أدب

ابنُ المعتزّ .. الشاعرُ الناقدُ

أبو العبّاس عبدُ الله بن المعتز ( 247 هـ – 296 هـ ) الشَّاعرُ النَّاقدُ الذي فَجعتْ به الحوادثُ الأدبَ، واخترمته يدُ الدهر قبل أن يستوفي عمرَه!

ولد في بيت الخلافة، ودرج على أرض عاصمتِها سامرّاء في عهد من أزهر عهودها؛ فسَعِدَ بالسلطان وشَقي به! سَعِدَ به إذ نشأ مكفيّاً مؤونةَ الحياة، محاطًا بخير أسبابها، يُسعى إليه،  ولا يسعى إلى أحد، وشَقي به إذ رأى الموتَ الغادر يدبُّ خفيةً، أو جهرةً إلى جدّه وأبيه وآخرين من أسرته، ثمّ يحطّ بكلكله عليه!

كان نبعا السَّعادة والشقاء يختلفان على نفسه، ويصطرعانِ فيها، وكانا يسلكان به سُبلًا متباينة؛ كانا يُقبلان به على الدرس والإفاضة فيه، والاتساع في علم العربيّة، وحفظ الشعر،  وكانا يدفعانِه، مع ذلك،  إلى الانغماس في جانب الحياة اللاهي، والتزوّد منه قبل أن ينحرف الدهر، ويجفّ النبع!

أخذ عبدُ الله بن المعتزّ العربيّة على كبار شيوخها في عصره ، وحسبك أن يكون المبرّدُ، صاحبُ الكامل، في صدارتهم؛ فعرف ظاهرها وخفيّها، وأدرك أسرارَ البيان فيها، وعلِم طرائقَ القدماء والمحدثين في الإعراب عن خلجات العقل وطوايا النفس. ولمّا كان قد نشأ على ملكة الشعر ؛ يحبّه، ويحفظه، ويروم نظمه؛  فقد زاول ذلك حتّى تمكّن منه ، وصار طوعَ لسانه يصرّفه حيث يشاء، ويقوله في شتّى أغراضه. وقد غلَبت عليه المدينةُ وحضارتها المترفة فألقت بألوانها على شعره. وإذا كان القرن الثالث الهجري قد شهد شاعرين كبيرين انتهت إليهما مقادةُ الشعر في عصرهما ؛ هما أبو تمّام، والبحتريّ؛ فإنّ ابنَ المعتزّ لا يقلّ عنهما غزارة، وتنوّعًا، وإجادة،  ولعلّه أربى عليهما حين صاغ التاريخ شعرًا بأرجوزة طويلة تروي طائفة من حوادث الدولة العبّاسيّة على نحو بارع في التصوير المبين. يقول في مورد منها:

وتاجرٍ ذي جوهرٍ ومـالِ

كان مــــن الله بحسنِ حــــالِ 

قيــل لـه عندك للسلطـانِ

ودائــــعٌ غاليــــةُ الأثمــــانِ 

فقال لا والله ما عندي لهْ

صغيرةٌ مــن ذا ولا جليـــلهْ 

وإنّما ربِحت في التجاره

ولم أكن في المال ذا خسارهْ 

فدخّنـــوه بدخـــان التبنِ

 وأوقــــدوه بثقـــــال اللبــــنِ 

حتّى إذا ملّ الحياةَ وضجِرْ 

وقال : ليت المالَ جمعاً في سقرْ 

أعطــاهم مـا طلبوا فأُطلقا

يستعمل المشي ، ويمشي العنـقا

والمورد بليغ الإفصاح عمّا بلغه الظلمُ والجور في ذلك العهد؛ فقد سجّل فيه ابنُ المعتزّ أمرًا ظلّ يتكرّر في دولة العرب المسلمين على مرّ القرون !

ومع براعته في الشعر كان بارعًا في الكتابة ، ماهرًا في الترسّل والتأليف؛ يجمع في كتابته بين غزارة المعنى وجودة الصياغة؛ وقليلٌ مثله من التقت عنده الصناعتان؛ الشعرُ والكتابة.

وكان ناقدًا؛ فقد نظر في شعر المحدثين من شعراء الدولة العباسيّة، وأراد أن يستجلي خصائصَ هذا الشعر ، وبمَ اختلف عن الشعر العربيّ في الجاهليّة، وفي صدر الإسلام؛ فألّف كتاب (البديع). وعنده أنّ البديع الذي حَلِيَ به هذا الشعر المحدث هو الاستعارة، والجناس، والمطابقة، وردّ الأعجاز على الصدور ، والمذهب الكلاميّ. وهذه أشياء – على قول ابن المعتزّ – لم يَعرَ منها الشعر القديم، ولكنّها كانت ترد فيه عفوَ الخاطر من دون أن يتقصّدها الشاعر تقصّدًا، ومن دون أن يُكثر منها إكثارًا؛ غير أنّ المحدثين أسرفوا فيها، وأفرطوا.

ولا شكّ في أنّ ذلك يدلّ على بصر بالشعر وأساليبه؛ ما كان منه على طريقة العرب الأوّلين، أو ما جاء به هؤلاء المحدثون الذين كان في طليعتهم بشّار، وأبو نواس، ثمّ مسلم، وأبو تمّام الذي بلغ الذروة في نمط البديع هذا. وكتاب (البديع)، من بعد ، يشهد لابن المعتزّ بحسن الإحاطة بقديم الشعر ، وبمحدثه ، ويشهد له بصفاء الذوق ، والمقدرة على تمييز الكلام ونقده .

وأراد أن يدوّن أخبار شعراء دولة بني العبّاس الذين اتّصلت أسبابُهم بأسباب الدولة، ورجالها فمدحوا الخلفاء والأمراء؛ فوضع كتابًا وسمه بـ (طبقات الشعراء)، بيد أنّه لم يجرِ على نهج ابن سلّام في رسم حدود الطبقة ، وإقامة معايير المفاضلة بين الشعراء،  وإنّما اكتفى منها بالمعنى الزمني وحده، أي تتابع هؤلاء الشعراء واحداً بعد الآخر ، من دون أن يفضّل أحدًا على أحد . وغايته من كتابه إيراد أخباره، وقِطَعٍ من أشعارهم. وقد اتّسم نهجه بالتحرّي ، وسعة الصدر، وحفظ الحقوق على أصحابها ، وكان ينظر إلى الشعراء المحدثين جميعًا بعين العدل والإنصاف .

لقد كان ابن المعتزّ من حسنات القرن الثالث الهجريّ؛ في الشعر، والكتابة، والتأليف، وصنع الجمال، والاحتفاء بمباهج الحياة! ولو قُدّر له أن يمتدّ به العمر لزاد في ذلك كلّه! لكنّ عمره طُوي قبل أن يستوفيه،  وذهبت به الحوادث!

أراد ابن المعتزّ لحياته ، وقد شهد مصرع جدّه وأبيه وغيرهما من أسرته ، أن تكون بمنأى عن السياسة وحوادثها ، وأن يجعلها مقصورةً على الأدب يقرؤه ويُنشئه، وعلى جانب من اللهو البهيج ينسى به ما يكتنفه من آلام لا مدفع لها؛ ولكنّ الأقدار تجري على رغم إرادة البشر ، ويُساق المرء إلى ما كُتب عليه ! كانت الدولة العباسيّة قد دخلت طوراً من أطوار ضعفها، وكانت المقادةُ العليا فيها قد أُسلمت إلى الترك ؛ يعزلون وينصبون على مشيئتهم ، ويسومون الخلفاء الذلَّ والهوان، ويوردونهم مورد الموت حين يشاؤون . وكان من ذلك أن ثارت فئة من فئات الحكم بالخليفة المقتدر فعزلته، وجاءت لعبد الله بن المعتزّ تريده أن يكون الخليفة ، وتحمله على الأمر حملًا، حتّى إذا قَبِل، ودخل قصر الخلافة ، ثار به غِلمان المقتدر ، فأنزلوه من كرسيّها، وأوردوه حتفه ، وجاؤوا بصاحبهم!

وكانت خلافته مضربَ المثل في قِصَر مدتها، وسرعة زوالها؛ على فضله السابغ في العلم والأدب؛ بل إنّ من رثاه لم يجد عِلّةً لنكبته غيرَ حرفة الأدب:

لله درُّكَ من ميْتٍ بمضيعةٍ

ناهيك في العلم والآداب والحسبِ 

ما فيه لوٌّ ولا ليتٌ فتنقُصه

وإنّمـــا أدركتْــــه حِـــرفــةُ الأدبِ

لقد جارت السياسة على الأدب إذ قتلت ابنَ المعتزّ ، وأخلتِ الساحةَ منه ؛ وكم لها من جور …!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى