لستُ مولعًا بالسفر عبر الزمن، ولكني تستوقفني بعض المشاهد التي أتمنى لو الزمن توقَّف فيها، حتى أدركها كما كانت عليه، فأحكي عنها عن مشاهدة، وأقص لكم خبرها عن عيان!
سأحكي لكم عن جمال يسلب الأذهان، وسرور يذهب الأحزان، ومشاهد تثير الأشجان، طيور وأغصان، وحمام وأفنان، زهر وريحان، وفاكهة ورمان، وشيخ وأقحوان، وياقوت ومرجان.
سأحكي لكم عن مدينةٍ قال عنها ياقوت الحموي: “مدينة باليمن هي من أحسن مدن اليمن وأنزهها وأطيبها”.
وصفها القاضي محمد بن علي الأكوع بقوله: “نسمة السحر، وشقيقة القمر، ربَّة الحسن والإحسان والعلم والعرفان، كما تغنى بوصفها ورقة هواها وعذوبة مائها وكرم أخلاق أهلهـا الشعراء والأدباء”.
سأحكي لكم ما قاله السلطان عبد الله بن يعلى الصليحي عنها:
هب النسيم فبتُّ كالحيرانِ
شوقاً إلى الأهلين والجيران
ما قطر بغداد وما طبرية
كمدينة قد حفها نهران
خدد لها شام وحب مشرق
والتعكر العالي المنيف يماني.
هذا الجمال الآسر، والنسيم العذب، والجنان المعروشة، والزهور المتفتحة، والأكمام الغضة، والروائح الندية، والفواكه المتدلية، هي التي تجعلك تطير شوقًا إلى “ذي جبلة” مدينة العلم والعلماء، والشعر والشعراء، مدينة الجمال والدلال، والغواني الحسان:
بذي جبلةٍ شوقي إليك، وإنها
لتطهر بالشيخ الذي ليس يعمر
عوائد للغيد الغواني، فإنها
عن الشيخ نحو ابن الثلاثين تنفر
ذكرها أبو الفداء بأنها واقعة بين عدن وصنعاء في الإقليم الأول، وهي من حيث الطول خمس وستون درجة، والعرض ثلاث عشر درجة وعشر دقائق… وهي عن تعز بميلة يسيرة إلى الشمال.
وتقع أيضًا: شمال شرق جبل التعكر في الجنوب الغربي من مدينة إب، تفصلها عنهـا أربعة أميال تقريباً، وقد أنشئت على هضبة مسطحة متدرجة معاندة لمدينة إب، ويبلغ ارتفاعها ما يقارب (6745) قدماً عن سطح البحر، وهي مدينة بين نهرين جاريين شتاءً وصيفاً.
عرفت هذه المدينة في بادئ أمرهــا بـ “مدينة النهرين”، أو “ذات النهرين”، أو كما سماها ابن المجَاور “قلعة النهرين”، لأن جبل التعكر ما بين أيمن البلد وشماله ومجمع النهرين في أحد البلد عند موضع يقـــال له وادي ميتم.
غير أن هذه التسمية تغيرت بمجيء الصليحيين فأصبح الاسم “ذي جبلة”، وذلك بعد أن أسند الملك على بن محمد الصليحي ولاية حصن التعكر إلى أخيه عبد الله بن محمد، الذي قام ببناء المدينة على سفح جبل التعكر سنة (458ه)، بناء على توجيه من أخيه بذلك.
ويقال إن تسمية المدينة “ذي جبلة” بهذا الاسم مأخوذة من اسم تاجر فخـــار يهودي يدعى “جبلة” كان يبيع أنيته في الموضع الذي بني فيه الأمير عبد الله دار العز الأولى، فعرفت المدينة بذي جبلة لذلك!
وهناك من يرى أن هذه التسمية مشتقة من اسم “جبلة” الذي أطلقه العرب على عدة حصون وقرى وجدت قبل إنشاء مدينة ذي جبلة بعدة قرون.
برزت هذه المدينة كواحدة من أهم المدن اليمنية في العهد الصليحي بعد أن شاءت لها الأقدار أن تنتزع الصدارة من صنعاء العاصمة الصليحية الأولى، لتغدو عاصمة للصليحيين على عهد المكرم أحمد بن على الصليحي بعد أخذه بمشورة زوجته سيدة بن أحمد الصليحي (1) التي كانت قد أشارت عليه بذلك، إذ تذكر المصادر التاريخية أنه وبعد عودة المكرم من زبيد إلى صنعاء وتأمين جانبها من غارات المغيرين عليها لا سيما من قبل الأشراف آل القاسم العياني، وإزاء اضطراب الأوضاع في صنعاء وما حولها، لــم تجد سيدة بنت أحمد بُداً من الانتقال إلى ذي جبلة بعد أن تركت زوجها المكرم فـــي صنعاء.
ومن الباحثين من يرى أن ارتحال سيدة بنت أحمد إلى ذي جبلة كان بتوجيــه مـــن زوجها المكرم الذي أسند إليها إدارة شئون المناطق الجنوبية والوسطى من اليمن في حين بقي هو في صنعاء لإدارتها والإشراف على شئون المناطق الشمالية من مملكته وخاصة بعد أن أصابه مرض الفالج (2) الذي كان قد ألم به أثناء قيامه بتخليص أمه من أسر النجاحيين في تهامة.
آثرت السيدة بنت أحمد الاستقرار بجبلة، وفكرت بجدية في أن تجعل منها عاصمة صليحية عوضاً عن صنعاء، فمن جهة: كانت معجبة بها، وكان هواها في الإقامة فيها، ولعل ذلك الإعجاب قد ترسخ من خلال الزيارات المتعددة التي قامت بها مع زوجها المكرم إلى ذي جبلة قبل وفاة أم المكرم أسماء بنت شهاب.
ومن جهة أخرى: كانت جبلة وما حولها منطقة خصبة وفيرة الخيرات، وقد جاء ذلك علـــى لــسانها عندما قالت للمكرم في محاولة منها لإقناعه بما تريد بأن “ذلك أقر للمملكة وثبوت قواعدها وأسهل جانباً في مصادر الأموال ومواردها، وهي متوسطة بين اليمن الأعلى والأسفل وبها يخصب العيش فيطيب المحل”.
وإمعانًا منها في إقناع المكرم بسلامة رأيها، طلبت منه، عندما كان في صنعاء أن يحشد أهل أعمالها إلى الميدان، ففعل، فلما حضروا أشرف عليهم “فلم يقع عينيه إلا على حامل سيف أو رمح”، وعندما توجهت سيدة بنت أحمد مع زوجها إلى ذي جبلـــة طلبت منه أن يجمع أهل جبلة، ففعل، فلم يقع عينه إلا على حامل هدية أو سايقها، فقالت العيش بين هؤلاء، فاستوطن ذي جبلة مسكناً وجعلها محلاً وموطنا.
يعلق القاضي محمد الأكوع على طباع أهل جبلة بقوله: “وهذه الأخلاق السامية الرقيقة، والسمات الفاضلة هي لا تزال في أهل هذا الصقع بما فيه مخلاف المعافر وتهامة أو ما يسمونه اليوم باليمن الأسفل بحكم طبيعة البلاد والبيئة، فهم أهل مكارم وسماح يؤثرون الهدوء والسكينة والعافية على إثارة القلاقل والشغب، وذلك لخصب بلادهم ورخاء أرضهم وقربهم من رحمة الله، كما أنهم ليسوا لمن غلب، فإن لهم خرجات وثورات مأثورة وفى كتب التاريخ مشهورة”.
نجحت سيدة بنت أحمد بإقناع المكرم بسداد رأيها، فاتخذ من ذي جبلة عاصمة لدولته وابتنى فيها دار العز الثانية “وكان حائطاً فيه بستان وأشجار كثيرة وهو مطل على النهرين وعلى الدار الأولى، وأمرت السيدة ببناء الدار الأولى مسجداً جامعاً، وهو المسجد الجامع الثاني”.
وأولت سيدة بنت أحمد عنايتها الكبيرة لهذه المدينة، التي كانت مولعة بها، فأكملت ما كان قد بدأه الأمير السابق عبد الله بن محمد الصليحي من بناء لها، فعكفت فـــي فترة زمنية قصيرة على إعداد جبلة وتعميرها وتجميلها، فأنشأت فيهـا القصور والمساجد والساحات وغرست بها الأشجار، وحذا حذوها وزراؤها ورجال دولتها حتى ازدهـــرت وصارت مقصداً للأدباء والشعراء والعلماء الذين حظوا بتشجيع الملكة ورعايتها.
شهدت مدينة جبلة ازدهارًا للحياة العلمية والدينية والثقافية، فبرز فيها عدد من العلماء والفقهاء وطلبة العلم ممن كان لهم إسهامات جليلة في كثير من المجالات.
هكذا غدت مدينة ذي جبلة، المدينة الفتية، محورا تدور حوله الأحداث، وقبلة يؤمها أهل العلم، ومثلهم أهل السياسة، فلكل ضالته المنشـودة فـــي مدينة قدر لها على صغرها أن تلعب دوراً هاماً من أدوار التاريخ اليمني.
يعد إقليم “جبلة” من أجمل أقاليم اليمن وأكثرها خيرًا، وأوفرها أمطارًا، إذ يبلغ متوسط ما يسقط فيه سنويًّا من الأمطار نحو (1000مم)، لذلك فهوب يعرف بميزاب اليمن الكبير المدرار.
ضم إقليم جبلة عددًا من المراكز العلمية التي كان لها إسهاماتها الكبيــرة فـــي مجالات الحياة العلمية المختلفة، حيث كانت منارات علمية أضاءت الطريق لكثير من الناس ومهدت السبيل لظهور شريحة العلماء والمتعلمين، الذين أخذوا يرثون العلم ويورثونه لمن يأتي من بعدهم، فذاع صيت كثير منهم وطار ذكرهم في الأفاق؛ لمــا تركوه من مآثر جليلة في المجالات المعرفية المختلفة.