آثار

رحلة أشهر العلماء إلى اليمن في القرن التاسع الهجري

الرحلة في طلبِ العلم قد أسهمت بدورٍ مهم في تقوية أواصر الروابط العلمية بين اليمن وبقية الأقطار الإسلامية، وشكلت جسرًا ثقافيًّا ممتدًا ومتواصلًا يعبر من خلاله العلماء، وينقلونَ أفكارهم وعلومهم ومعارفهم من مناطق العالم الإسلامي إلى اليمن والعكس أيضًا، مما جعل اليمن مهوى أفئدة كثيرة من العلماء الذين قدموا إليها.

قال السَّخاوي (ت: 902) واصفًا بلاد اليمن: “حلَّها من الصَّحابة معاذ بن جبل، وأبو موسى الأشعري -رضي الله عنهما-، وخرج منها أئمة التابعين، وتفرقوا في الأرض، وكان بها جماعة من التابعين كـ: ابني منبه، وطاووس، وابنه، ثم معمر -رحمهم الله تعالى- ولم يزل العلماء به في عصر الصحابة يتوفرون، والأئمة إليها يرحلون، بل هي في كل عصر ‌في ‌ازدياد من العلم”(1).

لذا كانت اليمن في العصور الإسلامية محط رِحَال كثير من العلماء الذين قصدوها ابتغاء الرِّواية والإسناد العالي، فقصدها من العلماء الإمامان الشَّافعي وأحمد -رحمهما الله تعالى-، ومن مشاهير المحدثين إسحاق بن راهويه وسفيان الثوري -رحمهما الله تعالى.

وفي العصور التي تَلَت العصر الزَّاهر كان للعلماء رحلة أخرى إلى اليمن على إثر سماعهم بالنَّهضة العلمية آنذاك، وتشجيع سلاطين اليمن للعلم وأهله، حيث أغدقوا الأعطيات المجزية للعلماء نظير الجهود التي كانت تبذل.

لذلك شجعوا -أي السَّلاطين- العلماء على القدوم إلى اليمن، بل إنهم يعرضون عليهم أعلى المناصب سواء في القضاء أو التَّعليم، أو حتى ولاية مناطق محددة، كل ذلك ترغيبًا لهم في البقاء في بلاد اليمن.

قال المؤرخ محمد بن يوسف بن يعقوب الجندي في كتابه “السلوك في طبقات العلماء والملوك” كان يُسمَع الحادي في طريق العراق يحدو:

لَا بُد من صنعا وَإِن طَال السّفر 

لطيبها وَالشَّيْخ فِيهَا من ‌دَبَر(2).

فدونكم أبرز مشاهير العلماء اللذين وفدوا إلى اليمن في القرن التاسع الهجري، وذلك على النَّحو التالي:

أشهر العلماء إلى اليمن في القرن التاسع الهجري1 رحلة أشهر العلماء إلى اليمن في القرن التاسع الهجري

أولاً: الإمام مجد الدين محمد بن يعقوب بن محمد الفيروز آبادي (ت817هـ)

صاحب الكتاب المشهور المسمى “القاموس المحيط”

رِحلته إلى اليمن:

– دخل اليمن سنة (796ه) عبر ميناء عدن، ثم نزل مدينة زبيد، فأكرمه الملك الأشرف الثاني إسماعيل، وبالغ في إكرامه، وانتفع الناس به انتفاعاً كبيراً، وكان شيخ عصره في الحديث واللغة والفقه. 

– قال الخزرجي في كتابه العقد الفاخر: “ولما ذُكر في مقام السلطان الملك الأشرف وعَلم السلطان بإقامته في عدن، استدعاه إلى مدينة تعز، وكتب إلى ناظر عدن يومئذ بأن يجهزه بألف دينار فجهّزه بها، وطلع إلى قصر السلطان، فلما وصل إلى تعز أنزله السلطان في بيت يليق بحاله، وصرف له ألف دينار ضيافة”. 

– وقال الخزرجي أيضاً: “فلما وصل مدينة تعز عكفت عليه طلبة العلم من أهلها وفقهائها ومن غيرهم من كل مكان فسمعوا عليه كتب الحديث والتفسير وأفادهم الفوائد السَّنيَّة”(3)

– وقال أيضاً: “سمع عليه السلطان الحديث، وأكرمه إكراماً عظيماً، وأحبه حباً شديداً، فكانت كلمته مسموعة، وشفاعته مقبولة”(4)، بل إن الملك الأشرف تزوج من ابنة العلامة الفيروز آبادي، لكي يضمن بقاءه في اليمن، قال المؤرخ إسماعيل الأكوع: “تزوج الأشرف ابنته ليشد وثاقه إلى اليمن حتى لا ينفك عنها، وأغدق عليه أسباب الرزق”(5)

– كان دخول الفيروز آبادي على اليمن فتحاً علمياً، فقد أفاض على أهلها من علمه الغزير، ولما عُرِفَ من تواضع العلماء فقد جلسوا بين يديه بلا ترفع ولا تأفف، وكان السلطان الأشراف يرعى مجالسه العلمية ويعتني بها وبمن يجلس فيها عناية خاصة، إذ أنه تكفل بإقامة مائدة عامرة بكل طيب من الأكل والشرب لكل من حضر درسه، واحدة في أول النهار قبل القراءة عليه، وأخرى في آخره(6)

– قال البريهي، ترجم له الإمام نفيس الدين العلوي بقوله: “كان رحمه الله في العلم بالمحل الأعلى والمكان ‌الأسنى، إماماً كبيراً متضلعاً من العلوم، له في كل فنٍ من ذلك مصنفات جيدة وبسطة، ويد طولى في التصنيف، وله قوة قريحة مطاوعة، وقدم في العلوم راسخة قارعة، يفوق أبناء جنسه فلا يكاد أحد يضاهيه، بل لا يدانيه، وفضائله في ذلك أكثر من أن تحصر، يشهد بها وينطق بصحتها ما دوَّنَ من مصنفاته وتواليفه ورسائله ونظمه ونثره، وعلى الجملة فكان أحد أعيان الزمان، والمشار إليه بالبنان في البيان، وممن سحب على سحبان ذيل النسيان”(7)

– حينما صنف الفيروز آبادي كتابه: (الإسعاد بالإصعاد إلى درجة الاجتهاد) في ثلاث مجلدات، حُمل إلى قصر السلطان الأشرف في (15شعبان سنة 800ه) فلما قدَّمهُ إلى السلطان الأشرف تصفحه وأجازه بثلاثة آلاف دينار(8). فكان هذا الكرم الفياض والجود غير المحدود حافزاً لكثير من العلماء ليولُّوا وجوههم شطر اليمن. 

– من طريف ما يذكر أن الفيروز آبادي طلب من الملك الأشرف (ت 803هـ) السماح له بالعودة إلى مكة، فكتب إليه الملك الاشرف يقول: “إن هذا شيء لا ينطق به لساني ولا يجري به قلمي فقد كانت اليمن عُمْياً فاستنارت فكيف يمكن أن تتقدم وأنت تعلم أَن الله تعالى قد أحيا بك ما كان ميتاً من العلم فبالله عليك إِلا ما وهبت لنا بقية هذا العمر والله يا مجد الدين يميناً بارة أني أرى فراق الدنيا ونعيمها ولا فراقك أنت اليمن وأهله”(9).

وهذا يدل على إعزاز سلاطين اليمن للعلم والعلماء وتكريمهم لهم، وفيه أيضاً حث العوام على الاشتغال بالعلم، لنيل هذه المميزات التي نال منها العلماء.

- توليته للقضاء:

ولاه السلطان الأشرف الثاني(ت803ه) منصب قاضي القضاة على أقطار المملكة اليمنية آنذاك، وكتب له منشوراً بإطلاق يده ونفوذ أمره على كل أحد في مملكة السلطان المذكور(10)، قال الخزرجي: “وحكمه نافذ في الأقطار على قضاة الأمصار”(11)، فبقي متقلداً لهذا المنصب لمدة تزيد على عشرين سنة حتى وفاته بزبيد عام (817ه). 

– وتجدر الإشارة إلى أن إقامته باليمن، كان لها أثرها في دفع طلبة العلم والعلماء لقصده، لا من اليمن فحسب، بل من أنحاء العالم الإسلامي، للسماع عليه ورغبة في نيل أسانيده وإجازاته العلمية(12).

أشهر العلماء إلى اليمن في القرن التاسع الهجري 5 رحلة أشهر العلماء إلى اليمن في القرن التاسع الهجري

ثانياً: الحافظ أحمد بن حجر بن علي بن محمد العسقلاني المعروف بابن حجر(ت852هـ)

شيخ الحديث في عصره.

