كلّما ذُكر أمين الخولي ذكرتُ به رفاعة رافع الطَّهطاوي؛ ذلك أنَّ كليهما شيخ، قد أخذ الدِّين؛ عقيدة وشريعة منذ أوّل تعليمه، وأنّ كليهما كان إمامًا لأبناء بلده في أوربّا؛ كان رفاعة الطهطاوي إمام البعثة الأولى التي ابتعثها محمّد علي باشا للدراسة في باريس، وكان أمين الخولي إمامًا في السَّفارة المصريَّة في روما؛ لكنَّ كليهما لم يقصر عمله على شأنه الديني؛ بل شرع يتعلَّم لغة البلد الذي هو فيه، ويتزوَّد من ثقافته، ثمَّ عاد إلى بلده وقد أدرك معنى التَّجديد، وغايته. لقد كان كلاهما مجدِّدًا لا يقطع ما بينه وبين تراثه!
ولد أمين الخولي في سنة 1895، في قريةٍ من قرى مصر، وتعلَّمَ فيها، أوّل ما تعلَّم، وحفظَ القرآن الكريم، على ما كان يبدأ به الصبية تعليمهم يومئذٍ، كان من أسرة مزارعة؛ تفلح الأرض وتزرعها، وتقف من التَّعليم عند أوائله، ولا تريد أن تبلغ منه غايته؛ غير أنَّ أمينًا كانت عينه تتّجه نحو القاهرة؛ يريد أن يستزيد من العلم فيها، وأن يكون في أفق أرحب، وأن يبلغ أبعد ما يستطيع. فكان أن قصد القاهرة، وشرع يدرس فيها، وهو لمّا يزل في طور الصبا، حتّى بلغ مدرسة القضاء الشَّرعيّ فأفاد منها فائدة كبيرة بقيت معه مدّة حياته؛ وهو لا يفتأ يذكر ناظرها عاطف بك بركات؛ يذكر سعة علمه، وحسن إدارته، وحنوّ أبوته.
كان أمين، وهو في مدرسة القضاء الشَّرعيّ، يريد أن يجمع القديم إلى الحديث، وأن يستوعب علوم القدماء من نحو، وصرف، وبلاغة، وفقه، وتفسير؛ وأن يُلمَّ بما يجري في عصره فيكون على معرفة بضروب الأدب والفكر فيه. وبحسبك أن تعلم أنّه، في مطالع حياته، أحبّ المسرح، وزاول كتابة المسرحيّات، يوم كان المسرح شيئًا جديدًا قلَّ من يُقبل عليه. كان يريد أن يجعل القديم والجديد في نسيج واحد.
زاول التَّدريس مدّة، في مدرسة القضاء الشَّرعي، ثمَّ قُدِّر له أن يكون في سنة 1923 إمامًا في السَّفارة المصريّة في روما؛ يقيم فيها الصَّلاة، ويرجع إليه ملاكها في شؤون دينهم؛ بيد أنَّ الشَّأن الديني لم يستغرق وقته كلّه، ووجد متّسعًا أن يتعلَّم اللغة الإيطاليّة، وأن يتَّصل بأدبها، وأن يقف على الفكر الإيطاليّ، وأن يُحسن تمثّل ذلك كلّه. وبعد ثلاث سنوات، في سنة 1926، انتقل عمله إلى السفارة المصريَّة في برلين؛ فتهيَّأت له فرصة أخرى أن يتعلَّم اللغة الألمانيَّة فأقبل عليها، كما أقبل على اللغة الإيطاليّة من قبل، حتّى تعلّمها، وألمَّ بأدبها؛ فلمّا عاد، في سنة 1927، إلى القاهرة، عاد بزاد حسن في الثقافتين؛ الإيطاليَّة والألمانيّة، وبإرادة صادقة أن يسلك سبيل التجديد. وإنّما سبيل التَّجديد عنده؛ أن تقتل القديم درسًا وبحثًا؛ وليس تجديدًا يعتدّ به ما أغفل القديم!
كان التَّجديد، منذ نشأ، يأخذ منحييْن؛ منحى يقوم به المجدِّد من داخل الدين؛ يقبل ثوابته، ويجدِّد ما عداها لينسجم مع روح العصر، ومنحى آخر يجيء من خارجه؛ لا يريد أن يقف عند الأصول وينظر فيها. ولقد كان الخولي مجدّدًا ينطلق من ثوابت الدِّين، وأصول التُّراث، وهو في ذلك خلف كريم لسلف كريم؛ فقد كان من أسلافه في هذا المنحى؛ رفاعة رافع الطهطاوي، وجمال الدِّين الأفغاني، ومحمَّد عبده، وعلي عبد الرازق؛ وكلّهم حمل عبء التَّجديد من دون أن يُغفل ثوابت الدين والتراث، وكلّهم كان حريصًا أن يصل بين الإسلام وروح العصر، وأن يوائم بينهما.
ولكي يبيّن أنَّ التَّجديد ليس أمرًا طارئًا، بل هو شيء أصيل؛ وضع كتابًا عنوانه: (المجدّدون في الإسلام) وقف فيه عند من كان مصداق الأثر؛ “إن الله يبعث على رأس كلّ مئة سنة من يجدّد لهذه الأمّة أمر دينها”؛ ولعلَّه أراد به أيضًا أن يجعل التَّجديد أمرًا متقبَّلًا، لا ينفِر منه النَّاس. ولكي يبيّن التجديد الذي يرمي إليه؛ في ميادينه، ومناحيه وضع كتابه: (مناهج تجديد في النَّحو والبلاغة والتفسير والأدب).
كان من مقالة أمين الخولي في سياق تجديده؛ إنَّ القرآن الكريم هو كتاب العربيَّة الأكبر، وإنَّ مدخل تفسيره ينبغي أن يكون أدبيًّا لكي يتّضح معناه ومغزاه. وقد شرع يضع ملامح التفسير الأدبيّ، ويُلقي إلى طلبته مبادئه؛ فكتبت بنت الشَّاطئ، على هديه؛ التَّفسير البياني للقرآن الكريم، وكتب محمَّد أحمد خلف الله، بإشرافه؛ أطروحة دكتوراه بعنوان؛ (الفن القصصيّ في القرآن الكريم)، درس فيها القصص القرآنيّ دراسة أدبيّة. غير أنّها لم يُقدّر لها أن تُجاز؛ فقد وجد فيها، من كانت بينه وبين الخولي إحن، ما لا يستقيم مع الفهم السائد، وأنكر عليها منزعها الأدبيّ، ومنع إجازتها؛ حتّى أُضطرّ صاحبها محمّد أحمد خلف الله أن يكتب أُطروحة أخرى بعنوان: (أبو الفرج الأصفهاني الراوية)؛ ثمّ عاد فأصدر (الفن القصصيّ في القرآن الكريم) فإذا به، لدى من قرأه، دراسة أدبيّة رصينة، تُحسن الفهم، وتجيد التهدّي إلى لطيف المعنى، وتفهم النصّ بمقاصده، بريئة ممّا رُميت به. ولو قُدّر لمنهج الخوليّ الأدبيّ في تفهّم الكتاب العزيز أن يشيع لدرأ كثيرًا ممّا ران على الأذهان من حجب ، ولاستنقذ كثيرًا ممَّن تردَّى في وهدة الظلام!
كان مجدِّدًا في تفهّم النَّص؛ لا يحجبه المعنى الحرفي عن المغزى الرَّفيع!
وكان له في دراسة الأدب منهج يقوم على تبيّن أثر البيئة في إنشاء الأدب، إذ كلّما تباينت البيئات تباينت الآداب؛ وقد دُعي منهجه هذا، الذي بسطه في كتابه: (الأدب المصري فكرة ومنهج)، بالمنهج الإقليميّ؛ ومؤدّاه؛ إنّ دراسة الأدب العربيّ كلّه لا تتمّ إلّا بعد أن يُدرس أدب كلّ إقليم دراسة تتّضح بها خصائصه. لقد كان يُعنى بالمناهج، ويرى في الجديد منها طريقًا يفضي إلى تجديد المعرفة وإغناء الحياة؛ وقد وجدت عنايته بالمناهج منفذها إلى طلبته؛ فكتب شكري فيصل، بإشرافه، رسالته: (مناهج الدراسة الأدبيَّة)؛ الدراسة الرائدة في تبيّن تلك المناهج في الذي لها والذي عليها.
إنَّ من مزيّة الشيخ أمين الخولي مقدرته على أن يكون له تلاميذ يحملون رسالته، ويستكملون مسعاه؛ كان منهم: بنت الشَّاطئ ، ومحمَّد أحمد خلف الله، وشكري محمّد عيَّاد، وآخرون؛ يجمعهم النزوع نحو التَّجديد، والنَّظر في القرآن الكريم نظَرًا أدبيًّا، وتبيّن آثار البيئة في الأدب، ويريدونَ الأدب أن يكون من أجل الحياة؛ وقد دعوا أنفسهم بالأمناء؛ تسمية يعتزون بها إلى أستاذهم ورائدهم: أمين الخولي.
كان الشَّيخ الخولي صوت التَّجديد الذي استصفى القديم ووقف على خير ما فيه ممّا يمدّ الحياة بالأسباب، وأهمل ما جفّ ماؤه وذهب رواؤه؛ وقليل مثله من أحسن المواءمة بين التراث وآفاق العصر. غير أنّه، حين توفّي في سنة 1966، تضاءل نهجه بوفاته، وانصرف تلامذته كلّ إلى شأنه، حتّى بنت الشاطئ؛ فقد شُغلت بالتراث وأغفلت العصر…!