الـمِحَنُ كاشفةٌ لمعادنِ الأحرارِ الأُصَلاءَ، وما أكثرَ ما مازتِ الفِتنُ بين النُّبَلاءِ والخُبَثاءِ، إذ هي مِنْ قَوْلِهمْ: فَتَنْتُ الذَّهبَ، إذا أدخلْتهُ النَّارَ، لِيستبينَ الخَالِصُ النُّضَارُ، مِنَ الزَّائفِ الخالِبِ للأبصارِ، وقَديمًا قالوا: لا يُعرَفُ الصَّديقُ إلَّا وقتَ الضِّيقِ، وللهِ دَرُّ مَنْ قالَ:
جَزَى اللهُ الشَّدَائِدَ كُلَّ خَيرٍ
وَإِنْ جَرَّعْـنَنِي غُصَصِي بِرِيقِي
وَمَـــا شُكْرِي لَهَا إِلَّا لِأَنِّي
عَرَفْتُ بِهَا عَدُوِّي مِنْ صَدِيقِي
وما رأيْتُ في زمانِ النَّاسِ هذا مِحنةً كاشفةً فاضحةً مُـمَحِّصَةً كَمِحنةِ أهلِ غزَّةَ، التي شاءَ اللهُ أنْ يَجعَلَها فُرقانًا بينَ الأخْيارِ والأشرارِ، بينَ الأحرارِ الشُّجعانِ والعَبيدِ الأقنانِ، بين الهُداةِ الرَّاشدينَ والغُواةِ المرتكسِينَ في حمأةِ الضَّلالِ المبينِ، بين الشُّرَفاءِ أولي الألبابِ والسَّاقطينَ من التَّوابِعِ والأذنابِ، فكمْ أسقطتْ مِنْ أقنعةٍ عن رموزٍ زائفةٍ، كانتْ قُطعانُ المغيَّبينَ تَحُجُّ إليها، وتُعوِّلُ في الـمُلِمَّاتِ عليها، حتَّى إذا وقعتْ تلكَ المحنةُ الكاشفةُ وقفتْ مَوقفًا مُخزيًا، لطَّخَ جَبينَها بالعارِ والشَّنارِ، وأسْقَطَها ما بَقِيَ على الأرضِ دَيَّارٌ. وفي المقابلِ كمْ أبرزتْ منْ قُدواتٍ حَسنةٍ، رانَ عليها غُبارُ الانهماكِ في الأعمالِ، أو طَمَرَتْها غَياهِبُ النِّسيانِ والإهمالِ، حتَّى أماطتِ ريحُ تلك المحنةِ عنها ذلكَ الغُبارَ، فكشَفَتْ عن معدنٍ أصيلٍ، وطبعٍ نبيلٍ، حيثُ وقفتْ موقفًا بطوليًّا سجَّلَهُ التَّاريخُ بحروفٍ من نورٍ، وضمَّتْ أسماءَ أصحابِها إلى مَوسوعةِ المذكورينَ إلى يوم النُّشورِ، وكأنَّ مُناديًا نزلَ مع تلك المحنةِ المزلْزِلةِ يُؤذِّنُ في النَّاسِ أنِ اخْتَارُوا إمَّا الذَّهابَ قِبَلَ اليَمينِ مَعَ الأباةِ الهُدَاةِ، أوِ الانتحاءَ جِهةَ الشِّمالِ مَعَ العُواةِ والغُواةِ والطُّغاةِ.
وأرى ذاتَ اليَمينِ على أريكةٍ من نورٍ المهندسةَ المغربيَّةَ الحُرَّةَ الأبيَّة: ابتهال أبو السعد، التي كانَ لها من اسمِها أوفى نَصيبٍ، فَكأنَّها ابتهالٌ تَرفَعُهُ ألسِنَةُ الضَّارعينَ إلى السَّماءِ، وكأنَّ السَّعْدَ ضربَ خَيمةً على بابها، وسَارَ في ركابِها، وصَارَ مِلْءَ ثِيابِها، وقدْ تخرَّجتْ في جامعةِ (هارفارد) الشَّهيرةِ، وتعملُ مُهندسةً في مجالِ الذَّكاءِ الصِّناعيِّ لدى شركةِ مايكروسوفت العملاقةِ، وهي وظيفةٌ مرموقةٌ يَغبِطُها عليها ملايينُ المهندسينَ حولَ العالمِ، وهي مَدْعاةٌ بِراتبِها الضَّخْمِ واسمِها الطنَّانِ إلى الصَّمْتِ؛ طَمَعًا في استبقاءِ هذا البابِ من أبوابِ المعاشِ والرِّياشِ، ولكنَّها في احتفالِ الشَّركةِ بمناسبةِ مُرورِ خَمسينَ عامًا على تأسيسِها، قاطَعَتِ الرَّئيسَ التَّنفيذيَّ لبرامجِ الذَّكاءِ الصَّناعيِّ في الشَّركةِ قائلةً: “عارٌ عليكَ، تزعُمُ أنَّكَ تَستخدمُ الذَّكاءَ الصِّناعيَّ من أجلِ الخيرِ، لكنَّ مايكروسوفت تَبيعُ أسلحةَ ذكاءٍ صِناعيٍّ للجيشِ الإسرائيليِّ، هناكَ خمسونَ ألفَ إنسانٍ قُتِلُوا، ومايكروسوفت تُسْهِمُ في الإبادةِ الجماعيَّةِ في مَنطِقَتِنا، أنتمْ تُجَّارُ حربٍ، أوقِفُوا استخدامَ الذَّكاءِ الصِّناعيِّ لارتكابِ الإبادةِ في مَنطقتِنا، الدَّمُ يُلطِّخُ أيديَكم، أيديَ كلِّ مايكروسوفت، كيفَ تَجرؤونَ على الاحتفالِ، عارٌ عليكمْ!”.
ولم تكتفِ بهذا الموقفِ الشُّجاعِ المنقولِ على الهواءِ، والذي رآهُ مئاتُ الملايينِ حولَ العالمِ، بلْ كتبتْ رسالةً إلى الشَّركةِ تُخاطِبُ فيها جميعَ مُوظَّفيها قائلةً: “لقدْ تعرَّضَ مُجتمعُنا العربيُّ والفلسطينيُّ والمسلمُ في مايكروسوفت للإسكاتِ والتَّرهيبِ والـمُضايقةِ والتَّشهيرِ، دونَ أيِّ عقابٍ من مايكروسوفت. وفي أحسنِ الأحوالِ، لم تَجِدْ مُحاولاتي للتحدُّثِ إليها آذانًا صاغيةً، وفي أسوأ الأحوالِ، أدَّتْ إلى فَصْلِ مُوظَّفينَ لمجرَّدِ تنظيمهمْ وقفةً احتجاجيَّةً. لم أُبَلَّغْ بأنَّ مايكروسوفت سَتبيعُ عَمَلِي للجيشِ والحكومةِ الإسرائيليَّيْنِ، بهدفِ التجسُّسِ على الصَّحفيِّينَ والأطبَّاءِ وعُمَّالِ الإغاثةِ وعائلاتٍ مدنيَّةٍ بأكملِها، تمَّ قتلُهم. لو كنتُ أعلمُ أنَّ عملي سيُساعِدُ في التجسُّسِ على المكالماتِ الهاتفيَّةِ لاستهدافِ الفِلسطينيِّين، مَا انضمَمْتُ إلى هذهِ الشَّركةِ، وما ساهمْتُ في الإبادةِ الجماعيَّةِ. أنا لم أوقِّعْ على كتابةِ شفرةٍ تنتهكُ حُقوقَ الإنسانِ”.
وقد ذكرتْ في رسالتِها أنَّ هناكَ عَقدًا بقيمةِ 133 مليون دولار بينَ الشَّركةِ ووزارةِ الدِّفاعِ الإسرائيليَّةِ لِتزويدِها ببرامجَ ذَكاءٍ صِناعيٍّ، منْ بينها تقنيَّاتٌ للتَّجَسُّسِ على صَحفيِّينَ وأطبَّاءَ، واختتمتْ رسالتَها بأسئلةٍ إلى موظَّفي الشركةِ قائلةً: بِغضِّ النَّظرِ عن مَواقِفِكمُ السِّياسيَّةِ، هل هذا هو الإرثُ الذي نُريدُ أنْ نتركَهُ وراءَنا؟ هل العملُ على أسلحةِ الذَّكاءِ الصِّناعيِّ الفتَّاكَةِ أَمرٌ يُمكِنُكمْ إخبارَ أطفالَكم عنه؟ هل نُريدُ أنْ نَكونَ على الجانبِ الخطأِ مِنَ التَّاريخِ؟
وقدْ قفَّتْ على آثارِها مُهندسةٌ هِنديَّةٌ تُسمَّى: (فانيا أجروال)، وهي ليستْ عربيَّةً ولا مُسلمةً، ولكنَّها حُرَّةٌ بطَبْعِها، تجري دِماءُ الإنسانيَّةِ في عُروقِها، وقد قامتْ بمقاطعةِ (بيل جيتس) نفسِه قائلةً: عارٌ عليكمْ جميعًا، أنتمْ مٌنافقونَ، خمسونَ ألفَ فلسطينيٍّ قُتِلُوا في غزَّةَ باستخدامِ تقنيَّاتِ مايكروسوفت، كيفَ تَجرؤُونَ؟
وقد قامتِ الشَّركةُ بفصلِهما معًا، وهو إجراءٌ مُتوقَّعٌ من شركةٍ يُسيطرُ اليَهودُ على مَفاصِلِها، وقد أدَّى هذا الموقفُ العنصريُّ الشَّائنُ -الذي يَتعارضُ مع قيمةِ حريَّةِ الرَّأي التي طالما تغنَّى بها المجتمعُ الأمريكيُّ- إلى انخفاضٍ حادٍّ في قيمةِ أسهُمِ مايكروسوفت، وحقَّقتْ خَسائرَ لم تشهدْها مُنذُ عامٍ، بينما أدَّى الموقفُ البطوليُّ مِن الحرَّتَيْنِ المغربيَّةِ والهنديَّةِ إلى ضمِّ اسمَيْهِما إلى قوائمِ الأبطالِ الجُدَراءِ بالتكريمِ، ورفْعِ ذِكْرهما فوقَ أسماءِ كثيرٍ من الرَّجالِ الذينَ تُسبَقُ أسماؤُهمْ بألقابِ التَّفخيمِ والتَّعظيمِ، وهي ألقابُ مملكةٍ في غيرِ مَوضِعِها، مما يجعَلُنا نُردِّدُ قولَ أبي الطيِّبِ المتنبِّي (ت354هـ) مع تحويرٍ يسيرٍ:
فَلَوْ كَانَ النِّسـَاءُ كَمِـثْلِ هَــذِي
لفُضِّلَتِ النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ
فَمَا التَّأْنِيثُ لِاسْمِ الشَّمْسِ عَيْبٌ
وَلَا التَّـــذْكِيرُ فَخْرٌ لِلهِلَالِ
وفي المقابلِ رأيْنا كَثيرًا من الأنذالِ، الذينَ لا نَصيبَ لهم من شَرفٍ أو مُروءةٍ، ولا حظَّ لهم من كرامةٍ أو إنسانيَّةٍ، وإنْ كانُوا في أعينِ النَّاسِ رِجالًا ذَوي هَيئاتٍ، أو مَسئولينَ ذوي حَيثيَّاتٍ، يتقدَّمُهُمْ في المشهدِ المشارِ إليهِ آنفًا مصطفى سليمان، الرَّئيسُ التَّنفيذيُّ لبرامجِ الذَّكاءِ الصِّناعيِّ في مايكروسوفت، وهو مسلمٌ بريطانيٌّ من أصلٍ سُوريٍّ، وهو يَعلمُ -أكثرَ من غيرِهِ- مَدى مَسئوليَّةِ الشَّركةِ عن تزويدِ الكِيانِ المجرمِ بأدواتِ المراقبةِ، وبتقنيَّاتٍ حديثةٍ للتعرُّفِ على وُجوهِ المقاومينَ، أو بالأحرى جميعِ الشُّرفاءِ من الفلسطينيِّين، والذَّي أدَّى -بعدما نقضَ الغَدَرَةُ الفَجَرةُ العهدَ بطبْعِهِمُ المجرمِ، وتلكَ شِنْشِنَةٌ نَعرفُها من أَخْزَم- إلى اغتيالِ عددٍ كبيرٍ من قادةِ المقاومةِ الأبرارِ، فلم يُحرِّكْهُ دينُهُ -إنْ بَقِيَ له منه شيءٌ- للذَّبِّ عن أهلِ دينِه، ولا أصلُهُ العربيُّ -الذي تخلَّى عنه- للتَّخذيلِ عن بَني قومِه، ولا إنسانيَّتُهُ -إنْ صحَّتْ له- لِيقفَ مَوقفَ الحرَّةِ الهنديَّةِ غيرِ المسلمةِ، فالشَّجاعةَ والمروءةَ والإنسانيَّةَ أشياءُ لا تُشْتَرَى، ولكنَّها للأسفِ تُبَاعُ بثمنٍ بخسٍ دراهمَ معدودةٍ، أو مناصبَ زائلةٍ، أو شُهرةٍ زائفةٍ.
ومِنْ أولئكَ الذينَ عرَّتْهُمْ هذهِ الحربُ الفاضحةُ كاهنُ الإسكندريَّةِ، الذي ضلَّ ضلالًا بعيدًا في دعواه أنَّ أهلَ غزَّةَ قرَّروا دُخولَ الحربِ مُنفردينَ، وكانَ لا بُدَّ أنْ يَكونُوا مُشاوِرِينَ، وأنَّ بيننا وبين اليهودِ ميثاقًا، هو مُعاهدةُ (كامب ديفيد)، فلا تجوزُ محاربتُهُمْ إلَّا بعدَ إعلامِهِمْ بنقضِهِ، واستدلَّ على دعواهُ بقوله تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ)، ونَسِي المذكورُ المثبورُ أنَّ أهلَ غزَّةَ كانُوا ولا يزالونَ في حربٍ مَفتوحةٍ مع عدوِّ اللهِ وعدوِّهمْ، وأنَّهمُ الوحيدونُ في هذهِ الدُّنيا الذينَ يحملونَ رايةً جِهاديَّةً صريحةً، لا دَخَنَ فيها ولا دَخَلَ، وأنَّ العدوَّ الذي يتربَّصُ بِنا وبهمُ الدَّوائرَ لم يكُفَّ يَدَهُ عنهم يومًا واحدًا، مُنذُ غُرِسَ هذا الكِيانِ السَّرطانيِّ في الأرضِ المقدَّسَةِ إلى يومِنا هذا، ثمَّ مَعَ مَنْ يَتشاوَرُون؟ وهم يَعلمون يَقينًا لا مِريةَ فيه أنَّه لَنْ يُجيبَهُمْ أحدٌ مِنَ الخاذلينَ المخذولينَ الذينَ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ القَاعِدِينَ، وهم مُوقنونَ أنَّ أيَّ مُساعدةٍ منهم ستكونُ من بابِ قولِهِ تَعالى: (لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زادُوكُمْ إِلَاّ خَبالاً وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفِتْنَةَ). وأمَّا الآيةُ المذكورةُ فقد استشهدَ بها في غيرِ سياقِها؛ إذ نزلتْ بإجماعِ المفسِّرينِ في حقِّ المسلمينَ الذينَ لم يُهاجروا لِينضمُّوا إلى جماعةِ المسلمينِ، وآثروا العيشَ في مكَّةَ بين ظَهرانَيِ المشركينَ، فلا يتحمَّلُ المسلمونَ تبعاتِهم، وليستْ في حقِّ أناسٍ يَعيشونَ في دارِ الإسلامِ، إلَّا إذا كانَ الكاهنُ يَعدُّ غزَّةَ دارَ كفرٍ! فَهُمْ قَطْعًا لا يُقيمونَ في دِيارِ المشركينَ، بل المجرمونَ هم الذينَ اغتصبوا دِيارَهم، وأخرجُوهمْ مِنْ دِيارهِمْ، وقد اتفقَ أهلُ العلمِ سلفًا وخلفًا على وجوب دَفْعِ العدوِّ الصِّائلِ، وأنَّ واجبَ الدَّفعِ يَشملُ كلَّ مُسلمٍ بحَسَبِ وُسعِهِ وطاقَتِه، وأنَّ عَجْزَ الحُكوماتِ عن القيامِ بهذا الواجبِ لِاعتباراتٍ مُختلفةٍ لا يُلغِي هذا الحكمَ الشَّرعيَّ المقرَّرَ إجماعًا، بل يَبقَى الحُكْمُ ساريًا حتَّى يَقضيَ اللهُ أمرًا كان مَفعولًا، وحَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ. ثمَّ حدِّثْني بربِّكَ متى رعى اليَهودُ العهودَ؟ فقد نَقَضُوا العهدَ مع اللهِ ورُسُلِهِ مِرارًا كما هو مُسجَّلٌ في غيرِ آيةٍ من القرآنِ الكريم، ولا يَغيبُ عن عاقلٍ ذلكَ النَّقضَ الأخيرَ لِاتفاقِ ينايرَ الماضي قبل أنْ يجفَّ المِدادُ الذي كُتِبَ بِهِ، ومِنْ قبله عَشراتُ المرَّاتِ، ومنْ حقِّ مَنْ نُقِضَ عَهْدُهُ أنْ يُباغِتَ العدوَّ كمَا باغتَ النَّبيُّ ﷺ أهلَ مَكَّةَ. وأخيرًا، لمْ يَعُدْ خَافيًا أنَّ طُوفانَ الأقصى لم تكنْ حربًا لتحريرِ الأرضِ المحتلَّةِ كلِّها، فَقَادَةُ المقاومةِ -أكثر من غيرهمْ- يَعرفونَ أنَّ هذا المطلبَ المشروعَ بَعيدُ المنالِ في الوقتِ الرَّاهنِ، وقد تمحْوَرَتْ أهدافُهمْ حولَ مُفاداةِ الأسرى، الذينَ قَضَوْا عشراتِ السَّنواتِ في سُجونِ المجرمينَ، وهو هدفٌ جِدُّ مشروعٍ، قالَ عنه ربُّنا: (وَمَا لَكُمْ لا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ القَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا)، قال الإمامُ القُرطبيُّ (ت671هـ) في تفسيرِ الآيةِ: في الآيةِ “حَضٌّ عَلَى الجِهَادِ، وَهُوَ يَتَضَمَّنُ تَخْلِيصَ الـمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ أَيْدِي الكَفَرَةِ الـمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ يَسُومُونَهُمْ سُوءَ العَذَابِ، وَيَفْتِنُونَهُمْ عَنِ الدِّينِ، فَأَوْجَبَ تَعَالَى الجِهَادَ لِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِظْهَارِ دِينِهِ، وَاسْتِنْقَاذِ الـمُؤْمِنِينَ الضُّعَفَاءِ مِنْ عِبَادِهِ، وَإِنْ كَانَ فِي ذَلِكَ تَلَفُ النُّفُوسِ، وَتَخْلِيصُ الأُسَارَى وَاجِبٌ عَلَى جَمَاعَةِ الـمُسْلِمِينَ، إِمَّا بِالقِتَالِ وَإِمَّا بِالأَمْوَالِ، وَذَلِكَ أَوْجَبُ لِكَوْنِهَا دُونَ النُّفُوسِ؛ إِذْ هِيَ أَهْوَنُ مِنْهَا. قَالَ مَالِكٌ: وَاجِبٌ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَفْدُوا الأُسَارَى بِجَمِيعِ أَمْوَالِهِمْ، وَهَذَا لَا خِلَافَ فِيهِ”. ويقيني أنَّ هذه الفتوى وما على شَاكِلَتِها من فَتاوى الخِذلانِ تلومُ الضحيَّةَ، وتتركُ الجَلَّادَ، وتُمعنُ في نقدِ العَرَضِ، وتتناسى أصلَ المرضِ، وتُحاولُ أنْ تجمِّلَ وُجوهَ المتخاذِلينَ، وتَنتحِلُ الأعذارَ للقَعَدَةِ الخَالِفينَ، فليتَ شِعْرِي، أليسَ في سُكوتِ أمثالِ هؤلاءِ استبراءٌ لِدينِهم وأعراضِهم؟ وكأنَّ اللهَ يأبى إلَّا أنْ يفضَحَ دَخَائِلهمْ، ويُظهِرَ سَخَائِمَهُمْ، لِيُردِّدَ ألوفُ الرَّاشدينَ قولَ يزيدَ بنِ مُفرِِّغٍ الحِميريِّ (ت69هـ) في حقِّ عبَّادِ بن زِيادِ بن أبيه، الذي كانَ عَظيمَ اللِّحيةِ، وقَدْ تركَهُ وجيشَهُ دُونَ عَلَفٍ لِدوابِّهمْ:
أَلَا لَيْتَ اللِّحَى كَانَتْ حَشِيشًا
فَنَعْلِفَهَا خُيُولَ الـمُسْلِمِينَا
وختامًا، فَمَا أكثرَ ما تعرَّضَ المسلمونَ لهزائمَ مُوجِعَةٍ، ولخِياناتٍ مُروِّعةٍ، لكنَّ السِّهامَ القادمَةَ من جهةِ العدوِّ الظَّاهرِ لا تُؤلمُ، بَلْ تُكسِبُ صاحبَها شرفَ الشَّهادةِ، أوْ ثوابَ الجرحِ في سبيلِ الله، وإنَّما الألمُ كلُّ الألمِ في السَّهمِ الغادرِ القادمِ من الخَلْفِ، وبخاصَّة إذا كانَ ممَّنْ تُتَوقَّعُ مِنهمُ النُّصرةُ، أو يرجَى حيادُهُم على أقلِّ تقديرٍ، وللهِ دَرُّ أبي الحسنِ بن فضَّالٍ النَّحويِّ (ت479هـ)، إذ قالَ:
وَإِخْوَانٍ حَسِبْتُهُمُ دُرُوعًا
فَكَانُوهَا، وَلَكِنْ لِلأَعَادِي
وَخِلْتُهُمُ سِهَامًا صَائِبَاتٍ
فَكَانُوهَا، وَلَكِنْ فِي فُؤَادِي
وَقَالُوا: قَدْ صَفَتْ مِنَّا قُلُوبٌ
لَقَدْ صَدَقُوا، وَلَكِنْ عَنْ وِدَادِي