رِحلته إلى اليمن:

– دخل اليمن مرتين أولاهما سنة (800ه) والثانية سنة (806ه) وفي كل مرة دخلها لقي من الحفاوة والإكرام من سلاطين اليمن آنذاك ما يليق بعلمه ومكانته، وقد استفاد اليمنيون بعلمه، سمعوا عليه بعض الأجزاء الحديثية، واستجازوه في أسانيده ومروياته ومصنفاته فأجازهم، واغتبطوا به، واستمدُّوا من فوائده على جاري عوائده. 

– لما سمع الملك الأشرف إسماعيل، بقدوم ابن حجر إلى اليمن، خطبه للاجتماع به في زبيد، فأثابه أحسن الإثابة، وعامله بما هو جديرٌ به مِنَ الإجلال والاحتفال. 

– التقى ابن حجر في تعز، وزبيد، وعدن، والمُهجم، ووادي الحصيب، بكثير من علماء اليمن، وتلقوه بقدرٍ من الحفاوة والإكرام قد يفوق ذلك الذي عملوه من قبله للمجد الفيروز آبادي، وقد أورد السخاوي أثناء سرده لأسماء جميع تلاميذ الإمام ابن حجر، أسماء عدد كبير ممن سمعوا عنه الحديث وغيره من العلوم في اليمن، وممن تبادلوا معه الإجازات العلمية وعقدوا مجالس كثيرة للمذاكرة والمؤانسة. 

– تلقى الإمام ابن حجر كثيراً من علوم أهل اليمن عموماً، وزبيد وتعز على وجه الخصوص، على يد علمائها، يدل على ذلك قول السخاوي: “‌ورجع ‌من ‌اليمن، وقد ازدادت معارفه، وانتشرت علومه ولطائفه” 

– ممَّن لقيه بتعز: العلامة إسماعيل بن محمد بن أبي بكر بن المقرئ(ت837ه) صاحب “عنوان الشرف” و”مختصر الحاوي” وصفه ابن حجر بقوله: “ما أعلَمُ أعلَمَ منه، ولا ‌أفصح ‌في ‌الشعر، وهو يُربِي على أبي الطَّيِّب”، وقوله في موضع أخر: “إنه ما رأى باليمن أذكى منه”(13)، ويدل هذا على طول مناقشة ومذاكرة وتبادل للعلوم والمعارف، بالقدر الذي جعله يلمس هذه الصفات في الإمام ابن المقرئ، وقد تضمن ديوان ابن المقرئ بعض المساجلات الشعرية التي تبادلها مع الإمام ابن حجر، منها قول ابن المقرئ:

‌قُلْ ‌للشهاب ابنِ عليِّ ابنِ حَجَرْ 

سُورًا على مودتي مِنَ الغِيَرْ 

فسُور وُدِّي فيك قد بيَّنْتُه 

مِنَ الصفا والمَرْوَتين والحَجَرْ

‌ فاستحسن ذلك الإمام ابن حجر استحساناً عظيماً وقال لا يستطيع أحد أن يأتي بمثلها وأجابه بقوله

عوَّذتُ ‌سُورَ الوُدِّ فيكَ بالسُّورْ 

فهو على العلماء بالحُكْمِ حَجَرْ 

يا مِنْ رقى في المجدِ أنْهَى غايةٍ 

بالحقِّ أعْيَتْ مَنْ مَضَى ومَنْ غَبَرْ 

فضلُ سواكَ مدَّعى أو ناقصٌ 

كأنه “إنَّ” أتَتْ بلا خَبَرْ 

وأنتَ إسماعيلُ بالصِّدْقِ له 

وصفٌ على الوَرَى به قَدْ افْتَخَرْ(14).

– وممن قابله والتقى به في اليمن، مجد الدين الفيروز آبادي صاحب “القاموس” وقد قرأ عليه جُزْأً من قاموسه المذكور، قال ابن حجر في كتابه ” إنباء الغمر بأبناء العمر”: “اجتمعت به -أي بالفيروز آبادي- في زبيد وفي وادي الخصيب، وناولني جل القاموس وأذن لي مع المناولة أن أرويه عنه، وقرأت عليه من حديثه عدة أجزاء، وسمعت منه المسلسل بالأولية بسماعه من السبكي، ‌وكتب ‌لي ‌تقريظاً على بعض تخريجاتي أَبَلَغ فيه”، وكان ابن حجر يُثني على الفيروز آبادي، ويخالفه في اعتقاده بشأن ابن عربي الصوفي وزمرته، قال ابن حجر في شأن ذلك: “لم أكن أتهم الشيخ بالمقالة المذكورة إلا أنه كان يحب المداراة”(15)

– حمل الإمام ابن حجر معه كثيراً من الكتب إلى اليمن، وهو بذلك أسهم في رفد مكتباتها بالجديد، فقد ذكرت بعض المصادر التاريخية أنه أهدى للسلطان الأشرف كتاب: “خريدة القصر وجريدة العصر” للعماد الأصفهاني في أربع مجلدات كبيرة، وكذلك “تذكرته الأدبية” بخطه في أربعين مجلدًا(16)

– رحل الإمام ابن حجر العسقلاني عن اليمن، وقد ترك أثراً لا ينْسى في تاريخ الثقافة بها، حيث خلف تاريخاً له، يذكر كلما ذكر هذا الإمام الجليل.

أشهر العلماء إلى اليمن في القرن التاسع الهجري3 رحلة أشهر العلماء إلى اليمن في القرن التاسع الهجري

ثالثاً: محمد بن محمد بن محمد بن علي بن يوسف الشمس أبو الخير العمري الدمشقي الشافعي المقرئ الذي يعرف بابن الجزري(ت833هـ)

رِحلته إلى اليمن:

دخل ابن الجزري اليمن سنة (828ه) أيام السلطان المنصور الثاني عبد الله (ت830ه)، فأحسن إليه أيما إحسان.

– قال البريهي في كتابه “صلحاء اليمن”: ” كان دخوله اليمن سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وسلطانه حينئذ المنصور بن الناصر، فأحسن إليه إحساناً كبيراً، ونزل الربع الأعلى بزبيد، واقرأ الطلبة العلم الشريف في مسجد يعرف بمسجد الماشطة… وأسمع الحديث النبوي بمسجد الأشاعر”. 

– يصوَّر لنا الإمام إسماعيل ابن المقرئ دخول ابن الجزري إلي اليمن بقوله: “فإنَّه لما قدم مولانا وشيخنا شيخ الإسلام، وإمام الأئمة الأعلام، محمَّد بن محمَّد بن محمَّد بن علي بن يوسف الجزري إلى اليمن كان أحب قادم قدم بعد الغيبة على أصله، فأنزلوه بقلوب وعدتهم آمالُها بلقائه إلى قريب، وما وفت القلوب بمحلِّه ونشره، من فضائله وفواضله ما عمَّ سائلاً لفضله عن فضله بالعبارات الشَّافية، والأسانيد العالية، وظهرت بركات مجالسه المعمورة بالتقوى، المشحونة بالخاصة من أصل العلم والفتوى، وأيقظ النفوس من رقداتها، وأحيى القلوب بعد مماتها”(17) 

– جلس للتدريس في زبيد في جامع الأشاعر وعقدت له مجالس تعليم الحديث فقرئ عليه مسند الإمام الشافعي وسنن النسائي وابن ماجة، وكان من الحضور السلطان المنصور عبد الله، الذي سمع عليه صحيح البخاري في جامع الأشاعر، وأيضاً كان غالبية الحضور من الفقهاء اليمنيين في ذلك العصر، وكان أشهرهم محمد بن سعيد الطبري، وأجاز الإمام الجزري الحضور إجازة عامة لما يرويه هو(18)، ومن أبرزهم الفقيه محمد الحسيني(19)

– انتقل من مدينة زبيد إلى مدينة تعز فلما وصل إليها اجتمع عنده فقهاء البلد وعلماؤها وقرؤوا عليه، واجتمع بمجلسه من نسخ “الحصن الحصين” -وهو في الحديث- من مصنفاته نحو مئة وخمسين نسخة فانشرح صدره وحمد الله تعالى على ذلك، وقرئ عليه صحيح الإمام مسلم بن حجاج، وقرأ عليهم كتابه الأشهر “النشر في القراءات العشر”(20)، وأجاز علماء كبار بإجازات عامة منهم: محمد أبو حميش(21)

– عقدت له مجالس العلم في أكبر مساجد اليمن، وحضر بين يديه كبار علمائها، كان طلبة العلم الذين حضروا حلقته كما يصفهم البريهي في كتابه صلحاء اليمن “خلائق كثير”، وأغلب ما قرأوا عليه وسمعوا منه الحديث الشريف، والقرآن الكريم والقراءات منها خصوصاً، وتلقفته منازل العلماء بكل ترحاب ومحبة ومودة، فكان بينه وبينهم المطارحات والتساؤلات، ونظمت بينهم البديعيات الشعرية واللطائف النثرية، منها ما أنشأه الإمام الجزري في الإمام ابن المقرئ، يمدحه لما لقيه منه من الإجلال والتقدير

أشتاق للبيت الْعَتِيق وزمزم 

ومقامه والركن والتقبيل 

والآن بالشرف الْعلي لي الهنا 

لما خصصت بِحجر إِسْمَاعِيل

فأجابه الإمام ابن المقرئ

وَمَا حجر إِسْمَاعِيل لَوْلَا مُحَمَّدٌ 

تَدَارُكه حجراً معداً لذِي حجرِ 

وَلَا غرو إِن آخاه والعرق وَاحِدٌ 

أَلَسْتَ ترى كلاً يُقَال لَهُ الْمقري 

خَلَفْتَ رَسُول الله، أَنْت مُحَمَّدٌ 

وَأَنت ابْنه وَابْن ابْنه طيب الذّكرِ 

بُحورُ عُلُومٍ أغرق الْبَحْر مدُّها 

فكفكفته بالجزر خوفًا على الْبر 

فَمن أجلِ هَذَا الْبر بِالْبرِّ خَيرهمْ 

مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْبَحْر يعرف بالجزري(22).

– ذاع صيت كثير من علماء اليمن، مما جعلهم مقصد طلبة العلم بالرحلة إليهم لأخذ العلم والتلقي عنهم، والسماع عليهم، والاجتماع بهم، ومن ذلك مقصد الفقيه الإمام ابن الجزري من دخوله اليمن، حيث قال لما اجتمع بالإمام إسماعيل بن المقرئ الزبيدي: “والله ما زلتُ أتمنى الاجتماع بكم، وهو جلُّ مقصودي في اليمن”(23)

– حدَّث الإمام ابن حجر -وهو باليمن- بكتاب ابن الجزري في الأدعية المسمى “بالحصن الحصين”، فحصل للكتاب في بلاد اليمن بسبب ذلك رواجٌ عظيم، وتنافسوا في تحصيله وروايته، وذلك قبل دُخول مُصَنِّفِهِ إليهم، ثم دخل وقد مات كثيرٌ ممّن سمعه على صاحب الترجمة، فسمعه الباقون وغيرهم عليه(24)

– كان الإمام الجزري مشاركاً مع علماء اليمن في الإنكار على علماء الصوفية الذين كانوا يدعون بعض الخوارق والتنـزيه عن الخطأ، رغم ما يتمتع به هؤلاء العلماء من مكانة لدي شريحة كبيرة من الناس، إلا أنه لم تأخذه في الحق لومة لائم(25)

– لم يغادر الإمام ابن الجزري اليمن إلا وقد أحدث فيها نقلةً، بل قفزةً عملاقة في علوم القراءات، وساح طلابه في أنحاء اليمن ينشرونها، فلا تجد من علماء القراءات في القرن التاسع الهجري في اليمن إلا وهو من تلاميذ ابن الجزري أو من تلاميذ تلامذته.

ختاماً:

– تعد الرحلة العلمية في العصر الإسلامي إحدى السمات الأساسية التي ميزت الحياة العلمية والتعلمية في البلدان الإسلامية، والتي من خلالها كان يتم اللقاء المباشر بين العلماء مع بعضهم، وبينهم وبين طلاب العلم للسماع منهم والأخذ عنهم والاطلاع على مؤلفاتهم. 

– مثلت الرحلات العلمية إحدى الأوعية الرئيسية للتواصل الثقافي، والتلاقح الحضاري، والتأثير المتبادل بين البلدان الإسلامية، وفي نقل المرويات والأسانيد والمصنفات والعلوم والمعارف والأفكار، وتبادل الآراء والاجتهادات وفتح الآفاق لطلاب العلم. 

– رحلة أبرز العلماء المشهورين في العالم الإسلامي إلى اليمن، كانت من إحدى العوامل التي أدت إلى نشاط الحياة العلمية. 

– عدد المؤرخ البريهي الوافدين على اليمن من علماء غيرها خلال القرن التاسع الهجري فقط، فبلغوا “سبعة عشر عالماً”، مع أنه اقتصر على ذكر الأعلام الكبار المشهورين دون سواهم، غير طلبة العلم المغمورين الذين لو حصروا لبلغوا المئات 

– من العلماء الذين وفدوا إلى اليمن أيضاً: الحجاجي والبيلقاني والصاغاني والحافظ المحب الطبري الذي أهدى كتبه للملك المظفر، كما قدم إليه من بلاد الهند صفي الدين محمد بن عبد الرحيم، والفقيه محمد بن خضر غياث، والأديب محمد بن محمود المعروف بأمين الدين المغربي، وإسماعيل الحلبي وغيرهم. 

– أحث الباحثين إلى ضرورة دراسة وتتبع جميع رحلات العلماء الذين ارتحلوا إلى اليمن، سواءً للمحدثين أو المقرئين أو غيرهم، وأثارها على الحياة العلمية في اليمن آنذاك. 

والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

الهوامش:

  1. ينظر: الإعلان بالتوبيخ لمن ذم أهل التوريخ: السخاوي، (ص458). 
  2. دَبَرُ: بفتح أوله وثانيه: قرية من نواحي صنعاء باليمن، ينسب إليها أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن عبّاد الدّبَرِي الصنعاني، حدث عن عبد الرزاق بن همام، روى عنه أبو بكر بن المنذر والطبراني وجماعة. ينظر: معجم البلدان: ياقوت، (2/ 437). 
  3. العقد الفاخر: (4/2087). 
  4. المرجع السابق: (4/2090).
  5.  الدولة الرسولية: الأكوع، (ص16). 
  6. ينظر: طبقات صلحاء اليمن: (ص297). 
  7.  المرجع السابق: (ص294).
  8. ينظر: العقود اللؤلؤية: الخزرجي، (2/822)، الدولة الرسولية: الأكوع، (ص15). 
  9. الضوء اللامع: السخاوي، (10/84). 
  10. طبقات صلحاء اليمن: (ص297). 
  11. العقد الفاخر: (4/2090). 
  12. ينظر: الذيل على الدرر: ابن حجر، (ص239)، الجواهر والدرر: السخاوي، (ص87).
  13. الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر: السخاوي، (1/ 147، 150). 
  14. ينظر: طبقات صلحاء اليمن: البريهي، (ص306). 
  15. إنباء الغمر بأبناء العمر: ابن حجر، (3/ 49). 
  16. الجواهر: السخاوي، (1/ 152).
  17. رحلات القراء إلى اليمن: محمد الحضرمي، (ص494). 
  18. ينظر: طبقات صلحاء اليمن: البريهي، (ص346)، جامعة الأشاعر زبيد: الحضرمي، (ص50)، تاريخ ثغر عدن: بامخرمة، (ص260)، مظاهر الحضارة في اليمن في العصر الإسلامي: حماد، (ص589). 
  19. جمال الدين محمد بن إبراهيم بن ناصر الحسيني، إمام الشافعية في مسجد الأشاعر، له مصنفات منها، “شرح للمنهاج، ومختصر للفقيه” توفي عام(853ه) ينظر: طبقات صلحاء اليمن: البريهي، (311، 312). 
  20. طبقات صلحاء اليمن: البريهي، (ص347). 
  21. جمال الدين محمد بن أحمد أبو حميش، من الفقهاء الصالحين، دخل عدن عام(826ه) وعُرف عنه حبه لجمع الكتب والحصول على الإجازات، توفي عام(862ه). ينظر: طبقات صلحاء اليمن: البريهي، (ص334)، الضوء اللامع: السخاوي، (3/328). 
  22. طبقات صلحاء اليمن: البريهي، (ص347) 
  23. ينظر: ديوان ابن المقرئ: ص (458)، رحلات القراء إلى اليمن: محمد الحضرمي، (ص490). 
  24. الجواهر والدرر في ترجمة شيخ الإسلام ابن حجر: السخاوي، (1/ 149). 
  25. ينظر: جهود الدولة الرسولية: سامي منصور، (ص260).

سامي منصور

سامي منصور محمد سيف حاصل على شهادة الليسانس من جامعة تعز، كلية الحقوق عام 2009م. حاصل علىٰ شهاد الماجستير بتقدير «ممتاز» مع مرتبة الشرف الأولى، من قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، كلية الدعوة وأصول الدين، بالجامعة الإسلامية. وعنوان رسالة الماجستير (جهود الدولة الرسولية في الدعوة إلىٰ الله في بلاد اليمن). باحث في مرحلة الدكتوراة، قسم الدعوة والثقافة الإسلامية، الجامعة الإسلامية. لديه بعض الأبحاث العلمية والمقالات في العديد من المواقع المتخصصة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى