آثار

الكتابة المؤدلجة للتاريخ الإسلامي

لا يخفى على أهل العلم والثقافة أهمية التاريخ، فهو سجلّ موكب البشرية الحافل، وهو الوعاء الذي استوعب التراث الإنساني زمانًا ومكانًا، وهو «فَنٌّ عَزِيزُ المذهبِ، جَمّ الفوائد، شريف الغاية، وهو بحاجة إلى مآخذ متعددة، ومعارف متنوعة، وحسنِ نظر وتثبُّت؛ تفضي بقارئه إلى الحق، ويتنكِّب عن المَزَلَّاتِ والمَغَالِط» [1].

ولَمَّا كان الإنسان ابنَ الماضي، وليس ابنًا لأبويه فحسب، وباعتباره كائنًا اجتماعيًّا؛ احتاج لدراسة وفهم مَاضِيْهِ، ليستطيعَ أن يفهم نفسه وحاضره، ويكتسب خبرة السنين الطويلة، ويصيرَ أقدر على حسن التصرف في الحاضر والمستقبل [2]. ولقد عرف العربُ فضل التاريخ «لكنّ أممًا أخرى عرفت فضل التاريخ أكثر مما عرفه العرب، فأخذوه مأخذ الجِّد، واحترموه ودرسوه ودققوا فيه وحققوا، وحاولوا أن يتعرفوا مساره وما وراء حوادثه، وأن يكتشفوا قوانين وقواعد تحكم مساره ومجراه، وبحثوا عن مادته ومغزاه ومعناه» [3].

ولَمَّا كان التاريخ بهذه المكانة والأهمية، حفلت المكتبة العربية في عصرنا بالكثير من كتب التاريخ الإسلامي المتخصصة الأكاديمية المُغْرقة في التخصص، والمسرفة في المنهجية، وجمهرة الناس – مع الأسف – لا تروق لهم هذه الكتب، لذلك كان إقبالهم على قراءتها ضعيفًا، حينئذ ذهبوا يلتمسون كتبَ التاريخ الموضوعة للثقافة العامة، سهلةَ العبارة، قريبةَ المتناوَل، لكنَّ المشكل الأكبر أن أكثر مؤلفي هذه الكتب هم في الغالب من غير المؤرخين، يخوضون في التاريخ الإسلامي على غير أساس علمي، بل ويجعلون من التاريخ كُتُبَ دعوة ووعظٍ، ويركبون لبلوغ مرادهم الصَّعْبَ والذَّلُوْلَ، ويعبثون به من حيث يعلمون أو لا يعلمون، ويشوهونه برسم صورة خيالية له، والناسُ فوق ذلك لا يفرقون بين المؤرخ والروائي والصحافي والكاتب والسياسي والداعية، حيث يكتب كل واحد منهم التاريخ الإسلامي كما يهوى، حسب اعتقاداته وقناعاته وتحيزياته وأهوائه، وهذا الخلط يشوِّه صورة التاريخ [4]. وقد يكون الخائض في كتابة التاريخ الإسلامي «رجلاً واسعَ العلم، بحرًا لا يُزاحَم، وهو على ذلك قصيرُ العقلِ مُضَلَّلُ الغاية، وإنما يعرض له ذلك من قِبَل جرأته على ما ليس له فيه خبرة» [5].

والتاريخ الإسلامي – في عصرنا – من أكثر التواريخ التي تعرضت للتشويه والمسخ من أبنائه قبل الغرباء عنه، حيث تعاملت معه كل طائفة من وجهة نظرها، وظنوا – وبئس ما ظنوا – أن التاريخ الإسلامي يختلف عن كل التواريخ، ولا يخضع للسنن التاريخية، ويمكن – من خلاله – خداع الناس وتصوير التاريخ بالصورة التي يرادُ لها بعيدًا عن الواقع التاريخي.

والتاريخ في زماننا كما قال الأستاذ محمود شاكر [6] ليس علمًا على الحقيقة، بل هو تفسير لحوادث خفية الأسباب، مطمورة الجذور، متعددة الدوافع، كثيرة المحامل والوجوه، شديدة الخضوع لعوامل لا يحصيها إلا الله وحده سبحانه. فما كان هذا شأنه وتعقيده، واختلاف أسبابه، وخفاء علله ودوافعه؛ فأنَّى يَعْرِفُ يكتب في التاريخ من لم يعرف هذه الأصول، ومن لم يسبر أغوار التاريخ، ولم يعرف مساراته وحركته وتطوره، ولم يدرس فلسفاته، ويطلع على العلوم المساعدة لكشف غوامضه، ولم يتسلح لكل ذلك إلا بالعاطفة الجياشة، ويحتج بأن ذلك هو المناسب للمرحلة وللجيل المغمور باليأس والانهزام، رفعًا للهمم واعتزازًا بالتاريخ الإسلامي؛ وأنَّى يمكنه ألا يتحيز أو يميل به هواه مهما كان مخلصًا؟!

وقبل الولوج في التفاصيل يجب أن نعي أننا «كلنا مؤدلجون؛ لكنَّ هناكَ فرقًا بين مُؤَدْلَجٍ يقدر على وضع حاجز بين مسلماته وبين الواقع التاريخي الذي يقصد الوصول إليه؛ حتى لا يتأثر وصفه له بمؤثرات خارجية، سواء استفاد منه أم لا؛ وبين مؤدلج لا يقدر على ذلك، بل لا يصف الواقع التاريخي إلا في حالة استفادته منه، هذا إن أحسن في وصفه، ولم تؤثر مسلماتُه في عملية التوصيف»[7]. والمؤدلج: هو كل شخص يتبنِّي أفكارًا ومعتقدات معينة، وكلنا ذلك الشخص. وكلمة «مؤدلج» على هذا ليست كلمة ذم على الإطلاق. لكنني هنا سأستعملها بمعناها السلبي، حيث تدل على الشخص الذي تؤثر مسلماتُه ومعتقداتُه وقناعاتُه على الكتابة التاريخية، فيظهر منه التحيز والتشويه والغش لأغراضه الخاصة. فالأيدلوجيا بهذا المعنى تنتج معرفة شوهاء، وتولّد حالة من الوعي الزائف عند القرّاء، وتمثل الواقع التاريخي تمثيلا مضللاً [8].

ومما يجدر ذكره أن الأدلجة والتحيز والهوى في كتابة التاريخ الإسلامي قديمةٌ في تاريخنا، كغيره من التواريخ، قال ابن خلدون في تاريخه بعد أن ذكر حادثة «الجَمَل» التي وقعت سنة 36هـ: «هذا أمر الجَمَل مُلخّصٌ من كتاب أبى جعفر الطبري اعتمدناه للوثوق به ولسلامته من الأهواء الموجودة في كتب ابن قتيبة وغيره من المؤرخين» [9]. ولقد حاول ابن خلدون في مقدمة تاريخه أن يضع قوانين وقواعد لكتابة التاريخ، عندما وجد الأهواء والخرافات بارزة في التاريخ.

وهنا سؤال: ما هو الحد الفاصل بين الكتابة التاريخية المؤدلجة وغير المؤدلجة؟

نصوص حكمة يمانية الكتابة المؤدلجة للتاريخ الإسلامي

الكتابة التاريخية المؤدلجة تستخدم التاريخ، وتلوي أعناق الروايات والأحداث لخدمة أفكارٍ ومعتقداتٍ، وفيها كثير من المغالطات، والجمع بدون تحقيق، والتحيز الواضح، وفي المقابل الكتابة غير المؤدلجة هي التي تلتزام بالمنهج العلمي، فتُعنَى بالعرض بدقة، وتَروِي الآراء المختلفة وترجِّح بمنهجية علمية، وتجتنب التحيز والميل بالهوى، ويكون الكاتب عارفًا بالكتابة التاريخية. 

***

ظهرت في بداية القرن العشرين دعواتٌ لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي، لتطهيره مما علق به مما يرون أنه مصنوع، أو لا يليق لمخالفته للتصور الإسلامي للتاريخ، أو يجب إخفاؤه – مع ثبوته – لخدمة لخدمة أفكار ومعتقدات خاصة. فأَخْرَجَ للساحة الفكرية بعضُ الكتاب من غير الإسلاميين مؤلفاتٍ تعيد قراءة التاريخ الإسلامي، ككتب عباس العقاد، وطه حسين، ومحمد حسين هيكل وغيرهم، وكانت بعضها جيد التناول، من خلال مناهج جديدة على الساحة الإسلامية وأعجب بها الكثير[10]، لكنها لم تسلم من التحيز والتشويه، فأثارت هذه المؤلفات انتقادات واسعة، وصدرت كتب تاريخية لبعض الإسلاميين، حملت راية الدفاع عن التاريخ تجاه الهجمات اليسارية والاستشراقية والحداثية، لكن الكثير من هذه الكتابات – مع إخلاص أصحابها لخدمة التاريخ الإسلامي وعدم تخصصهم في التاريخ ومعرفتهم بالكتابة التاريخية – تنكبتْ الطريقَ السليم لقراءة التاريخ وكتابته، ووقعت في هاوية التحيز والقراءة المؤدلجة والتشويه، ومالت بها أهواؤها يمنةً ويسرةً، فجعل بعضهم من كتبه التاريخ كتبَ رُدُوْدٍ، مع محتوى عَقَدِيّ وتَربوِي ودعوي، وهذا المحتوى في ذاته لا بأس به لكن كتب التاريخ ليست المكان المناسب له، وهذا الخلط جعل هذه الكتبَ إلى كتب الفرق والمذاهب وفقه الدعوة أقرب منها إلى علم التاريخ.

وقد يرى البعض أن من يخوضون في كتابة التاريخ وليسوا بمؤرخين يقدمون قاعدة معلومات تاريخية جيدة للقرّاء، نعم.. ولكن الخلل في أن هذه المعلومات تُعرَض في إطار أيدلوجي، وفي هذا العرض المؤدلج يكمن العبث بالتاريخ، فمثلا: قد يعرض أحدهم التاريخ الإسلامي – خاصة القرون الأولى – بصورة وردية متخيلة وبنبرة تمجيدية عالية – كتلك التي رسمها الإسلاميون الحركيون وبعض القوميين العرب والعثمانيون الجدد – فيتأول كل ما يخالف اتجاهه، ويخفي ما يشوه هذه الصورة الوردية، يريد بذلك أن يعتز أبناء الأمة بتاريخها؛ وهذا الأسلوب أضراره أكبر من منافعه، إذ قد يُحدِثُ هذا الأسلوبُ لبعض القراء صدمةً إن تكشفتْ له بعد ذلك حقائق مخالفة لتلك الصورة الوردية التي رُسِمَتْ، فيفقِد الثقةَ بالتاريخ برمته ويكفر بما كتبه هؤلاء، ويذهب يبحث عن كتَّاب على النقيض ليقرأ لهم، فلا يأمن بعد ذلك من بقاء الشكوك.

كما يرى بعض القراء أن ما يكتبه مثل هؤلاء لا يعتبر تمجيدًا عاليا للتاريخ، ولا تبييضًا لسواده، بل هو صياغة تاريخية تنطوي على قناعة صاحبها بعرض ما يراه مناسبًا للمرحلة وللجيل الذي تغلغل فيه اليأس والانهزام والزهد في التاريخ الإسلامي ورموزه، وعرضٌ تاريخي فيه اعتزاز مع عدم إهمال الانكسارات والإخفاقات وأخذ العبرة منها. وكل هذا أيضًا دفاع عن الهجمات التي يسيء بها غير الإسلاميين لرموز الأمة والحقب الزاهية لها. وإن عقدة النقص واليأس والهوان من جهة، والانبهار وانشداد العقول والقلوب نحو الآخر من جهة أخرى؛ دفع الكثير من الكتاب المسليمن لاتخاذ مثل هذه التحيزات المسبقة بدون تبصر ولا وعي[11]. لكن الخلل الذي تنتجه هذه الكتابات عظيم – مع أن القارئ العادي يستفيد منها -أنها متحيزة وهذا قد يتسبب في مشكلة للقارئ الذي سيتقدم في القراءة لأنها تُنتِجُ عنده شكوكًا غير منهجية بعد ذلك.

وللعبث بالتاريخ صور عديدة، منها: إخفاء الحقائق المخالفة لأَيْديُولُوجيّة المؤلف، أو تحريف النصوص أو تأويلها، أو تشويه أو تَسْقِيْمُ الرأي المخالف، أو سدُّ الفجوات التاريخية بدون دليل، أو تضعيف الروايات المخالفة ولو كانت مشتهرة، أو تقوية الروايات السقيمة في حالة الاستفادة منها، أو رسم صورة متخيلة للتاريخ الإسلامي مخالفة للواقع التاريخي.

إن أعظم مشكلة من مشاكل هذه الكتابات المفتقدة للمنهج العلمي في الكتابة التاريخية، أنها شكّلت جيلًا مشوهًا لا يعرف من تاريخه إلا صفحة واحدة أو نظرة واحدة، فينبغي أن ندرك أن تاريخنا لم يكن تاريخًا ورديًّا، وعلينا أن ندرس هذا بلا خجل منه أو مواربة، ولابد أن نعترف بكل شيءٍ خطأ وقع في تاريخنا، وألاَّ نحاول تسويغه ولي أعناق الروايات والأحداث لتجميل الصورة، وهذا السبيل يجعلنا قادرين على الاستفادة من تاريخنا استفادة كبيرةً، نستفيد من الصواب ونستفيد من الخطأ [12].

56256 الكتابة المؤدلجة للتاريخ الإسلامي

***

يقول دارسو التاريخ: إن معرفة الحقيقة التاريخية مستحيلة، والنقد والتحقيق والتدقيق يساعد على الاقتراب منها، واحتمال صدقها، والتاريخ مهما بلغ في دراسةٍ من الدقة يظل بعيدًا عن الحقيقة بدرجات متفاوتة، بسبب وسائله غير المباشرة في الحصول على معلوماته [13]. فإذا كان هذا هو حال الدراسة المتقنة من مؤرخ متخصص، فكيف تكون دراسةُ العابث بالتاريخ والمتحيز في دراسته؟!

والحقيقة أنه ليس من السهل على كل فرد أن يكتب التاريخ أو يدرسه، وكم تحوي رفوف المكتبات من مؤلفات كثيرة يظن كاتبوها أنها كتبٌ في التاريخ، وهي بعيدة في الواقع أن تكون تاريخًا بالمعنى العلمي، أما كتب التاريخ التي توضع للجمهور ويقصد بها الثقافة العامة، فمن الأفضل والأسلم أن يضعها المؤرخون أنفسهم الذين يكتبون للمختصين؛ لأنهم أقدر على فهم دقائق التاريخ وتفاصيله، وهم في الغالب أقدر على عرضه بصورة عامة واضحة مختصرة [14].

والتاريخ لا يُخدعُ مهما حاول البعض خداعه حينًا من الزمن؛ لأن التاريخ هو الحياة بذاتها، وهو الإنسان في ذاته، بشرّه وخيره، بِصَفْوِه وكَدَرِه، في سِلْمِه وحَربِه، وفَقْرِه وغِنَاه، وبراءته وخبثه، وتواضعه وغطرسته، وعلمه وجهله [15]. ولا يوجد باحث في التاريخ يمكنه أن يثق بأقوال غيره من المؤرخين؛ لأن الباحث لا يمكنه معرفة كل التفاصيل، خاصة في الموضوعات الطويلة، والثقة المطلقة بالغير في هذا الصدد تؤدي إلى الخطأ. وعليه فينبغي أن تُقْرَأَ مؤلفات المؤرخين بقدر متفاوت من الحذر، بحسب مستوى كل مؤرخ منهم [16]. فإذا كان هذا الحذر واجبًا على المؤرخ المختص عند قراءته لغيره من المؤرخين، فكيف يكون حال القارئ غير المختص عند قراءته لغير لكاتب غير مختص في التاريخ؟!

لذلك ينبغي لقارئ التاريخ ألا يقرأ لمؤرخ غير متخصص في البداية، أو يسلّمَ له ويصدق ما يرويه مهما كانت مكانته، وعليه أن يقرأ بحذر شديد، ويستحضر عند قراءته تحيز الكاتب، والشك في دقة معلوماته، ووجود مغالطات، وعدم التحقيق. ومعنى كلامي أن من يريد قراءة التاريخ ألّا يكتفي بالصورة الأولى أو يقتنع بالرأي الواحد، وأن يقرأ الآراء الأخرى حتى يصحح أخطاءَ القراءة الأولى التي تكونت في ذهنه، وأن يخرج من القراءة المغلقة لتيار معين فيما يخص التاريخ؛ لأن التاريخ أوسع من حصر قراءته ودرسه في مدرسة واحدة.

إن تكوين هذه المنهجية يحتاج إلى وقت كافٍ وجهد حثيث، لأن أكثر ما يقع فيه الشباب الجدد على القراءة، يرجع إلى القراءة المُسْتَسْلِمَة للكتَّاب غير المختصين، مع عجز واضح عن النقد والفحص في المقروء ومناقشته، لقلة الرصيد العلمي الذي يساعد على التحرر.

وأريد أيضًا للقارئ في التاريخ والذي يريد أن ينتفع حقًّا بما يقرأ، أن يقرأ في علوم التاريخ والمداخل العلمية للتاريخ، والدراسات المنهجية لأصوله واصطلاحاته، وفلسفة التاريخ، ويقرأ الكتب التاريخية الأكاديمية المتخصصة مع أن أغلبها لمؤرخين لهم نزعة قومية لكنها كتابات جيدة حقًّا، وهي خير من كتب غير المختصين من الإسلاميين وغير الإسلاميين، ثم يقرأ في غير التاريخ الإسلامي، ليعرف كيف يتعامل الآخرون مع التاريخ، ليكوّن لنفسه منهجًا متحررًا من إسار المؤرخين على مختلف اتجاهاتهم وميولهم [17].

·  شخصية عبد الله بن سبأ مثالاً:

إذا كان الناس في الماضي يحملون آراء متضاربة عن حادثة أو شخصية، ويكتب كُّل فريق فيها رأيه، فكيف بنا ونحن بعيدون عن الحادثة والشخصية بمئات السنين، وليس بأيدينا من أحوال من سبق إلا الأخبار المذكورة في كتب التاريخ، ندرسها ونحلل الآراء المتفقة والمتضاربة لنصل إلى أقرب صورة للواقع التاريخي، إنه لحمل ثقيل جدًّا تنوء بحمله الأكتاف. لذا سأضرب هنا مثالاً للكتابة التاريخية المؤدلجة، ليتضح ما ذكرته، ولتتم الفائدة.

عبدالله بن سبأ اليهودي من الشخصيات التي كثر الحديث عنها بين الشيعة والسنة والكتَّاب العرب والمستشرقين، واختلفت الآراء فيها، وعمومًا فإن الأغلب يثبتون وجود هذه الشخصية تاريخيًّا ويختلفون في التفاصيل.

ولقد ظهر في عصرنا – مِن المستشرقين والباحثين العرب – مَنْ يقول بأنها شخصية وهمية خرافية، أو يشك في أمر ابن سبأ، أو التذبذب بين الإنكار والإثبات، ويقول بعضهم: إن ما وقع بين أطراف الفتنة لا يحتاجون لشخصية مثل عبدالله بن سبأ ليؤجج الفتنة، ولا حاجة لمخرب يمشي بين الصحابة، فقد كانت نوازع الطمع وحب السلطة مستحوذة عليهم، فراحوا يتقاتلون عن قصد وتصميم، وأن الفتن إنما هي من عمل الصحابة أنفسهم وأن نسبتها إلى اليهود نوع من الدفاع عن الصحابة لجأ إليه المؤرخون والإخباريون ليعلِّقوا أخطاء هؤلاء الصحابة على أطراف أخرى؛ وهم ينطلقون من خلفية علمانية لا تقيم للدين تأثيرًا في نفوس أوائل رجال الإسلام. وهناك من يقول منهم إنه هو أبو ذر الغفاري، لتشابه في أوصافه المروية بينه وبين من يعرف بابن سبأ، وإن أهل السنة وضعوها للتشنيع على الشيعة وتحميلهم الدور الأكبر في تقسيم الأمة، وهنا ينطلق صاحب القول من خلفية مذهبية شيعية .

أما الإسلاميون الذين تناولوا عبدالله بن سبأ فقد ضخموا تأثيره، وحمَّلوه كل خلل وقع في زمن الفتنة، حتى لقد تعاملوا بتعميم غير مقبول عند أهل السنة، حيث وضعوا الصحابة المعاصرين للفتنة على اختلاف طبقاتهم في سلة واحدة، خاصة مُسْلِمَة الفتح، وذهبوا ينكرون الروايات التي تروي تنافس بعضهم على الدنيا، وخداعه ومكيدته، بل وغفلة بعضهم وقلة خبرته في السياسة وسلامة طويته ووقوعه في فخاخ الخديعة، ويتأولون كل ذلك بالمصالح السياسية، وبالاجتهاد، ويتعاملون مع الصحابة كأنهم معصومون ولا ينفكون يذكروننا بأنهم غير معصومين تنظيرًا، وإذا تكلموا على الأحداث خالفوا ما نظَّروه. ولا يخلو كتاب من كتبهم من ذكر فضائل الصحابة قبل الخوض في الفتنة وأحداثها، تمهيدًا نفسيًّا للقارئ ليقبلَ ما سيقولون في تأويلاتهم.

فالقارئ بين منكر لشخصية عبدالله بن سبأ، وبين مضخِّم لأثره قاصرٍ إحداثَ الفتن عليه وحده، مخرجًا فئات كثيرة من المشاركين في الفتنة من التأثير والتأثّر.

لكن الذي يمكن أن يقال في الشخصية باعتدال: إن عبدالله بن سبأ وجوده ثابتٌ تاريخيًّا، وكان له أثر لا تُنكر نجاعته، لما له من كاريزما مؤثرة، ولسان منطلق، حتى لقد تكوَّن وصفُ (السبئية) و(السبئي) لكل من تابعه أو اقتنع بآراءه أو احتج لها وبها، ثم بعد ذلك يناقش المؤرخ تفاصيل الأحداث ودور المشاركين فيها سلبًا وإيجابًا، وينظر إلى الجميع بعين الفاحص الباحث عن الحقيقة، غير متأثر بأحكام مسبقة توجِّه النتائج التي سيصل إليها.

1782423400اثر الكتابة المؤدلجة للتاريخ الإسلامي

·   وأخيرًا.. النهضة وعلاقتها بدراسة التاريخ:

«إن مراجعة التاريخ باستمرار، مع الاعتزاز به، وليس تصنيمه، ولا هدمه، شرط ضروري لأي إصلاح أو تجديد» [18]. و«الدرس التاريخي عمومًا يسهم في الإجابة عن السؤال الذي يشغل الجميع على اختلاف المذاهب والتحيزات الفكرية، وهو: ما الذي أوصل الأمة إلى هذه الحالة المتردية؟ لا شك أننا لن نستطيع أن نجيب على هذا السؤال الحائر إلا بإدراك مستوعب للماضي، وإعادة قراءته قراءةً نقديةً، ولا تنظر إلى أحداثه وتجاربه بوصفها شيئًا مقدسًا محصنًا من النقد والمراجعة والتقويم، بل بوصفها ممارسة تاريخية، أو منتجًا بشريًّا يجوز عليه ما يجوز على البشر من النقص والضعف والقصور. ومعلوم أن كل نهضة لا تقوم على أساس متين من الفقه بحركة التاريخ، والقراءة الواعية لأحداثه ومراحل تطوره، مآلها إلى الفشل لا محالة. ولئن كان إحياء الهوية الحضارية الإسلامية – لا بمعنى استساخها والجمود عليها – أحدَ مقاصد النهضة التي ننشدها، فإن دراسة التاريخ في إطاره الكلي الشامل يتعين أن يكون في قلب مشاغلنا وعلى رأس اهتماماتنا الفكرية، وهو ما يعني أن الأمر ليس ترفًا فكريًّا يمكن إرجاؤه أو الاستعناء عنه وتقديم غيره عليه، ولكنه فريضة معرفية على أهل العلم ممن يقدّر تراثه ويحترم أمته ويبتغي رفعتها.

«ومن المؤسف حقًّا أن نجد بين المعنيين بالثقافة الإسلامية من غير المتخصصين بالتاريخ، مَنْ يظن أن التاريخ الإسلامي كان يجري على وتيرة ثابتة حتى جاءت الدولة القُطْريةُ الحديثة فقلبت الأمور رأسًا على عقب، وكأننا تجاه مرحلتين لا ثالث لهما: مرحلة ما قبل الحداثة، ومرحلة الحداثة وما بعدها؛ فالأولى هيمن عليها نظام الخلافة إلى أن جاء كمال أتاتورك فقضى عليها سنة 1924م، والثانية شهدت تشظي العالم الإسلامي إلى دول لا جامع بينها. وهذا فهم سقيم لتاريخنا يعكس غفلةً عن حقيقته أو جهلاً بمسارات تطوره» [19].

أرجو أن يسهم هذا المقال في التنبيه على هذا الخلل في الكتابات التاريخية المؤدلجة، بشيء من التفصيل، حتى نَعْبُـرَ من ضيق الأدلجة إلى سعة الدراسة النافعة الجادّة، ونستفيد من تطور علم التاريخ ومناهجه، وأن نخرج من قوقعة دراسة التاريخ وَفق رؤىً قاصرة مسبقة موجَّهة، وننظر إلى الصورة الكاملة التي تشكل تاريخنا كما هو.

هوامش:

1. انظر: مقدمة ابن خلدون، تحقيق إبراهيم شبوح وإحسان عباس، ج1/ص11، بتصرف.

2. انظر: حسن عثمان، «منهج البحث التاريخي»، دار المعارف، القاهرة، ط8، ص15.

3. حسين مؤنس، «التاريخ والمؤرخون»، دار المعارف، القاهرة، 1984م، ص4.

4. انظر: غي تويليه وجان تولار، «صِناعَة المؤرخ»، دار الحصاد، ترجمة عادل العوا، ص10، بتصرف.

5. جمهرة مقالات محمود شاكر، (1/258).

6. انظر المرجع السابق، (2/984-985).

7. الباحث عبد الله الغِزِّي، في قناته على التلجرام (26/10/2020م).

8. «الأَيْدُيُولُوجْيَا» (ideology): فِكْر، تَصَوُّر، مُعتَقَد، مَذهب. «أَيْدُيُولُوجيّة» مصطلح معرّب، شائع في لغة الفكر العربي المعاصر، متعدد الدلالة انطلاقًا من توجهات الباحثين وأغراضهم، على أن من أبرز معانيه وأكثرها تداولاً: 1) علم الأفكار من حيث تكونها، وخصائصها، وقوانينها، وعلاقتها بالواقع الاجتماعي والتاريخ السائد. 2) منظومة الأفكار السياسية والقانونية والأخلاقية والدينية والجمالية والفلسفية السائدة في الوعي والسلوك، والمتناقضة مع البنية الاجتماعية والتاريخية المشكِّلة للمرتكز الواقعي والعلمي للفكر في مرحلة زمنية محددة، بحيث تمسي الأَيْدُيُولُوجْيَا بهذا المعنى نسقًا من الأفكار أو نمطًا عقليًّا زائفًا يناقض الواقع الموضوعي السائد. وتستعمل كلمة (أَيْدُيُولُوجيّة) غالبًا صفةً للأفكارالمتضمنة معنى التصلّب واللاعلمية، كما تستعمل عند العقائديين بمعنى المنظومة الشاملة لفكرهم. إميل بديع يعقوب وميشال عاصي، «المعجم المفصل في اللغة والأدب»، دار العلم للملايين، بيروت، 1987م، (1/274-275).

9. تاريخ ابن خلدون (2/505)، اعتنى به تركي فرحان مصطفى، إحياء التراث العربي، ط1، 2006م.

10. انظرما كتبه محمود شاكر في جمهرة مقالاته عن «عبقرية عمر» للعقاد، (2/436-737).

11. قال هذا الأستاذ إبراهيم الجبلي في إحدى مجموعات الواتساب العلمية. (22/11/2019م).

12. إسلام مصطفى، متخصص في التاريخ، من صفحته على الفيسبوك. ومما يجدر ذكره هنا للفائدة، أن إسلام مصطفى كان قد سُئِلَ على «الآسك» أنه انتقد – قديمًا – كتب المؤرخ سهيل طقوش، بأن منهجه في الكتابة التاريخية غير علمي وغير رصين، فضلاً عن الأخطاء التاريخية الكبيرة التي تزخر بها كتبه، وبأن هذا رأيه ورأي الأساتذة المتخصصين الذين قرأوا لكتاباته. ثم إن الأستاذ إسلام زكَّى مؤلفات سهيل طقوش بعد ذلك. فكيف ذلك؟ فرد إسلام مصطفى بأن تزكيتي ناسخة للنقد السابق الذي قاله عندما كان مؤدلجًا شديد الأدلجة.

ومن نصائح إسلام مصطفى لمريدي قراءة التاريخ، قوله: «أنصح من يريد البدء في قراءة التاريخ الإسلامي بقراءة مجموعة الدكتور محمد سهيل طقوش في التاريخ الإسلامي، دار النفائس، فهذه المجموعة تعطيه تصورًا شبه متكامل عن فترات التاريخ الإسلامي، يستطيع أن يبني عليه. كما أنصحه بالابتعاد تماما – في البداية- عن كتب: جرجي زيدان، وأحمد أمين، وعباس العقاد، وطه حسين ومن على شاكلتهم. وأن يبتعد أيضا عن كتب: راغب السرجاني، وعلي الصلابي ومن على شاكلتهم» [صفحته على الفيسبوك]. وقال في الآسك مرة: سهيل طقوش باحث أكاديمي. أما هؤلاء [السرجاني والصلابي ومحمود شاكر الحرستاني] فدعاة لا معرفة لهم بالكتابة التاريخية.

13. انظر: حسن عثمان، مرجع سابق، ص146، 150.

14. المرجع نفسه، ص 196-197.

15. المرجع نفسه، ص202-203.

16. المرجع نفسه، ص163.

17. ومن أجود المقترحات التي وقفت عليها لمن يريد قراءة التاريخ ما في كتاب «السبل المرضية لطب العلوم الشرعية» للأستاذ البحَّاثة أحمد سالم، في الإصدار الثالث، الطبعة الأولى (1438هـ/2017م) الذي طبعه «مركز تفكّر للبحوث والدراسات»، خاصة «قائمة القراءة» التي وضعها الأستاذان أيمن عبد الرحيم، وإسلام مصطفى، من (ص547) إلى (ص560). وكذلك «مراحل التاريخ الإسلامي، الملامح العامة والدول الحاكمة»، لأحمد محمود، وهو القسم الثاني من كتاب «مدخل إلى التراث العربي الإسلامي»، مركز تراث للبحوث والدراسات، ط1، 1436هـ/2014م.

18. عمرو بسيوني من صفحته على الفيسبوك.

19. خالد فهمي وأحمد محمود، «مدخل إلى التراث العربي الإسلامي»، مركز تراث للبحوث والدراسات، ط1، 1436هـ/2014م، القسم الثاني «مراحل التاريخ الإسلامي»، ص74-76، باختصار وتصرف.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى