آثار

النار والحطب (دماء يمنية لأجل عروش الهادوية)

ظل التيار العلوي كامنًا متواريًا عن الأنظار حتى كشف عنه يحيى بن الحسين، الذي أطلق عليه الهادي إلى الحق عام ٢٨٠ هـ / ٨٩٣م لما جاء إلى صعدة للمرة الأولى، بناءً على استقدام وطلب من بعض زعماء من اليمن، ولكن الفشل حالفه في تحقيق بغيته(1).  ويرجع فشله هذا إلى استجابته السريعة غير المتروية للقبائل الداعية له، وعدم إدراكه لطبيعة القبائل وكيف تكون إدارتها. ورغم ذلك فقد استفاد من الفشل استفادة كاملة، وظل ثلاث سنوات تقريبًا يعد العدة للعودة إلى اليمن(2)،  فرتب للأمر عدته، وكان له دعاة وشخصيات متأثرة به تميل إليه، ساعية إلى إقناع زعماء القبائل على دعوته للمجيء إلى اليمن، كل هذا مهد للمجيء الثاني للهادي إلى اليمن حيث بدأت الدولة الهادوية – التي تعد المؤسسة للزيدية – في اليمن بالظهور من شهر صفر سنة ٢٨٤هـ / ٨٩٧م(3)  ساعية لمد الجذور في الأعماق، وباسطة نفوذها على حساب القوى المجاورة، سواء أكانت أشلاء الدولة العباسية المتناثرة(4)، أم الدويلات القبلية التي ظهرت في تلك الآونة. ولم تكن الراية المرفوعة هي راية الزيدية، بل عرفت حركة الهادي (بالعلوي) وهذا ما ذكره أكثر من مؤرخ(5).

استمرت الزيدية تحكم اليمن في فترات متقطعة من تاريخ اليمن ابتدأ بالدولة الزيدية الأولى ثم الثانية في عهد شرف الدين وابنه المطهر، حتى الدولة الزيدية الثالثة التي سميت بالدولة القاسمية، وحتى المتوكلية في العصر الحديث وحتى اليوم لايزال طموحهم السياسي مستمر.

أسهمت النظرية السياسية الزيدية حول منصب الإمامة في إذكاء الصراعات الداخلية التقليدية في بلاد اليمن؛ لأنَّ مبادئ المذهب الزيدي تجيز ظهور إمامين في وقت واحد، وتعطي المشروعية لكل فاطمي تتوفر فيه شروط الإمامة حق الخروج داعيًا لنفسه بها وانتزاعها بحد السيف مما فتح المجال أمام الطامعين فيها حتى أصبح تاريخ الإمامة الزيدية في اليمن سجلًا حافلًا بالعنف والصراع وسفك الدماء، وقطع الأرحام، وغرس الضغائن والأحقاد، وتوليد الثارات التي كان يذهب ضحاياها أبناء القبائل اليمنية من أجل وصول أحد أحفاد الإمام الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين في منصب الإمامة(6).

والمتتبع لتاريخ الإمامة الزيدية في اليمن يلاحظ أن الصراعات على منصب الإمامة كانت تنبع في الغالب عند موت الإمام(7)، نتيجة لذلك لم تنعم بلاد اليمن بالهدوء كما لم تعرف الاستقرار خلال تاريخها الطويل في اليمن، فقد اتسمت بالاضطراب والنزاعات الدائمة على منصب الإمامة ومناطق النفوذ، كما لم تخل فترة كل إمام من ظهور منافسين له في الإمامة، متجاهلين بذلك مبادئ المذهب الزيدي التي تشترط توفر خصالاً محددة لمن يدعو لنفسه بالإمامة، التي لم تلتزم من الناحية العملية بالشروط الموضوعة أساسًا للمفاضلة بين المطالبين بالإمامة من الأسر العلوية الزيدية، لذلك ظلت الصراعات قائمة بينهم حول تحديد الشخص الأحق بمنصب الإمامة.

نحاول أن نتناول بعض من تلك الصراعات الإمامية الإمامية، وكيف أثرت على سقوط تلك الدول ابتداءً من الدولة الزيدية الأولى، ظل الهادي (يحي بن الحسين بن القاسم بن إبراهيم ) يعمل على بناء الدولة الجديدة إلى أن توفي عام ۲۹۸هـ / ۹۱۰م ، فانتقلت الإمامة إلى ابنه محمد المرتضى دون عهد ولا وصية، ولم يدم طويلًا؛ لأنه لم يرض لنفسه تولي أمر الإمامة، فظل عازفًا عنها إلى أن جاء أخوه أحمد فتسلمها ولقب بالنَّاصر فقبض على الدولة عام ٣٠١هـ /٩١٣م .

لم يستقر الوضع للزيدية بعد وفاة الناصر (سنة ٣٢٥هـ / ٦٣٦م) ونتيجة لمبدأ (الزيدية) في شروط تولي الإمامة، وهو عدم العهد إلى إمامٍ آخر، إنما من رأى من نفسه قدرة، وتتوفر فيه الشروط، فعليه أن يخرج داعيًا إلى نفسه شاهرًا سيفه، ونتيجة لهذا المبدأ فقد تنافس على الإمامة ثلاثة من أبناء الناصر (المنصور يحيى والمختار القاسم – والحسن)، كل واحد منهم يرى نفسه أحق بها من أخيه، وثارت الحروب بينهم، وانتهزت القبائل الفرصة لتقضي على الجميع. وكانت وفاتهم هي أبلغ وسيلة لكي تهدأ أحوال البلاد. فقد توفى الحسن سنة ٣٢٩هـ / ١٤١م، ثمَّ لحقه المختار سنة ٣٤٥هـ / ٦٥٦م، وكان آخرهم المنصور سنة ٣٦٦هـ / ٦٧٦م، وظهر على إثره ابنه يوسف الذي عرف بالداعي وليس الإمام (ت ١٠١٢/٥٤٠٣م)، وعارضه أئمة آخرون من فرع آخر من فروع أبناء زيد بن علي.. وكان أبرز هؤلاء هو القاسم بن علي بن محمَّد بن القاسم بن إبراهيم المعروف بالقاسم العياني (ت ٣٩٣هـ / ١٠٠٢م)، الذي تمكن من إعادة الهيئة والمكانة للدولة، ولكنه لم يدم طويلاً فقد خلفه ابنه الحسين (ت ٤٠٣هـ / ١٠١٢م) الذي اعتنق بعض أفكار الشيعة الإمامية الإسماعيلية فنسبت إليه فرقة بعد ذلك باسم الحسينية”. ليبدأ منعطف كبير في مسار الزيدية في القرون التالية، على غير ما سارت عليه دولة الهادي سواء في الأفكار، أو في القوة والضعف(8). ولعل هذا أول صراع زيدي زيدي، فقد كان تأثيره بأن سقطت الدولة الزيدية الأولى.

DALL·E 2024 03 29 21.32.57 An illustration of an old scene in Yemen capturing a moment of historical significance amid devastation. The scene should vividly portray a rugged mo 1 النار والحطب (دماء يمنية لأجل عروش الهادوية)

أمَّا في الدولة الزيدية الثانية في عهد الإمام شرف الدِّين فقد برزَ ثلاثة أئمة إلى جواره كل يدعي أحقيته، وحصل ذلك بعد وفاة الإمام عز الدِّين بن المؤيد عام ٩٠٠ هـ الموافق عام ١٤٥٦م في منطقة صعدة، حيث قام بأمر الإمامة من بعده ابنه الحسن الذي لقي معارضة الشريف محمد بن على الوشلي الذي دعا لنفسه بالإمامة في منطقة القابل من بلاد بني الحارث بعد ثلاثة أشهر من قيام الحسن المؤيد بإعلان دعوته(9)،كما أنَّ الإمام محمَّد النَّاصر كان لا يزال حتى ذلك الحين يدعو لنفسه بالإمامة في صنعاء، منذ عام ٨٦٦هـ الموافق عام ١٤٦٤م (10).

ولا شك أنَّ تنافس الأئمة الثَّلاثة وصراعهم على منصب الإمامة وعلى مناطق النفوذ قد شجع بقية الدعاة والمحتسبين على الاستقلال بمناطقهم، فقد أصبح الدَّاعي عبد الله بن مطهر الحمزي مستقلا في كوكبان الواقعة شمال غرب العاصمة صنعاء وبعض مناطق ذمار، وأصبح الأمير محمد بن الحسين الحمزي مستقلا في بعض مناطق صعدة كالظواهر والشرف كما اسلام أشراف الجوف في عمران وبلاد البون القريبة منها(11).

ليس هذا وحسب، بل كانت القطيعة وصلت بهم إلى حد عدم الجلوس للمفاوضات أو للصلح بينهم كما يقول عماد الدين إدريس أيضًا: “وقام النَّاصر أيضًا بما وجب في أمور أوجبت الحرب فوقع الصُّلح بيننا واشترطنا أن يدخل مطهر في الصُّلح ومن إليه معنا فامتنع مطهرًا أن يجيب إلى الصلح وقال: لا أسالم عدو الله الناصر ولا اسائر في ذلك ولا أجاهر فكتبت إليه وقلت له أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قد صالح مشركي قريش من أهل مكة وسالم علي بن أبي طالب رضي الله عنه معاوية فتنزل هؤلاء في أي المنزلتين أردت فقال لا أصالحه أبدا وعاد إلى السودة وترك الأشراف وهمدان ولم يونس منهم أحدًا فوقع الصلح بيننا وبين أهل صنعاء”(12). عماد الدين داعي اسماعيلي سعى للصلح بين المطهر والناصر لكن المطهر رفض ذلك الصلح.

بل وصل الأمر إلى الصراع بين المطهر ووالده شرف الدين عندما عهد بالإمامة لابنه الأمير وحرم المطهر منها، بحجة عدم إلمامه بالعلوم الشرعية إلماما كاملا، وقيل إن إخوانه كانوا معارضين لإمامته لشدة بطشه وتنكيله بالأعداء، فوقفوا ضده خوفًا من بطشه، لكن في نهاية الأمر آل الأمر إليه.

وأمَّا في عهد الدولة القاسمية فقد بلغ الصِّراع الأسري مبلغه، وابتدأ منذ نشأة الدولة، بعد أن توفي الحسن بن القاسم عام (1048هـ /1638م)، -الإمام الثاني في الدولة القاسمية – فأمر الإمام المؤيد إخاء الحسين بتولي إدارة المناطق الوسطى التي كان يديرها من قبل أخوهما الحسن، ووجه أوامره لابني أخيه الحسن أحمد ومحمد) بالخضوع والانقياد لعمهما الحسين والأخذ برأيه في أي أمر يقومان به، لكنهما تجاهلا أوامر الإمام المؤيد وتصرفا بالأمور المالية والإدارية والعسكرية دون الرجوع لعميهما الإمام المؤيد أو الحسين، وكل ذلك لكي يتأهلا للإمارة، حيث كانا يتوهمان أنَّ الإمام سيجعل أمر المناطق الوسطى بعد وفاة والدهما ميراثًا لهما(13)، وزاد على ذلك أن أعلن أحمد بن الحسن خروجه على عميه الإمام المؤيد والحسين، بينما أظهر أخوه محمد الحياد، واستمر أحمد في عصيانه حتى دخل في حرب ضد عمه الحسين فهزم فيها أحمد وتفرق عنه أصحابه(14).

وأمَّا الإمام المتوكل على الله إسماعيل  بمجرد أن علم بوفاة الإمام المؤيد ودعوة أخيه أحمد، أعلن الدعوة لنفسه بالإمامة في ضوران، ولقب نفسه بالمتوكل على الله، وبايعه كبار العلماء والأعيان والوجهاء والقادة فيها؛ وذلك لأنه كان يرى أن أخاه أحمد ينقصه أحد الشروط المعتبرة للإمامة وهو (الاجتهاد) حسب المذهب الزيدي (الهادوي)، فلم يكن أحمد بهذه المنزلة في العلم، ولذلك لم يكن مؤهلًا لتولي الإمامة، بينما كان إسماعيل مؤهلاً لها؛ لتوفر شروط الإمامة – ومنها الاجتهاد – فيه (15). وحدث القتال بينهم بعد أن تمسك أحمد بحقه.

وكان إبراهيم بن محمد المؤيدي قد أعلن الإمامة لنفسه في صعدة (16)، وفي إب أعلنها لنفسه محمد بن الحسن بن القاسم(17).

واستمر الوضع على هذا النحو حتى نهاية الدولة القاسمية، كلما هلك إمام تنازع من بعده عدة أئمة كل يدعي أحقيته بالإمامة، مستغلا بذلك دعم قبيلة ضد أحد أقربائه، وهكذا كانت القبيلة اليمنية هي وقود هذه الحروب التي تكاد تكون عبثية.

حيث إن الأمل الذي يراود كل من ظن في نفسه الأهلية، باكتمال شروط الإمامة فيه، كان الدافع إلى إعلان دعوته، عقب وثوقه من تأييد قبيلة ما أو مجموعة من القبائل له. ومن جانبها فقد لبت القبائل كل من ناداها، رافدة دعوة من أراد نصرتها، لأنها كانت تجني الكثير من الفوائد جراء ذلك، فتحصل على ما تريد بطرقها، التي كانت غالبًا ما تضعف من شأن الداعي، ومن ثم انتهاء أمله في استجابة الناس له(18).

الهوامش:

  1. ابن أبي الرجال، مطلع البدور ومجمع البحور، 1/129. 
  2. ابن أبي الرجال، أحمد بن صالح (ت 1092ه)، مطلع البدور ومجمع البحور في تراجم رجال الزيدية، تحقيق عبد الرقيب مطهر حجر، منشورات أهل البيت للدراسات الإسلامية ، اليمن صعده، 2004م، 1/129. 
  3.  العلوي، سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين،35-38. 
  4. العلوي، علي بن محمد بن عبيد الله العباسي،  سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، تحقيق سهيل زكار، دار الفكر، بيروت، ط2، 1981م ،ص 195-198.
  5. ابن سمره، طبقات فقهاء اليمن، ص79. 
  6. المخلافي، عبد القوي علي أحمد سعيد، الإمام المطهر بن شرف الدين ودوره السياسي في تاريخ اليمن، رسالة ماجستير 2005م كلية التربية المكلأ، ص9. 
  7. ابن القاسم، يحيى بن الحسين(ت1689م) غاية الأماني في أخبار القطر اليماني، تحقيق سعيد عاشور،ط1 القاهرة دار الكتاب العربي، 1986م ،2/621-622. 
  8. الشجاع، عبد الرحمن عبد الواحد، تاريخ اليمن في الإسلام في القرون الأربعة الهجرية الأولى، ص 135.
  9. ابن شرف الدين، عيسى بن لطف الله بن المطهر(ت 1638م)، روح الروح ما جرى بعد المئة التاسعة من الفتن والحروب،  تحقيق إبراهيم المقحفي، ط1صنعاء ،  ص11.
  10. ابن القاسم، 2/621-622.
  11.  عيسى بن لطف الله، روح الروح، ص11.
  12. بن الآنف، عماد الدين ادريس(ت1314م) ، روضة الأخبار ونزهة الأسمار، ص55. 
  13.  الوزير، عبد الله بن علي، (ت1735م) طبق الحلوى وصحاف المن والسلوى (تاريخ اليمن خلال القرن الحادي عشر الهجري)، تحق: محمد عبد الرحيم جازم، مركز الدراسات والبحوث اليمني ومكتبة الجيل الجديد، صنعاء، طبعة 2، 2008م، ص 69 
  14. الوزير، طبق الحلوى، ص73.
  15. الجرموزي، المطهر بن محمد(ت 1666م) ،الجوهر المنير المنيرة في جمل من عيون السيرة، تحقيق أمة الملك الثور، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية، صنعاء 2008م، المجلد الأول، ص106.
  16.  الجرموزي، المطهر بن محمد(ت 1666م) ،  تحفة الأسماع والأبصار بما في االسيرة المتوكلية من غرائب الأخبار، تحقيق عبد الحكيم الهجري، مؤسسة الإمام زيد بن علي الثقافية عمان، 2002م، ج1، ص263-263. 
  17. الجرموزي، تحفة الأسماع والأبصار، ج1، ص107، 228. 
  18. أبو طالب حسام الدین محسن بن الحسن بن القاسم: تاريخ اليمن عصر الاستقلال عن الحكم العلماني الأول، ت( 1170هـ – 1757م) ، تحقيق: عبد الله محمد الجبلي مطابع المفضل للأوفست ، صنعاء، ۱۹۹۰م، ص 313.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لم تكن هناك دول للهادوية وإنما حوزات علمية مع تنظيم مسلح تتوسع وتنكمش وفق الظروف مثل المليشيات الشيعية المعاصرة ، وهذه صفة عامة للدعوات الدينية في جزيرة العرب كالازارقة والنجدات والاخيضرية والقرامطة والاباضية والاسماعيلية والوهابية ، وانا هنا اتحدث عن صفة واقعية لهذه الدعوات وانها لم تكن دول حقيقية بغض النظر عن الموقف الشرعي من كل واحدة منها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى