(المتاهة.. الحلقات المفقودة للإمامة الزيدية في اليمن)، كتاب هام صدر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، أسفرت فصوله الأربعة عن ميلاد بانوراما من الأحداث والوقائع، أرخت بمجملها لـ 1150 عامًا من عُمر دولة الإمامة الزيدية، وتاريخها الإجرامي، نقلاً عن مُؤرخيها، قدمها مؤلفه الباحث الجاد بلال محمود الطيب بأسلوب شيق، ولغة أنيقة مُختزلة، وانتهج في طريقة عرضها الأسلوب الصحفي الاستقصائي؛ بحيث ترك للقراء مهمة الاستنباط، والمُقارنة، والتشكيك، والتحليل.
التاريخ الآثم
مدخل إلى المتاهة، مُقدمة الكتاب، والتي أخذت حيزًا كبيرًا منه، كانت مُحاولة جريئة لإعادة قراءة عناوين تاريخ اليمن من مَنظور مُختلف، وبمعنى أصح دراسة طبائع ونفسيات صانعي ذلك التاريخ المُتشعب، بعيدًا عن لغة تعظيم الذات، التي جعلت – كما أفاد المُؤلف – كثيرين منا يلعنون حاضرهم، ويُقدسون ماضيهم، على حساب عبورهم إلى المُستقبل، غير مُدركين أنّ حاضرنا امتداد لماضينا، وأنَّ تاريخنا – بسلبياته قبل إيجابياته – صنعه أجدادنا، وأنَّ التغيير إلى الأفضل، والانعتاق من براثن الظلم والطغيان لا يقوم به إلا من يملكون ذواكر حية، ويتعلمون من أخطاء من سبقوهم، ويدرسون تلك الأخطاء جيدًا، ويعملون على عدم تكرارها.
طعّم المُؤلف مُقدمته بفقرات جادة، فيها شيء من القسوة، أراد من خلالها تعرية مكامن الخلل، وفضح تلك السلوكيات المُتجذرة التي تعيد نفسها، من ظلم النفس، والجحود، والعصبية، والاختلاف الذي أدى ويُؤدي في النهاية إلى الاستعانة بالأجنبي، وأوجد ما يُسمى بـ “العُقدة اليزنية”، وهو – أي المُؤلف – لا يريد بذلك الانتقاص من ماضي اليمن الحضاري، وجلد الذات، بقدر ما أراد تحفيز بني وطنه على البقاء، على الاستمرار، على خلق واقع جديد، على النهوض كطائر العنقاء من بين الرُكام.
تاريخ اليمن المُعاصر كان له في تلك المقدمة نصيب، خاصة تلك الجزئية المُتعلقة بعلاقة الحوثيين بإيران، وأفاد المُؤلف أنَّه بعد نَجاح الثورة الإيرانية فبراير 1979م، انتعشت آمال الإماميين في إعادة دولتهم، ليتوجه في العام التالي وفد رفيع من قبلهم إلى طهران، في زيارة ظاهرها التهنئة، وباطنها طُموحات إمامية تبدت تباعًا، كان بدر الدين الحوثي أحد أبرز أعضاء ذلك الوفد، وقد كُللت تلك الزيارة بولادة تَحالف زيدي – اثنا عشري جديد، وبصيغة مُختلفة، عنوانه: (توارى البدر، وعاد بدر)!
عملت ثورة الخميني – كما أفاد المُؤلف – على إعادة إحياء نزعة التشيع بنهجه القومي لا الديني؛ بدليل تبنيها لخيار تصدير الثورة، والسيطرة على المناطق المُجاورة، تمامًا مثلما كما كانت تفعل الدولة الساسانية من قبل، وبدعم منها كبير عاودت الإمامة الزّيدِيّة في اليمن تمددها العسكري الكارثي بقيادة حسين بدر الدين الحوثي 2004م، ومن بعده أخيه عبدالملك.
في المُقدمة أيضاً عاد المُؤلف إلى جذور المُشكلة الإمامية، والمُتمثلة بانحراف الطامح يحيى بن الحسين عن المذهب الزيدي، وتأصيله لنظرية الاصطفاء الإلهي، بحيث جعل الإمامة موازية للتوحيد، وواحدة من أصول العقيدة الخمسة، وحصرها بشقيها السياسي والديني في البطنيين، وجعل لها 14 شرطًا مُلزمًا.
وتبعًا لذلك أقام الطامح يحيى بن الحسين دولته الدينية الكهنوتية، واستجلب ومن تبعه من أئمة جميع مساوئ التاريخ، وغلَّفـوها بمساحات شاسعة من القهر والذل والحرمان، وخلص المُؤلف إلى القول: «وما الكارثة الحوثية إلا امتداد لذلك التاريخ الآثم، أطلت بارزة القسمات، واضحة المعالم، برهنت لنا وبشدة، أنَّ الخلاف لا حـدود له، وأنَّ القطيعـة لا نهايـة لها، وأنَّ التوجس من المُستقبل له ألف سبب يُبرره».
من النظرية إلى التطبيق
نتيجة لطبيعتها الجبلية، وبعدها عن مركز الخلافة العباسية، وبدء ضعف الأخيرة؛ صارت اليمن – كما أفاد المُؤلف – محطة جذب لعددٍ من الفرق الإسلامية المُتصارعة، والطامحة في الحكم، وقد وجد دعاة الشيعة – بشقيهم الإسماعيلي والزيدي – في مناطق اليمن الشمالية ذات التضاريس الصعبة مرتعًا خصبًا لنشر أفكارهم، وإقامة دولتهم، وبمعنى أصح دولهم، ونجحوا إلى حدٍ كبير في ذلك.
في الفصل الأول تحدث المُؤلف عن الدولة الزيدية الأولى (من النظرية إلى التطبيق)، وذلك من عهد المؤسس يحيي بن الحسين، إلى عهد أحمد بن سليمان، وأشار إلى أنَّ توجه الأول إلى اليمن كان بطلب من قبل بعض أعيان قبائل صعدة 284هـ، بايعوه فور وصوله إمامًا، وتلقب بـ (الهادي)، وفصل دولته الدينية ومذهبه الإقصائي ليتناسب وطبائعهم، وكان دائمًا ما يشبه نفسه في حضرتهم بالرسول (ص)، وخاطبهم قائلًا: «والله لئن أطعتموني ما فقدتم من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا شخصه»!
تحدث المُؤلف بعد ذلك عن توسعات هذا الإمام شمالًا حتى نجران، وجنوبًا حتى صنعاء وما بعد صنعاء، وكيف استفاد من خلافات اليمنيين، وكيف كان لنجاح دعاة الدعوة الإسماعيلية أثره البارز في تحفيزه، وكيف راسل بني عمومته في طبرستان طالبًا المدد، فأمدوه بمئات الطبريين، اختصهم بحراسته، وقيادة جيشه، وأسماهم بـ (المهاجرين)، فيما أسمى القبائل التي ساندته بـ (الأنصار).
وحينما وجد يحيى بن الحسين – كما أفاد المُؤلف – تخاذلًا ورفضًا من قبل بعض القبائل اليمنية لدولته الدينية، ومذهبه الإقصائي، كفرهم بالجُملة، وأعلن الجهاد عليهم، وأجاز لأبناء القبائل المُناصرين له قتل ونهب وسلب أموال المعارضين لدولته، المُخالفين لمذهبه، بحجة أنهم كُفار!
لم يهنأ الهادي يحيى – كما أفاد المُؤلف – أثناء فترة حكمه بالاستقرار لحظة، ما أنْ يُخمد تمرد إلا ويشتعل عليه آخر، وكان الأقسى عليه تحول أصدقائه بالأمس إلى أعداء، ليدخل في سلسلة طويلة من الحروب مع هذا التيار، وكانت أشهر الثورات التي قامت ضده، ثورة سكان صنعاء، اللذين خرجوا إلى شوارع مدينتهم وهم يُرددون: «لا نريد العلوي، ولا يدخل بلدنا».
أيام الهادي يحيى الأخيرة كانت الأشد قسوة عليه وعلى أنصاره، وقد كانت آخر حروبه بوادي نجران، انحسرت بفعلها دولته إلى مدينة صعدة وضواحيها، ليتوفى مُتحسرًا مُتأثرًا بجراحه 298هـ، وقيل أنَّه مات مسمومًا، ودُفن في مسجده الشهير وهو بعد غير مكتمل البُنيان.
وهكذا مات يحيى بن الحسين تاركًا وراءه دُويلةً آيلةً للسقوط، رفض ولده الأكبر محمد تولي الإمامة، وما قبلها إلا على مضضٍ، ليعتزل بعد أنْ ساءته أمور من عشيرته، قام أنصار الزّيدِيّة أمام ذلك الفراغ بمُراسلة شقيقه أحمد الذي كان حينها مُقيمًا في جبل الرس، قبل الأخير بعد أخذ ورد ومراسلات عديدة دعوتهم، وعاد إلى صعدة، وتولى الإمامة فيها 301هـ، وتلقب بـ (الناصر)، وحارب القبائل التي عارضته، وكانت آخر حروبه مع حسان آل يعفر 322هـ.
تحدث المُؤلف في ذات الفصل عن ملامح انهيار دولة الإمامة الزّيدِيّة الأول، والذي كان على يد أحفاد الهادي يحيى، حيث تنافس الأخوة الأعداء، وافترقوا إلى أبناء حرائر وجواري، تصارعوا، ثم تقاتلوا، فكان الحال أقرب لحرب العصابات، كانت نِهايتهم حينها وشيكة، وما كان لإمامتهم أن تُعاود الظهور من جديد لولا مُناصرة أحد مشايخ همدان لها، وتعصبه لمذهبها، ودعمه لدعاتها الذين تصدَّروا حينها المشهد.
وهكذا لم يَكن مَقدم يحيى بن الحسين إلى اليمن إلا بداية لتوالي قدوم الطامحين من أبناء عمومته، لمنافسة أحفاده المُتصارعين؛ في البدء قدِم القاسم العياني بطلب من أعيان صعدة 389هـ، ثم القاسم الزيدي، ثم أبو هاشم الحسني، ثم أبو الفتح الديلمي 437هـ، وقد تحدث المُؤلف بإسهاب عن تفاصيل مقدم هؤلاء، وحروبهم الطويلة مع اليمنيين.
عاشت الإمامة الزّيدِيّة بعد ذلك – كما أفاد المُؤلف – فترات انقطاع مَحدودة، وكانت بعد كل انكماشة تعود لتتمدد بقوة، كان انقطاعها الأطول في عهد الدولة الصليحية التي تأسست عام 439هـ، وحين انتهت تلك الدولة بوفاة الملكة سيدة بنت أحمد 532هـ، أعلن أحمد بن سليمان دعوته، وتلقب بـ (المُتوكل).
تحدث المُؤلف بإسهاب عن سيرة ومسيرة هذا الإمام، وكيف عارضه بنو عمومته، وكيف أباح للقبائل المُساندة له نهب مُخالفيه، وكيف حرَّم زواج العلوية من غير العلوي، وأفتى بقتل القحطاني الذي يُخالف ذلك، وكيف كفر مُعارضيه، وأباح قتل من يُجيز الإمامة في غير البطنين، وكيف دخلت الإمامة بعد وفاته مرحلة الانكماشة الصغرى.
من الاستبداد إلى الطغيان
في الفصل الثاني تحدث المُؤلف عن الدولة الزيدية الثانية (من الاستبداد إلى الطغيان)، وذلك من عهد عبدالله بن حمزة، إلى عهد عبدالله بن الحسن المؤيدي، وقد ابتدأ هذا الفصل بالحديث عن مقدم الأيوبيين إلى اليمن 569هـ، وكيف قضوا على الدويلات المُتصارعة، وكيف أعلن بعد وفاة ملكهم طُغكتين بن ايوب الطاغية عبدالله بن حمزة من صعدة نفسه إمامًا 593هـ، مُتلقبًا بـ (المنصور).
ساهمت الخلافات الأيوبية – الأيوبية في تمدد ابن حمزة حتى صنعاء وذمار، إلا أنَّ سيطرته عليهما لم تدم طويلًا، وقد كانت سيرة هذا الإمام – كما أفاد المُؤلف – الأكثر ظُلمًا وعدوانًا في تاريخ الإمامة المُظلم، نكل بجماعة المُطرَّفية شرَّ تنكيل، وقتل أكثر من 100,000 من رجالهم، وسبى نساءهم، واستعبد أطفالهم، وهدم دورهم، ومساجدهم، وأخرب مزارعهم، وصادر أملاكهم.
تنفس الأيوبيون بعد وفاة الطاغية عبدالله بن حمزة الصعداء 614هـ، انقضوا بسرعة خاطفة على المناطق الشمالية، وقد ساهمت الخلافات الزّيدِيّة – الزّيدِيّة في تمددهم هذه المرة، لتعاود الإمامة الزّيدِيّة الظهور بعد إعلان أحمد بن الحسين من ثلا نفسه إمامًا 646هـ، أجمع غالبية علماء الزّيدِيّة وأنصارها على الأخير، وقيل أنَّ اختياره كان كحل وسط لإنهاء الصراع الدائر بين الحمزات وآل الهادي؛ ولأنَّه ليس من الفريقين، فنسبه يتصل بالقاسم بن إبراهيم طباطبا، إلا أنَّ حكمه – بسبب ذلك الصراع، وبسبب بزوغ الدولة الرسولية – لم يستمر طويلًا.
بوفاة السلطان الرسولي الرابع المُؤيد داؤود 721هـ، دخلت الدولة الرسولية – كما أفاد المُؤلف – مرحلة التيه والضعف الشديد، تقوت في المُقابل دولة الإمامة الزّيدِيّة، وتحولت من الدفاع إلى الهجوم، واستولى إمامها المهدي محمد بن المُطهَّر على صنعاء 723هـ، وأنهى في العام التالي سيطرة الرسوليين على مُعظم المناطق الشمالية.
بانتهاء الدولة الرسولية مطلع عام 858هـ، ابتدأ عهد أصهارهم بني طاهر، كانت الإمامة الزّيدِيّة حينها في غاية الضعف، وكان الصراع بين الإمام الهادوي الناصر بن محمد، والإمام الحمزي المُطهَّر بن محمد على أوجه، ولولا ذلك التنافس لتمكّن هؤلاء – كما أفاد المُؤلف – من وراثة ملك بني رسول بكل سهولة ويسر.
تحدث المُؤلف بعد ذلك عن السلطان الطاهري عامر بن عبدالوهاب، وكيف قضى على دولة الإمامة الزّيدِيّة في صنعاء، وكيف تصدر يحيى شرف الدين حينها المشهد، وأعلن من ظفير حجة نفسه إمامًا 912هـ، مُتلقبًا بـ (المُتوكل)، وكيف تقوى هذا الإمام بعد قتل المماليك للسلطان عامر على تخوم صنعاء 923هـ، وكيف نجح بعد أكثر من 15 عامًا من الحروب والصراعات بينه وبين بني عمومته في السيطرة على صعدة، فيما نجح ولده المُطهَّر في السيطرة على إب وتعز.
جاء الأتراك بحملاتهم العسكرية، سيطروا على السواحل اليمنية، وعلى تعز وإب وصنعاء، كان المُطهَّر حينها قد انقلب على أبيه 953هـ، حصروه في ثلا، ليصالحهم لعدة سنوات، استغل بعد ذلك خلافاتهم، وأعاد السيطرة على تلك المناطق، جاءوا بحملة كبرى، وحصروه مرة أخرى في ثلا، لتنتهي بوفاته إمامة أسرة شرف الدين980هـ، ولم يستطيعوا – كما أفاد المُؤلف – النهوض من جديد رغم عدة محاولات يائسة.
إمامة أم مُلك؟
في الفصل الثالث تحدث المُؤلف عن الدولة الزيدية الثالثة (إمامة أم مُلك؟)، وذلك من عهد القاسم بن محمد، إلى عهد عبدالله بن أحمد، وقد ابتدأ هذا الفصل بالحديث عن المُقاومة التي قادها الأول ضد الأتراك؛ مُستغلًا ركونهم للاستقرار، وتقليصهم لعدد قواتهم، أعلن نفسه إمامًا 1006هـ، وتلقب بـ (المنصور)، صالحهم بعد حروب وخطوب، واعترفوا به حاكمـًا على المناطق الشمالية، ليختار أعوانه بعد وفاته ولده الأكبر محمد 1029هـ، تلقب الأخير بـ (المُؤيد)، ولم يتعكر صفو الصلح بينه وبين الأتراك لسبعة أعوام.
تحدث المُؤلف في هذا الفصل عن العثمانيين في اليمن، وعلاقتهم بدولة الإمامة، وكيف وصل حكمهم في عهد الوالي حيدر باشا إلى الحضيض؛ الأمر الذي فتح شهية المُؤيد محمد للانقضاض على باقي المناطق الشمالية، مُسجلًا مطلع عام 1036هـ نقضًا رسميًا للصلح، اشتعلت المواجهات، وحققت القوات الإمامية انتصارات خاطفة، سقطت صنعاء، ثم تعز، ودانت المناطق الوسطى وتهامة للدولة القاسمية، ليتمكن الإمام الثالث لذات الدولة المُتوكل إسماعيل بن القاسم من مد سيطرته على الجنوب اليمني حتى ظفار، وهي سيطرة لم تستمر طويلًا.
بتولي صاحب المواهب محمد بن أحمد الإمامة 1097هـ، بدأ – كما أفاد المُؤلف – تنافس الجيل الثالث من آل القاسم على الحُكم، وكم من حروب دارت، ودماء سفكت، لتصفوا الإمامة بعد وفاته لابن أخيه المُتوكل القاسم بن الحسين 1130هـ، جعل الأخير من مدينة صنعاء عاصمة له ولمن بعده، مُؤسسًا بذلك لحكم أسرته، ولأكثر من 120 عامًا، لترتفع بوفاته وتيرة الصراع القاسمي – القاسمي، ليستقر الأمر في النهاية لولده الحسين، الذي تلقب بـ (المنصور).
لم تكد أحوال دولة المنصور تستقر، حتى بدأت البلاد تتناقص عليه من أطرافها، انكمشت – كما أفاد المُؤلف – خريطة الإمامة الزّيدِيّة، وتشكلت سلطنات صغيرة عمت الجنوب اليمني حتى حضرموت، كما كان لانهيار تجارة البن، وارتفاع أسعاره، وتحول الدول الأوربية لاستيراده من جزر الهند الغربية أثره البالغ في ذلك التحول المُريع.
تولى الإمامة بعد ذلك ولده المهدي عباس، ثم حفيده المنصور علي 1189هـ، كان الأخير ضعيف الإرادة، واهن العزيمة؛ الأمر الذي انعكس سلبًا على مَسار الدولة القاسمية، فدخلت مرحلة الضعف والانكماشة الشديدة.
المهدي عبد الله هو آخر الأئمة القاسميين الأقوياء، تولى الإمامة بعد وفاة والده المُتوكل أحمد بن المنصور علي 1231هـ، عمل جاهدًا على استعادة تهامة إلى حظيرة دولته، وفي عهده وصلت قوات محمد علي باشا إلى شبه الجزيرة العربية، وسيطرت على تهامة 1233هـ، وجعلتها تابعة لسلطات الدولة القاسمية، وهو الوضع الذي استمر لـ 13 عامًا.
أئمة القبائل
خلال النصف الثاني من القرن الثالث عشر الهجري دخلت الإمامة الزّيدِيّة مرحلة التيه والضعف الشديد، عصفت الخلافات الأسرية والتمردات القبلية بشبه الدولة المُتبقي، وانحصرت بأئمتها الجدد في القلاع العالية، والمناطق البعيدة، وارتفعت وتيرة التنافس الانجلو – تركي على السواحل اليمنية، خاصة بعد افتتاح قناة السويس، وصار اللاعب الخارجي هو المُتحكم الرئيس بالجغرافيا والإنسان.
في الفصل الرابع تحدث المُؤلف عن هذه الفترة، والتي أسماها بـ (أئمة القبائل وعصر الفوضى)، وذلك من عهد علي بن عبدالله إلى عهد محمد بن أحمد حميد الدين، وقد انصرف أأئمة هذه الحقبة إلى شئونهم الخاصة، حتى ضعفت سلطتهم، وسقطت هيبتهم، وانقسم أنصارهم شيعًا وأحزابًا، تآمروا ضد بعضهم البعض، وقضى المُنتصر على المُنكسر، وكثيرًا ما كانوا يستنجدون برجال القبائل، مما عرَّض مدينة صنعاء وغيرها من المدن لغارات عديدة، كثرت فيها حوادث السلب، والنهب، والتخريب.
دفعت تلك الأوضاع المضطربة – كما أفاد المُؤلف – عددًا من العلماء، والزعماء، والتجار للاستنجاد بالسلطان العثماني عبدالعزيز بن عبدالحميد، ودعوته لحكم اليمن، وضبط أمورها، وكان عدد من الأئمة ضمن قائمة المُستنجدين، كالهادي غالب بن محمد، وعلي بن المهدي عبدالله، والحسين بن المُتوكل أحمد، فيما تولى شريف مكة محمد بن عون زمام الوساطة.
عاود الأتراك استيلائهم على صنعاء 1289هـ / 1872م، وامتدت سيطرتهم لتشمل جميع المناطق الوسطى، ولم تستعد دولة الإمامة – كما أفاد المُؤلف – عافيتها إلا بعد تولي الإمام يحيى حميد الدين الحكم 1322هـ / 1904، واعتراف الأتراك به حاكمـًا على معظم المناطق الشمالية، ليدخل بعد هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى صنعاء 1337هـ / 1918م، وامتدت سيطرته بعد حروب وخطوب لتشمل المناطق الوسطى، وتهامة، وعددًا من المحميات الجنوبية لبعض الوقت، وهو الوضع الذي استمر حتى قيام الثورة السبتمبرية.
بعد عدة محاولات فاشلة لاغتياله، توفي الإمام الناصر أحمد يحيى حميد الدين في مدينة تعز 19سبتمبر 1962م، خلفه ولده محمد البدر، تلقب الأخير بـ (المنصور)، ليهرب بعد سبعة أيام بصعوبة بالغة؛ بعد أن أعلن الثوار بقيادة قائد حرسه عبدالله السلال قيام الجمهورية العربية اليمنية.
صحيح أنَّ الإمامة الزّيدِيّة عادت – كما أفاد المُؤلف – بعد المُصالحة الوطنية لانكماشتها الاعتيادية 1390هـ / 1970م، إلا أنَّ عودة أعضائها الفاعلين لتقاسم السلطة والثروة، وممارسة مهامهم داخل النظام الجديد؛ حال دون تحقيق الثورة السبتمبرية لأهدافها المُعلنة، وساهم إلى حدٍ كبير في إقصاء الثوار الحقيقيين، وتشكيل جيش مناطقي ولاءه للقبيلة، وإفراغ الجمهورية من مضمونها، وما حدث في عام 1435هـ / 2014م من انتكاسة صادمة، ما هو إلا نتيجة مُتوقعة لتلك التراكمات.