو من يصنع الطغيان، على اعتبار أنَّ الدين المُزيف والخرافة أحد أبرز أسباب ذلك الخضوع، ولا يتحقق الانعتاق من نير تلك العبودية الطوعية إلا بالعلم والمعرفة، وتحكيم العقل. وإذا كان هوميروس في (الإلياذة) قد أدرك مُبكرًا بأن لا خير في تعدُّد السادة، وقال مقولته التوحيدية: «كفى سيد واحد، وملك واحد»، فإن العقلية الشرقية جعلت من الملوك آلهة، وحينما سُئل فرعون مصر – في ذات الفترة، وكما قيل – عن من جعل منه إلاهًا؟ كان جوابه: «عبيدي!».

محطة الفاشلين

العقلية الشرقية تنقاد للعبودية بسهولة ويسر، وتاريخ الإمامة الزّيدِيّة تجسيد لهذه الحقيقة لا أكثر، ولم تكن اليمن سوى مَحطة أخيرة للفاشلين من أدعيائها؛ لما وفرته من بيئة خصبة لذلك الانقياد، وهذا الطامح يحيى بن الحسين حينما فشل بتأسيس دولته في طبرستان، توجه إلى اليمن، وكذلك فعل القاسم العياني حينما فشل في إقامة دولته في بلاد خثعم، وأبو الفتح الديلمي حينما فشل في تأسيس دولته في بلاد الديلم، وبين هذا الداعي وذاك ثمة أدعياء كُثر توافدوا إلى هذا البلد المضياف، كالقاسم الزيدي، وأبو هاشم الحسني (جد الحَمْزِات)، والمُعيد لدين الله الناعطي، وهذا الأخير لم أجد له اسمًا، ومن يدري ربما يكون بعض هؤلاء أو جلهم قد ادعوا النسب العلوي طَمعًا في الحكم والإمامة (أ).

وكما شَكك بعض المُؤرخين والنسابة بنسب الحمزات وغيرهم، هناك من شكك بنسب القاسم بن محمد مُؤسس الدولة القاسمية، رغم أنَّ الأخير كما يقول غالبية مؤرخي الإمامة من نسل الطامح يحيى بن الحسين، إلا أنَّ من يدعي أنَّهم أقرباؤه وقفوا في الغالب ضده؛ والسبب عدم اعترافهم بنسبه، كما رجح بعض النسابة بأنَّ أصوله غير عربية، مُستدلين بملامحه البعيدة الشبه عن بني عمومته، وذكر أحدهم أنَّ جده قدم إلى بني مديخة وتزوج من أسرة يمنية من منطقة الشرف، وأنَّه استغل جهلهم وتشيعهم وادعى نسبه ذاك.

وسواء كان هؤلاء الأدعياء علويين أم غير ذلك، فمن الذي أعطاهم الحق بأنْ يكونوا أوصياء على الإسلام والمسلمين، وأنْ يتسيدوا على عباد الله، ويُخالفوا دينه الحنيف؟ ذلك الدين الذي نصره العبيد، وخَذله السادة، وقام أول ما قام على المساواة والعدالة، وعلى إخراج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، وأنْ لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى.

لـمـَّــا نزلت آية: «وأنذر عشيرتك الأقربين» قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يُذَكر، فقال: «يا بني هاشم، أنقذوا أنفسكم من النار.. إني لا أملك لكم من الله شيئا، غير أنَّ لكم رحما سأبلها – أي سأصلها – ببلالها»، وقال: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس يوم القيامة بأعمالهم، وتأتوني أنتم بأحسابكم وأنسابكم»، وقال: «يا بنى هاشم لا أغنى عنكم من الله شيئًا، يا بنى هاشم إن أوليائى منكم المتقون».

والأكثر أهمية أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم وأجداده لم يكونوا طلاب سيادة أو ملك، وتحفظ لنا كتب التاريخ ذلك الحوار الذي دار بين هرقل وأبو سفيان، وذلك بعد أنْ استدعى الأخير من غزة إلى بيت المقدس، وقال له: «لعله يطلب – يقصد رسول الله – مُلكا أو شَرفا»، ثم عاد واستفسر: «هل كان لاحد من أهل بيته قبله؟» – يقصد: هل كان أجداده طُلاب سيادة أو ملك؟ – فأجاب كبير قريش بالنفي.

نشأتها وأهم أفكارها الحركة الحوثية وتاريخها الآثم

الجارودية

يُجمع كثيرٌ من الباحثين على أنَّ الزّيدِيّة من أقرب الفرق الشيعية لأهل السنة، مُستثنيين جماعة منها تسمى (الجارودية)، نسبوها لأبي الجارود زياد بن المنذر (توفي سنة 150هـ) أحد أصحاب الإمام زيد بن علي المُتعصبين، وصفه المُحدثون بأنَّه كذاب وليس بثقة, وفيه قال جعفر الصادق: «لعنه الله، فإنَّه أعمى القلب، أعمى البصيرة»، وهي – أي الجارودية – أقرب إلى غلو الاثنى عشرية، والزيدي إذا تعصب يُسمى (جاروديًا).

وعلى خلاف ذلك الإجماع، قال عَبْدالله بن حمزة: «الزّيدِيّة هم الجارودية، ولا يعلم في الأئمة – عليهم السلام – من بعد زيد من ليس بجارودي، وأتباعهم كذلك»، تبرءوا من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وزعموا أنَّ الإمامة مقصورة في أولاد الحسن والحسين، وأوجبوا نصرة من خرج منهم طالبًا الإمامة، مُستدلين بحديث ضعيف نُسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم جاء فيه: «من سمع داعينا أهل البيت فلم يجبه، أكبه الله على وجهه في النار».

جعلوا الإمامة أصلًا من أصول الدين؛ بل من أكبر مسائله، وقالوا: «أنَّها في الإمام علي، في النص الجلي»، ومن خالفهم حكموا عليه بالضلال والزيغ، وتبرءوا منه، واستحلوا حرمته، وامتنعوا عن الصلاة خلفه، حتى وإنْ وافقهم في غير ذلك من المسائل، وقد انتقدهم الإمام يحيى بن حمزة بقوله: «ليس أحد من فرق الزّيدِيّة أطول لسانًا، ولا أكثر تصريحًا بالسوء في حق الصحابة من هذه الفرقة».

زيد بن علي كان يُجل ويرضي على الخلفاء الراشدين، وأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وحينما سأله أنصاره عن رأيه في الشيخين أجاز خلافتهما، وذكرهما بخير، انفضوا حينذاك عنه، وفسخوا بيعته، فخاطبهم بقوله: «اذهبوا فانتم الرافضة»، ومن هذا المنطلق فإنَّ الجاردويين ومن بعدهم الهادويين ليسوا زيدية؛ لأنَّهم لم يعترفوا أصلًا بخلافة أبي بكر، وعُمر، ولا يجلوهما.

انحرف الطامح يحيى بن الحسين (توفي عام 298هـ) كثيرًا عن المذهب الزيدي، وتبنى النظرية الجارودية في الإمامة، لا تقليدًا لأبي الجارود، ولكن توافقًا معه في الأصول العامة، أصل – هو الآخر – لنظرية الاصطفاء الإلهي، وجعل الإمامة موازية للتوحيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصرها بشقيها السياسي والديني في البطنيين، وجعل لها 14 شرطًا مُلزمًا.

وهو – أي يحيى بن الحسين – كما حرَّم الاجتهاد في المسائل الأصولية، ومنها الإمامة؛ لأنَّها شرعية، ولا مجال فيها للدليل العقلي، أجازه في المسائل الأخرى، وعلى وجه الخصوص جزئية الخروج على الظلمة، وهو المدخل الذي تسلل من خلاله لإقامة دولته الدينية، على اعتبار أنَّ حُكام الدولة العباسية (بني عمومته) ظلمة، وكل حاكم ليس من البطنيين ظالم، واجب الخروج عليه.

وكما حُصرت النبوة في ذرية إبراهيم عليه السلام، حصر الطامح يحيى بن الحسين الرسي الإمامة في ذرية محمد صلى الله عليه وسلم، رغم أنَّ النبي الأعظم لم يُعقب، والأدهى والأَمَرُ من ذلك أنَّه حكم على أبي بكر، وعمر بن الخطاب بالردة، وقال أنهما يستحقان حكم الإعدام، وزاد على ذلك بأنْ كفر جُموع المسلمين الذين لا يعتقدون تقديم علي بن أبي طالب عليهما!

لغَّم الطامح يحيى مذهبه العنصري بعدد من الآيات القرآنية التي تؤكد حقه في الحكم، فسرها حسب هواه، وجاء – أيضًا – بأحاديث تتصادم والنص القرآني، ومقاصد الشريعة، ومنها مقولة: «إنَّ الإمامة في قريش»، و«لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي منهم اثنان»!

حاشا على رسول الإنسانية (ب)، وعدو التعصب أنْ يقول مثل هذا الكلام، وهو الذي انتقل إلى جوار مُرسله ولم يوص، تاركًا لأصحابه حرية اختيار من يحكمهم، على اعتبار أنَّ السياسة ومغباتها اجتهاد بشري، كيف لا؟ وهو من خاطبهم ذات يوم بـ «أنتم أعلم بأمور دنياكم»، وأنهى دوره بقوله تعالى: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينًا».

كذلك فعل ابن عمه علي بن أبي طالب الذي لم يوص حين حانت منيته لأحد من أولاده، ‏وخاطب أنصاره قائلًا: «لم يوص من هو خير مني»، وحين آل الأمر بالشورى لولده الحسن، أعلن الأخير بعد ستة أشهر اعتزاله وتنازله لمعاوية بن أبي سفيان حقنًا لدماء المُسلمين، ولو كانت الإمامة عقيدة وحقًا مُتوارثًا لقاتل في سبيلها، بايع وشقيقه الحسين الحاكم الجديد، ولم يخرج الحسين على الأمويين إلا بعد أنْ انحرفوا على مسار دولة الخلافة، وجعلوها وراثة لا شورى، وهو هنا مثله مثل عبدالله بن الزبير وغيره من أبناء الصحابة الثائرين.

على الرغم من مكانة علي بن أبي طالب وكتابه (نهج البلاغة) عند جميع فرق الشيعة، إلا أنَّهم خالفوا نهجه المُعتدل، وفي ذات الكتاب خطبة له – حينما دعوه إلى البيعة بعد مقتل عثمان بن عفان رضي الله عنهما – قال فيها: «دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمرًا له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول»، إلى أنْ قال: «وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيرًا خير لكم مني أميرًا».

وخاطب مُعارضيه في موقعة الجمل قائلًا: «والله ما كانت لي في الخلافة رغبة، ولا في الولاية إربة، ولكنكم دعوتموني إليها، وحملتموني عليها»، وأضاف: «وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم علي تداكُ الهيم على حياضها يوم وردها».

وراسل معاوية بن أبي سفيان قائلًا: «إنَّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أنْ يختار، ولا للغائب أنْ يرد، وإنَّما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إمامًا كان ذلك لله رضى، فإن خرج منهم خارج بطعن أو بدعة ردوه إلى ما خرج منه، فإن أبى، قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، وولاه الله ما تولى».

لم يُكفر علي الخارجين عليه، وطلب من أصحابه في موقعة الجمل صراحةً بـ «أن لا يجهزوا على جرحاهم، ولا يتبعوا مدبريهم، ولا يغنموا أموالهم»، وفي موقعة صفين التالية، وحين سمع قومًا من شيعته يسبون أهل الشام (شيعة معاوية)، خاطبهم: «إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم».

وجاء في كتابه الذي بعثه إلى الأمصار يذكر فيه ما جرى بينه وبين أهل الشام (شيعة معاوية) قوله: «والظاهر أنَّ ربنا واحد، ودعوتنا في الإسلام واحدة، ولا نستزيدهم في الإيمان بالله، والتصديق برسوله، ولا يستزيدوننا، والأمر واحد، إلا ما اختلفنا فيه من دم عثمان، ونحن منه براء».

وحينما سُئل عن مصير القتلى من الجانبين، قال: «أسأل الله لهم الجنة»، مُؤسسًا بذلك لتشريع أجازه الجميع، إلا أنَّ من يدعوا أنَّهم أحفاده، خالفوه، وكفروا مُعارضيهم، وبالغوا في سبهم، وأجازوا قتلهم، وهدم منازلهم، وحرق وإتلاف مزارعهم، وسبي أموالهم في قتال أو في غير قتال.

والأكثر أهمية أنَّه – أي علي – لم يكن على وفاق مع أولئك المُغالين في تعصبهم له، وجاء في كتابه (نهج البلاغة) نصوص كثيرة تؤكد ذلك، منها قوله: «لوددت أنَّ معاوية صارفني بكم صرف الدينار بالدرهم، فأخذ مني عشرة منكم وأعطاني رجلا منهم، يا أهل الكوفة منيت منكم بثلاث واثنتين، صمٌ ذوو أسماع، وبكم ذوو كلام، وعمي ذوو إبصار».

وقال أيضًا: «يا أشباه الرجال ولا رجال! حلوم الأطفال، وعقول ربات الحجال، لوددت أني لم أركم ولم أعرفكم معرفة – والله – جرَّت ندمًا، وأعقبت سدما، قاتلكم الله لقد ملأتم قلبي قيحا، وشحنتم صدري غيظا، وجرعتمونى نغب التًّهمَام أنفاسًا، وأفسدتم علي رأيي بالعصيان والخذلان»، وقوله: «اللهم إني مللتهم وملوني، وسئمتهم وسئمونى، فأبدلني بهم خيرًا منهم، وأبدلهم بي شرًا مني».

وكان – رضي الله عنه – أمام ذلك الغلو المُفرط يستشرف المستقبل، وروي عنه قوله: «وسيهلك في صنفان: مُحبٌ مُفرط، يذهب به الحب إلى غير الحق، ومبغضٌ مُفرط، يذهب به البغض إلى غير الحق، وخير الناس في حالًا النمط الأوسط»، وكان – أيضًا – مؤمنًا بالتطور والتغيير، ومن نصائحه الخالدة قوله: «لا تعلموا أبناءكم على عاداتكم، فإنَّهم مخلوقون لزمان غير زمانكم».

وبالعودة إلى موقف علي بن أبي طالب من الخلافة، فقد روي عنه قوله بعد أنْ اختار أهل الحل والعقد أبا بكر خليفة: «فنظرت في أمري، فإذا طاعتي سبقت بيعتي، إذ الميثاق في عُنقي لغيري». ويبقى السؤال: إذا كان هناك نص ديني مُلزم بتوليته – رضي الله عنه – ونسله الحُكم؛ فلماذا لم يقاتل من اختاروا غيره بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم؟!

الهوية وصورة الآخر عند الإمام الهادي 4 01 الحركة الحوثية وتاريخها الآثم

طموح سلطوي

وهكذا، وباسم الدين المُزيف، والولاية، خدع الأئمة أنصارهم، وما يزال اليمن واليمنيون يكتوون بنار مذهبهم العنصري، ولعنة ولايتهم، ولأنَّ الفكر الكهنوتي لا يجابه إلا بالفكر العقلاني، وجب علينا جميعًا نقد كل ما هو سلبي في موروثنا المُثقل بالدم والصراعات، وفضح وتعرية أرباب التجارة بالأديان، أينما كانوا، وحيثما حلوا، واستشعار أنَّ الله الرحمان الرحيم لا يمكن أنْ يعطينا – كما قال ابن رشد – عقولًا، ويعطينا شرائع مُخالفة لها.

باحثون كُثر تصدوا لذلك الفكر المُنحرف، وعروه بموضوعية، ويُعد الباحث محمد عبدالله زبارة (علوي النسب) أبرزهم، نسف خُرافة الاصطفاء الإلهي، واعتبرها امتدادًا لما قاله إبليس: «أنا خير ‏منه»، وأكد أنَّ نظرية اختيار الحاكم في الإسلام قد شُوِّهت منذ وقتٍ مُبكر، ففي الوقت الذي ‏أرادها الله سبحانه أن تكون محط اهتمام المسلمين بشكل عام، إذا بها توصد بقفل ‏القرشية الذي جاء بالدولتين الأموية، ثم العباسية.

زبارة عبَّر عن خجله من ‏بني قومه الذين يدَّعون أنَّهم يمتلكون حق احتكار العلم والحكم، مُعتبرًا فكرهم بأنَّه نوع من الإفلاس، وتوظيف لطموح سلطوي يُكذَبُ فيه على الله ورسوله، واصفًا آل البيت بالمصطلح السياسي، مؤكدًا: «جميعنا ينتسب إلى هذا الدين، وإلى بيت النبوة، وإلى بيت ‏الإسلام، وإلى بيت محمد، وإلى أتباع محمد، وإلى آل محمد، وإلى أهل محمد كرسول ونبي..».

وسبق لنشوان الحميري أنْ أكد تلك الحقيقة قبل ثمانية قرون قائلًا:

آل النـبـي هـــــم أتــــبـــاع مــــــلـتـــه 

من الأعـــاجــــم والســـودان والعـرب 

لو لـــم يكــــن مـن آلـــه إلا قـرابــتــه 

صلَّى المصلي على الطاغي أبـي لهب

وفي المُقابل كان الأحرار الأوائل حكماء في الرد على هؤلاء الأدعياء، لم يجابهوا التعصب بتعصب مُضاد؛ بل حاربوا الإمامة كنظام حكم كهنوتي يرتكز على السادة والعبيد، ويقوم على التعصب السلالي، والمذهبي، والقبلي، وهي أمور لا تتفق – قطعًا – مع كرامة الإنسان كإنسان، ولا مع رخاء الشعوب واستقرارها، ولا مع صيرورة الحضارة وتقدمها، ومن هذا المدخل تسللوا وأكدوا أنَّ الإنسانية لم تشهد في تاريخها الطويل نظامًا بشعًا مثل الإمامة، ولم ينكَّب بها شعب من الشعوب سوانا.

وهذا المناضل محسن العيني حمَّل قبل أكثر من 60 عامًا الجميع مسؤولية ما وصلنا إليه، قائلًا: «السادة – يقصد العلويين – ليسوا كلهم مسئولين عن هذه الأوضاع، ولا عن هذه الامتيازات، أنتم يا قبائل اليمن ورجاله، أنتم الذين كنتم تبحثون عن السيد بحثًا، وتفتشون عنه في كل مكان، وتضعونه في الصدارة من مجالسكم، وتحرضونه على البطالة والتعطل، وتتلمسون عنده البركات، وتغرونه على الدجل والتضليل..».

وهذا المُؤرخ الموسوعي محمد بن علي الأكوع قال في إحدى كُتبه: «وأنا والحق يُقال لا أنحي باللائمة على الإمامة فحسب؛ بل على اليمنيين أتباع كل ناعق، والذين مات فيهم الطموح، والشرف، والكرامة، ورُسِخَ فيهم الجهل والإهانة».

وهذا القاضي عبدالرحمن الإرياني قال ناصحًا بني قومه المُغيبين:

خـــدعتكم لصوص عـــدنان بـاسم 

الـدين غـــشًا وخــدعــة وكـهـانــه 

ليـــس في الــدين سيـــدٌ ومســـودٌ 

فاقـرؤوه وحـــقـقـوا قــــرآنـــــــه 

إن دين الإســلام ديـــن التـساوي 

ليــس فــيـه تعاظـــم واستـهـانــه

وأختم هذه الجزئية بما قاله الشهيد محمد محمود الزبيري مُدافعًا عن أقرانه من الأحرار الأوائل: «وإنَّ من الخطأ الكبير والمنطق المقلوب أن يُظن بالذين يُنادون بالحكم الشعبي أنَّهم يُثيرون عصبية عنصرية – فالواقع أنَّهم على العكس من ذلك، يُنادون بوحدة الشعب، الوحدة الصحيحة السليمة التي تستند إلى ضمانات بقائها في المُستقبل، دون عواصف».

وأضاف: «إنَّ الذين يؤمنون بالعنصرية هم الذين يدافعون عن الفوارق والامتيازات التي تفصل بينهم وبين سائر فئات الشعب وطبقاته، ويصرون على أنْ يتميزوا على الشعب، وينفردوا عنه بحقوق سياسية واجتماعية كأنَّهم لا يقبلون أنْ يكونوا في عداد أبنائه، ولا في مستوى إنساني كمستوى إنسانيته»، مُعتبرًا تلك النزعة العُنصرية أخطر شيء على العلويين أنفسهم، وعلى مُستقبلهم (1).

مُشكلة اليمن الكبرى

الإمامة مُشكلة اليمن الكبرى، هذا ما خلص إليه أبو الأحرار الشهيد محمد محمود الزبيري، في كتابه (الإمامة وخطرها على وحدة اليمن)، مُعرفًا إياها: بأنَّها فكرة مذهبيـة طائفية يعتــــنقـها مـن القـــــديم شطر مــن الشــعب، وهـم الزّيــــدِيّة – أي الـهـادوية – سكان اليـــمــن الأعلى (ج)، وأنَّ باقي اليمنيين لا يـدينـون بها، ولا يرون لها حقـًا في السيطرة عليهم، مُشيـرًا إلى أنَّ التَحكم الإمامي خلق شعـورًا مريرًا لـــدى الغالبية، وأبقى الانقسـام ظلًا قاتمًا رهيبـًا يخيم على البـلاد.

تـعاقب على حُكـم الإمامة الزّيدِيّة عبر تـاريخها الطويـل أكثر من 100 إمام، وما من أحدٍ من هـؤلاءِ إلا ووصل إلى الحكم على نـهـرٍ من الدمـاء، إما في حـروبٍ عبثيـة اعتـادوا العيش في أجـوائها، أو في صراع أسري بينَ إمـامٍ وآخـر، وقد سجـل التاريخ وجـود أكثر من دولة، وأكثر من إمام، في نفس الحقبة، وفي نفس المربع.

استجلب هؤلاء الأئمة جميع مساوئ التاريخ، وغلَّفـوها بمساحات شاسعة من القهر، والذل، والحرمان، وشـرعنوا لحكمٍ سلالي – كهنوتي، كـان – ومـا يزال – سببًا لأغلب رذائـلنا الاجتماعية والسيـاسية.

أبدعـوا وبدَّعوا في الاستيلاء على البلادِ، وفشلوا في إدارتها؛ لأنَّ مشروعهم قائم في الأساس على السيطرة والاستحواذ، لا الإدارة والحكم. قـادوا البلاد والعباد بما أملته عليهم رغباتهـم الفجَّـة، وفَصّلوا فقهًا سياسيًا يشملهم بكل الخيرات، ويستثني كل اليمنيين.

مـارسوا العبث على عباد الله، في حياتهم وممتلكاتـهم، فـالاستبـداد المُطلق كان عنـوان حكمهم، وهويتـه اللصيقـة به، والطغيان الأحمـق كان سلوكهم اليـومي الذي يتباهون به، حاربوا منـابع التنـوير – من مـدارس، وجامعات ومسـاجـد، وجعـلـوا منها خصمًا لـدودًا يستحـق التدميـر والنسـف، ورأوا في المتعلميـن ودعـاة الحـرية أعـداءً لهم وللـدين.

كانوا يقولـون أنَّهم يَحكمـون بـأمر الله، وباسم الحق الإلهي، في صورة مُشابهة لتلك التي حدثت في أوربا إبانَ العصورِ الوسطى، مُكررين ما قاله جيمس الأول ملك بريطانيا ذات يوم، بــ «أنَّ الملوك يـَمشُـون على عـَرش الله في الأرض»، وما مـن استبداد سياسي – كما قال الكواكبي – إلا ويتخذ لنفسه صفة قدسية يشارك بها الله، والطغاة – كما قال علي الوردي – «يعبـدون الله، وينهبـون عباد الله في آن واحد».

وهذا الشهيد محمد محمود الزبيري وصف حكم الأئمة بأنَّه حكمٌ مُطلق من كل القيـود، حتى من قيود الاعتبارات الدكتاتورية نفسها، وأنَّ الإمام يعتقد أنَّ سلطته من السماء، وأنَّ اللهَ هو الذي اختاره ليحكم هذا الشعب، وألهمه أنْ يعمل وأنْ لا يعمل، وأنَّ الله هو الذي جعـل من تصرفاته شرائع تنسخ الشرائع، ودينًا ينسخ الأديان.

وأضاف الزبيري: «حسب الواحد منهم أن يتربع على العرش، ثم يقول للناس أنَّ الله هو الذي ولاه، أنَّ الله هو الذي أمر الناس أن يطيعوه، وأن يخدموه، وأن يقدسوه، وأن يموتوا في سبيل نصرته، وأنَّ حكمه ليس مُستمدًا من الشعب، ولا من فضل الشعب؛ بل هو منحة من السماء، إنه ظل الله، ونائب الله وخليفته». ولا ضير أنْ يتحول أبناءُ الشعب إلى مُجرمين، ولصوص، وقطاع طرق، تباح دماؤهم، وأموالهم، وأعراضهم بمجرد أنْ يغضب الإمام أو يغضبوا عليه.

حَفلةِ التَّيْس جَولةٌ حَولَ الطُغاةِ 3 1 الحركة الحوثية وتاريخها الآثم

عَلاقة جدلية

أقـام الأئمة السلاليون حُكمهم على جَماجم البَشر، وهيـاكل الشعارات الدينية الزائفة، غَـذى جُنـونـه شـوق عـارم للسُلطة والنفـوذ، ورغبـة جَامحة لاستعباد الناس، والتَحكم بمَصائرهم، وحين صار وجودهم حقيقـة ثابتة، وأصل من أصول الدين؛ عمدوا على محـو هوية اليمنيين، وطمس حضارتهم، وإثارة خلافاتهم، وتشويه قبائلهم.

تحدث عبدالرحمن بن خلدون – عالم الاجتماع الشهير – في مقدمته عن الجدلية المأساوية بين البداوة والحضارة، وأكد في نظريته التي استخلصها حول نشوء الدول واستقرارها، وتحللها واندثارها، إنَّ الأوطان الكثيرة القبائل والعصائب قلّ أنْ تستحكم فيها دولة، مُستشهدًا بحظ الدولة الإسلامية بمصر والشام وبلاد فارس لقلة القبائل والعصبيات فيها، فشأنها كما قال: «إنما هو سلطان ورعية»، بخلاف حظها مـع قبائل البربر بأفريقيا والمغرب المشابهة إلى حدٍ كبير لمُعظم قبائل اليمن الشمالية.

ومن هذا المنطلق، فثمة علاقة جدلية وتأثير مُتبادل بين كل من العصبية والدين، والدعوة الدينية من غير عصبية لا تتم، والعصبية – كما قال ابن خلدون – إذا اقترنت بالدين لا يقف أمامها شيء، وتبعًا لذلك فقد استقطب الأئمة السلاليون باسم الدين المُزيف قبائل اليمن الشمالية، وأنعشوا أسوأ ما فيها، وخلقوا لها المبررات العقائدية لجعل الفيد دينًا، والتسلط رجولة، وأغـرقوا أبناءها في الجهـل والتوحش، وجرعوهم المعتقدات المسمـومة، ورسَّخوا فيهم التمايز الطبقي، والاستعلاء الفارغ، وجعلوهم يحتقرون الأعمال الزراعية، والمِـهن الحرفية، والأشغال التجارية.

وهكذا، وبالنفسية البدوية العنيفة، والعقلية الشيعية الحاقدة، تدفـق هـؤلاء كالذئاب المسعورة صوب المناطق الجنوبية، والغربية، قتلوا، ونهبوا، ودمروا – جهادًا في سبيل الله، وإعلاءً لراية الإمام.

تعمقت الفجوة، وتوسعت الهوة، لمـُـجتمعٍ هو بالأصل حافل بتناقضات صادمة، ومُتصارعة، طالما غضضنا الطرف عنها، لتُصبح مقولة «تفرق أيدي سبأ» أسوأ حقيقة، وأشنع مثال، وما الكارثة الحوثية إلا امتداد لذلك التاريخ الآثم، أطلت بارزة القسمات، واضحة المعالم، وبرهنت لنا وبشدة أنَّ الخلاف لا حـدود له، وأنَّ القطيعـة لا نهايـة لها، وأنَّ التـوجـس من المُستقبـل له ألف سبب يُبرره.

وبالعـودة إلى أدبيات الشهيد الزبيري ومقولاته الخالدة، نجد أنَّه قد تنبأ وهو في ذروة نضاله، وقمة عطائه، بـأنَّ معارك المستقبل وأحداثه ستدور حول هذه الكارثة المسماة (الإمامة)، وأنَّ مَشاكل كثيرة ستنبعث منها، وستستغلها القـوى العربية والدولية شئنا ذلك أم أبينا، وأنَّ اليمن ستتعرض بسببها لأخطـارٍ لا نهاية لها.

وللخروج من هذه المُعضلة، وهذه اللعنة الأزلية قال الزبيرى – ناصحًا شعبه – : «فإذا أراد اليمنيون أن يجنبوا بلادهم كل هذه الاحتمالاتِ الرهيبة، ويحتفظوا باستقلاليتها، وسيادتها، ووحدتها، وبقاء اسمها على الخريطة، فليشطبُوا على هذه الخرافة التي تعطي لنفسها حقًا مُقدسًا في الحكم لفئةٍ معينة من الناس، وليُتيحوا لكافة فئات الشعب فرصًا مُتساوية في الحكم، ذلك هو الحق الواضح المستقيم، لا نذكره تعصبًا لفريق من اليمنيين دون فريق، وإنَّما نذكره حرصًا على وحدة الشعب بأسره، وعلى حريته واستقلاله».

الحوثية وتاريخها الآثم الحركة الحوثية وتاريخها الآثم

ثورة الخميني

بعد ثماني سنوات من الحَرب الجمهورية الإمامية، استسلم الإماميون للأمر الواقع، ورضخوا للمُصالحة الوطنية التي رعتها السعودية وباتفاق غير مكتوب مارس 1970م، وبعد مرور تسع سنوات أخرى، وبعد نَجاح ثورة الخميني في إيران فبراير 1979م (د)، انتعشت آمال الإماميين في إعادة دولتهم الكهنوتية، ليتوجه في العام التالي وفد رفيع من قبلهم إلى طهران، في زيارة ظاهرها التهنئة، وباطنها طُموحات إمامية تبدت تباعًا، كان بدر الدين الحوثي أحد أبرز أعضاء ذلك الوفد، وقد كُللت تلك الزيارة بولادة تَحالف زيدي – اثنا عشري جديد، وبصيغة مُختلفة، عنوانه: (توارى البدر، وعاد بدر)!

تبعًا لذلك تم في ديسمبر من عام 1981م طرد السفير الإيراني من اليمن؛ بعد أنْ تبدى للحكومة نشاطه المعادي، خاصة والحرب العراقية الإيرانية كانت حينها على أوجها، ليبدأ النشاط التعليمي لجماعة الحوثي في العام التالي، حيث تشكلت على يد محمد بدر الدين الحوثي وصلاح فليته نواة حركة (الشباب المؤمن).

عملت ثورة الخميني على إعادة إحياء نزعة التشيع بنهجه القومي لا الديني؛ بدليل تبنيها لخيار تصدير الثورة والسيطرة على المناطق الـمُجاورة، تمامًا مثلما كما كانت تفعل الدولة الساسانية من قبل، وبدعم منها كبير عاودت الإمامة الزّيدِيّة في اليمن تمددها العسكري الكارثي بقيادة حسين بدر الدين الحوثي 2004م، ومن بعده أخيه عبدالملك.

صحيح أنَّ الإمامة الزّيدِيّة عادت بعد المُصالحة الوطنية – السابق ذكرها – لانكماشتها الاعتيادية، إلا أنَّ عودة أعضائها الفاعلين لتقاسم السلطة والثروة، ومُمارسة مهامهم داخل النظام الجديد؛ حال دون تحقيق الثورة السبتمبرية لأهدافها المُعلنة، وأسهم إلى حدٍ كبير في إقصاء الثوار الحقيقيين، وتشكيل جيش مناطقي ولاءه للقبيلة، وإفراغ الجمهورية من مضمونها، وما حدث في 21 سبتمبر 2014م من انتكاسة صادمة، ما هو إلا نتيجة مُتوقعة لتلك التراكمات.

وفي المُحصلة المأساوية، لم يكن تمدد الإماميين الجدد محض صدفة أو ارتجال؛ فثمة ارتباط وثيق بين هؤلاء وماضيهم، تمامـًا كـبني إسرائيل، استفادوا منه، وأعادوا تدويره، وحين انهارت الدولة من الداخل، حلوا محلها، ظروف سياسية واجتماعية واقتصادية قاهرة خدمتهم، وبقراءة فاحصة لعوامل تمددهم، نجد أنَّهم اعتمدوا في الأساس على الدين المزيف، والأنصار المخدوعين، على اعتبار أنَّ دولة الكهنوت تبدأ – كما أفاد الفيلسوف الفرنسي فولتير – عندما يلتقي أكبر مُحتال بأكبر مُغفل.

ضربوا بعد ذلك القبائل الشمالية بعضها ببعض، حتى إذا ما استتب لهم أمرها، أطلقوها على الطرف الآخر، بعد أنْ غذوها بالنعرات المناطقية، والطائفية، والتكفيرية؛ كونها باعتقادهم أسرع وسيلة للتحشيد، خاصة في مُجتمع يغلب عليه الجهل، وتستوطنه ثقافة الفيد، وما شيوع مُفردات: (في عقر دارهم، واليمن حقنا) إلا لتكريس منطق التسلط والغلبة، وهي مُفردات اكتظت بها أدبيات الإماميين الجدد، كما اكتظت بها كتب أسلافهم من قبل، مع اختلاف بسيط في التشبيه، والتسمية.

الإمامة الزّيدِيّة ليست ذات نزعة وطنية، ولم تحافظ – كما قال الباحث عادل الأحمدي – على وحدة اليمن تاريخيًا، وجغرافيًا. وهي بخريطتها الحالية تعيش أسرع تمدد، وأسوأ انكماشة، وعبدالملك بدر الدين الحوثي (إمامها الجديد) لم يحد قيـد أنملةٍ عن تلك الوسائـل العُنصرية والاستعلائية التي انتهجها أسلافه؛ بل كـان الأسوأ والأغبى والأكثر تهورًا، بسرعة خاطفة التهم الجغرافيا، وبعنجهية متوارثة أذل الإنسان، بمساعدة لاعبين محليين وخارجيين كانوا يرونه وسيلة انتقام لا أكثر.

عبدالملك الحوثي ما هو إلا مُقلد بارع للخميني، وانتهازي كبير، تمامًا كأخيه الصريع، أجاد استغلال الطامحين والمُنتقمين في بلادنا على السواء، أغراهم ووعدهم بتحقيق رغباتهم النبيلة وغير النبيلة، وعمل على تكرار السيناريو الإيراني، وبدعم مُستميت من سراق الثورة هناك، ولم يُدرك شركاء ثورته المزعومة – هنا – الذين تقافزوا على رضاه تلك الحقائق المُوجعة والدامغة إلا بعد أنْ وقع الفأس فوق رؤوسهم جميعًا.

وبتحليل نفسي عميق لشخصية هذا الإمام الكارثة، نجد أنَّه شخص مَريض، مَطحـون بمشـاعر الدونية والعجز، تُسيره طموحات غيبية اتكالية ذات طابع كابوسي، انتقم من الجميع شرَّ انتقام، ولم يستثنِ حتى نفسه وجماعته وأولئك السُذج الذين ساندوه، وما يزال حتى اللحظة يهرول صوب حتفه، منتشيًا بــ (الصرخة)، وزعيق (ما نبالي)!

خُلاصة القول

بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة علاقة عكسية من الصعب اختزالها، والتنافس الذي حصل خلال الـ 1150 عامًا الفائتة بين دول اليمن المُتعاقبة ودولة الإمامة الزيدية الكهنوتية، ما هو إلا صورة سوداوية لصراع يتكرر، ولو قرأنا تاريخ تلك الدول بتمعن، لوجدنا أنَّها جاءت امتدادًا للدولة التي تتجدد وتتطور وإنْ تغيرت مُسمياتها، بعكس فكرة الإمامة التي تمضي قُدُمًا دون تجديد، وإنْ تغيرت تفسيراتها، وتعددت أسماء من يتولون زمامها.

إنَّ مـآثـر الصليحيين والأيوبيين والرسوليين والطاهريين والعثمانيين – من مساجد ومدارس وحصون، ما تزال شاهدًا حيًا على أنَّهم كانوا هنا، ومروا من هنا، تُفصح بنبرة تباهٍ عن عظيم اهتمامهم بالأرض والإنسان. وما ذلك الكم الهائل من الموروث الذي صاغه من عاشوا في كنفهم – من علماء وأدباء ومؤرخين، إلا دليل واضح على أنَّ اليمن عاش عصره الذهبي في ظل تلك الدول، وبلغ مجده في عهد الدولة الرسولية التي استمرت لأكثر من قرنين وربع القرن من الزمن.

وفي المُقابل أعيانا البحث عن حسنةٍ واحدةٍ وأثرٍ جميلٍ لحكمِ الأئمة السلاليين، فلا شيء غير الدم والبارود، وتاريخٌ من الغزو والفيد، وجراحات ما تزال غائرة. وخُلاصة المُقارنة: شتان بين دول حضارية حفظت لنفسها صفحات ناصعة في كتب التاريخ، وبين إمامة عُصبوية لا تؤمن إلا بالعنف والاستحواذ، شعارها كان وما يزال: «فوق جيش، وتحت عيش»!

عبر تاريخها الطويل تنكمش الإمامة الزيدية إذا ما وجدت دولة وحاكمًا قويًا يَصُدها، وتتمدد إذا حصل العكس. والأكثر مرارة أنَّها ظلت خلال هذه المدة الطويلة بنظر مُعتنقيها عقيدة، وجزءًا من الدين؛ ولهذا صعب على الأحرار الأوائل اجتثاثها، ظلت كامنة مُتحفزة كفكرة، وعاودت حين سنحت لها الفُرصة الظهور من جديد كدولة، وبصورة أكثر فظاعة.

ومن هذا المُنطلق، وكي لا يظل التنافس والصراع بين فكرة الدولة، ودولة الفكرة حتى قيام الساعة، ينبغي علينا التحرر من العصبية والعنصرية المقيتة، ومُجابهة الفكر الكهنوتي بالفكر العقلاني، من خلال العودة إلى الجذور، ونبش تاريخ الإجرام الإمامي، وإلغاء المذهب الديني الأيديولوجي الحامل لهذه الفكرة الريديكالية المُتطرفة، والعابرة للأزمنة، وفضح وتعرية أربابها، من أطلقوا عليهم (الأئمة المُعتبرين)، وتعزيز حضور الدولة، والجمهورية، وكل القيم الإنسانية النبيلة (2).

الهوامش:

(أ) ليست اليمن وحدها من نُكبت بأدعياء النسب العلوي، فهناك بُلدان أخرى، إلا أنَّ بلادنا تبقى الأكثر تضررًا. وفي الوقت الذي سادت فيه عدد من العرقيات، وحكمت باسم الإسلام، تحول اليمنيون، وبالأخص مُعتنقي المذهب الزيدي (الهادوي) إلى عبيد لهؤلاء السُلاليين، وباسم الإسلام المُزيف هذه المرة. 

وفي المُحصلة التراجيدية، شيء طبيعي أنْ يَتكاثر المُغيبين من أحفاد هؤلاء الأدعياء، ليصلوا كما أفادت إحدى الإحصائيات إلى الـ 30,000,000 نسمة كأقل تقدير، هذا حول العالم، أما في اليمن المنكوب فقد حددتهم إحدى الإحصائيات بـ 6,000,000 نسمة كأعلى تقدير! وهي الإحصائية التي ولَّدت هذا السؤال: ما نسبة اليمنيين (أحفاد قحطان)، ومعهم بقايا الأحباش، والفرس، والأتراك، والأكراد، وغيرهم، من أجمالي سكان اليمن؟! وغير مُستبعد – طبعًا – أنْ يكون كثيرٌ من المذكورين في هذا التساؤل الصادم ضمن قائمة أولئك الأدعياء! 

يُحسب للباحث الجاد أحمد الحميري بَراعة تفنيد ظاهرة التكاثر اللامعقول لهؤلاء الأدعياء، وذلك عبر أحد فصول كتابه (خرافة السُلالة والولاية)، وفق منهج بحثي وعلمي دقيق. وإنْ كانت الحسابات الرياضية بأي نسب تكاثر – حسب قول ذات الباحث – مقبولة علميًا، إلا أنَّها – فيما يخص العلويين الهاشميين – لن تصل إلى الأرقام المذكورة سابقًا، حتى في مُعدلاتها الأعلى، لافتًا أنَّ أعدادهم الحقيقية عشرات الآلاف فقط، وبالتجاوز والمبالغة مئات الآلاف، لا ملايين! الحميري نثر في كتابة عدة أمثلة تؤكد تلك الحقيقة الحسابية الغائبة، ولو أنَّ كل واحد – حد مثله الأول – من الـ 100,000 الذين شاركوا الرسول صلى الله عليه وسلم حجة الوداع بلغ عدد ذريته اليوم نفس الرقم (100,000)؛ لبلغت ذرية أولئك الحجاج مُجتمعين 10 مليارات إنسان، وهو عدد يفوق سكان العالم في الوقت الراهن، هذا إذا افترضنا أنَّه لم يكن على وجه الأرض حينها سواهم! 

وما ينبغي تأكيده أنَّ مهمة التفنيد لا تحتاج للدراسات النظرية والحسابية فحسب؛ بل تحتاج للدراسات الجينية أيضًا. وكم نحن في ظل هذه الظروف الحرجة بأمس الحاجة لمركز أبحاث يتولى هذه المهمة، ويكشف زيف نسب هؤلاء الأدعياء عبر فحوصات (DNA)، ونتائج تلك الفحوصات ستكون حتمًا لصالح معركتنا الكبرى في طمس الخُرافة، وفكفكة السُلالة الزائفة. 

ما يقوم به البعض – بقصد أو بدون قصد – من تأكيد علوية أو هاشمية هؤلاء الأدعياء، مجافٍ للصواب، ويخدم السُلاليين بتأكيد زيف ادعاءاتهم. ومن هذا المُنطلق، يجب علينا جميعًا أنْ ندير معركتنا بذكاء، وأنْ نُفند ذلك الزيف باسترجاع ما ذكره النسابة والمُؤرخون حول ذلك، وأنْ نُطالب من لم يقتنعوا بتلك الاستدلالات بإجراء الفُحوصات الجينية، وتأكيد صحة نسبهم. وإذا ما جاءت النتيجة لصالح بعضهم؛ حق لهؤلاء البعض أنْ يَفخروا بانتسابهم لعلي بن أبي طالب، أو حتى لعمه أبي لهب بن عبدالمطلب، تمامًا مثلما حق لغيرهم أنْ يفخروا بأنسابهم. أما أنْ يقول هؤلاء أنَّهم أحفاد رسول الإنسانية (محمد صلى الله عليه وسلم)، مُنكرين كلام الله تعالى حول هذه الجزئية، ويتسيدوا على عباد الله، فهذا أمرٌ غير مقبول البتة، ولن يجنوا منه سوى الهلاك. 

(ب)  ما طمع رسول الإنسانية في شهرة أو منزلة أو مطلب أرضي أو مقصد دنيوي، كان يُكلم النساء بلطف، ويخاطب الغريب بودّ، ويتألف الناس، ويتبسّم في وجوه أصحابه، ويقول: «إنما أنا عبد: آكل كما يأكل العبد»، وحين رأى أحدهم مُرتجفًا من هيبته، هدأ من روعه قائلًا: «هوّن عليك، فإني ابن امرأة كانت تأكل القديد بمكة»، وكان – صلى الله عليه وسلم – يكره المدح، وينهى عن إطرائه، ويقول: «لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم، فإنما أنا عبدالله ورسوله، فقولوا عبد الله ورسوله»، وكان ينهى أنْ يقام له، وأن يوقف على رأسه، وكان يجلس حيثما انتهى به المجلس، ويختلط بالناس كأنَّه أحدهم، ويحب المساكين، وروي عنه قوله: «اللهم أحيني مسكينًا، وأمتني مسكينًا، واحشرني في زمرة المساكين». 

(ج)  الشام أو اليمن الأعلى، تسمية ترددت كثيرًا في كُتب المُؤرخين اليمنيين، وهي في الأصل للدلالة على المناطق الواقعة شمال صنعاء حتى صعدة، ويُقابلها في الاتجاه الآخر اليمن أو اليمن الأسفل، ويقصد بالأخيرة المناطق الواقعة جنوب صنعاء، وباب اليمن تحديدًا، ودلالة التسميتين جغرافية صرفة، وليست مذهبية أو مناطقية أو عشائرية – كما يعتقد البعض –  وإزالة لأي لبس سنستبدل في كتاباتنا تسمية (اليمن الأعلى) بالمناطق الشمالية، وتسمية (اليمن الأسفل) بالمناطق الوسطى، والأخيرة تشمل جُغرافيًا: تعز، وإب، وريمة، والبيضاء، ويافع، وعتمة، ووصاب، مع التأكيد أنَّ التسمية الأخيرة ظهرت أول ما ظهرت في عهد الدولة القاسمية. 

(د)  الثورة الإيرانية لم تكن في الأصل ثورة الموسوي الخميني وحده؛ بل كانت نتاجًا فعليًا لنضال مُشترك احتشدت لأجله كل القوى والتيارات السياسية والفكرية، وشكلت حلفًا مُناهضًا ضم (حزب توده الشيوعي، والملالي، وفدائي خلق، وجماعة مصدق، والليبراليون، وتجار البازار)، جميعهم جمعوا أمرهم على إسقاط نظام الشاه محمد رضا بهلوي، وهو ما كان. 

وفي الوقت الذي كانت فيه قوى اليسار الماركسي والوسط الليبرالي هي القاعدة الشعبية لتلك الثورة، كانت الأضواء مُسلطة على شخص الخميني الذي كانت خُطبه ونداءاته بمثابة صوت الثورة الأوحد، ولَّد ذلك الحضور دعاية سياسية مُضادة، استغلها أتباع الأخير، وتمكّنوا بالفعل من الاستحواذ والسيطرة على كل شيء، ثم أخذوا في تصفية حُلفائهم واحدًا تلو الآخر. 

أزيح الليبرالي القومي مهدي باذرخان من رئاسة الحكومة الأولى للثورة، وأرسل أبو الحسن بني صدر رئيس الجمهورية المُنتخب إلى المـَـنفى، وأعدم وزير الخارجية صادق قطب زادة بتهمة الخيانة العُظمى، وطال ذلك السلوك الإقصائي جميع شركاء الثورة والنضال. 

وهكذا اختنقت الثورة الإيرانية بأبخرة القوة النزوعية، وأغرقتها شهوة التعصب والغضب في نقائع الدم، لتطغى بذلك سطوة “آيات الله”، وحضر استبدادهم، فصلوا الدولة على مقاساتهم، وعملوا باستماته على محو تاريخ الثورة وأبطالها الحقيقيين، وصارت صورة الخميني الفرد هي الأكثر حضورًا، وتحولت الثورة – كما قال هيكل – من ظاهرة إنسانية إلى ظاهرة شيعية مُحاصرة في إيران.

المراجع

  1. نهج البلاغة، علي بن أبي طالب، شرح: محمد عبده، دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع، ص 72 – 77 – 178 – 179 – 189 – 237 –  397 –  398 – 430 – 446 – 543 / الإمامة وخطرها على وحدة اليمن، محمد محمود الزبيري، إصدارات وزارة الثقافة، صنعاء، 2004م، ص 16 – 17 – 28 / مهزلة العقل البشري، علي الوردي، ط2، دار كوفان، لندن 1994م، ص 16 / اليمن كما يراه الآخر، مراجعة وتحرير: لوسين تامينيان، (دراسة: الأئمة والقبائل كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى، بول دريش)، المعهد الإمريكي للدراسات اليمنية، 1997م، ص 220 – 221 – 224 – 233 – 235 – 242 / معارك ومؤامرات ضد اليمن، محسن أحمد العيني، ط2، دار الشروق، 1999م، ص 149 – 153 / حياة عالم وأمير، يحيى بن محمد الإرياني اليحصبي وإسماعيل بن محمد باسلامة الكندي، وصفحة مجهولة من تاريخ اليمن المعاصر، محمد بن علي بن الحسين الأكوع الحوالي، ط1، مكتبة الجيل الجديد، صنعاء، 1987م، ص 48 / خُرافة السلالة والولاية، أحمد الحميري، مركز نشوان الحميري للدراسات والإعلام، ط1، 2020م، ص 93 – 96 – 110 / المناخ التاريخي لظهور الإمامة الزّيدِيّة في اليمن، د. محمد علي الشهاري، مجلة (الكاتب) المصرية، مارس 1972م، ص 71 – 72 / قراءة في نظرية الإمامة، محمد يحيى عزان، مجلة (المسار)، العدد التاسع، أغسطس 2002م / زبارة ينسف خرافة الاصطفاء الإلهي ويعتبرها إفلاس، حاوره: عبد الله السالمي، صحيفة (الناس)، أعاد موقع (نشوان نيوز) نشره. 
  2.  المقدمة، عبدالرحمن بن خلدون، دار الفكر، بيروت، ص 205 / الإمامة وخطرها، الزبيري، ص 9 – 12 – 13 – 24 – 25 / الفكر والموقف، محمد أحمد نعمان، الأعمال الكاملة، جمعها وأعاد نشرها لطفي فؤاد أحمد نعمان، 2001م، ص 334 / المنطلقات النظرية في فكر الثورة اليمنية، محمد محمود الزبيري، ط1، دار العودة، بيروت، 1983م، ص 11 / حدث في مثل هذا اليوم في اليمن، منصور عَبْدالله الحرازي، مكتبة خالد بن الوليد، صنعاء، 2003م، ص 188 / رافضة اليمن على مر الزمن، محمد بن عَبْدالله الإمام، دار الحديث، معبر، ط1، 2006م، ص 486 / الزهر والحجر، عادل الأحمدي، ط2، مركز نشوان الحميري للدراسات والنشر، صنعاء، 2007م، ص 67.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أولا:

    المقولة المنسوبة لابن رشد، كل الناس يتناقلونها، ولكن لا أحد منهم يحيل إلى مصدرها.. ثم عباراتها عصرية ليست كلغة ابن رشد، فهي منسوبة إليه، وليس هو قائلها.

    ثانيا:

    من البعض الذين شككوا في أنساب الحمزات؟

    أما دعوى التشكيك في نسب القاسم بن محمد وبأن ملامحه تركية.. كلام لا سند له إلا كتاب ابن الأمير وعصره للأكوع ومن معه.. وهو ملئ بالكذب والتأويل الفاسد والتعصب المقيت.. أما من وقف ضد القاسم بن محمد فليس السبب هو التشكيك في النسب – وقد يكون التشكيك سلاحا من الأسلحة – بل السبب الصراع على السلطة، لإشكالية في شروط المدعي للإمامة في المذهب، وهو خلل دستوري أحدث شرحا في تاريخ الدولة الزيدية في اليمن وبلاد الديلم.

    ثالثا:

    جعل الباحث من عبدالملك شخصا فعل الأفاعيل، وهو دون ذلك بكثير.. وجعل وصول الجماعة إلى الحكم بقوتها وتحركها، وما بها من قوة إلا بمساعدة النظام السابق بكل أجهزته التي سلمها للجماعة.

    رابعا:

    الكاتب متشنج جدا، صار ينسب أقوالا بغير إحالة إلى المصادر وهذا لا يليق بباحث يريد كشف الحقيقة.. وغاب عنه الإنصاف أو قل: الموضوعية في مقاله، ومن ذلك قوله: “*وفي المُقابل أعيانا البحث عن حسنةٍ واحدةٍ وأثرٍ جميلٍ لحكمِ الأئمة السلاليين، فلا شيء غير الدم والبارود..*”.. هكذا أراد وهكذا قال، وهو كلام يخالف الحقيقة.. والباحث يعلم أن للأئمة الزيدية كغيرهم من الحكام مآثر في طول البلاد وعرضها، من مساجد، وهجر علمية.. فلينظر كتاب هجر العلم للأكوع ليطلع على مآثرهم.

    خامسا:

    رميُ الناس في أنسابهم منهج غير سوي، ويترفع عنه الباحث الموضوعي، والمعلوم أن الهاشميين في اليمن ليسوا كلهم زيدية، بل أكثرهم شافعية في حضرموت وتهامة واليمن الأسفل.. وحتى لو صح أن الهاشميين الزيدية كلهم أدعياء في انتسابهم ولو أثبتت الفحوصات الجينية أنهم ليسوا كذلك.. فكل ذلك لا ينفع شيئا في الصراع الفكري، وهو سلاح العاجز.

    سادسا:

    وضع الباحث كل الأئمة في سلة واحدة، وجعل ينهال عليهم بكل التهم المعلبة، وهو يعرف أن ثمة أئمة هم مثال في العدل والعلم والسياسة. وهم كغيرهم في إحداث الحروب مع المخالفين، والأمر الوحيد الذي انفردوا به عن غيرهم أنهم لم يتصورا أو لم يريدوا إقامة الدولة المستقرة، كبقية الدول الإسلامية، وكان نفوذهم داخليا وإذا امتد وطال بلغ إلى مكة في خجل لبرهة من الزمن، ثم ينكمش؛ لذلك كانت دولتهم في صراع دائم، إلا في آخر مدة حكم الإمام المؤيد محمد بن القاسم ومدة حكم الإمام المتوكل إسماعيل بن القاسم، فكان الاستقرار هو الأصل.

    أخيرا:

    لا أريد الإطالة في التعليق، وما أردت بما قلت دفاعا عن المذهب والجماعة المعاصرة الحاكمة، وإنما أشفقت على الباحث هذا الكم الكبير من الطاقة الملتهبة في طرحه، والحرارة التي أجدها في كلماته، فإنه بذلك يؤذي نفسه ويحرمنا من علمه ومعرفته في بحوث أهدأ في الطرح، وأعمق في النهج، وأشفى في النقاش.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى