أدبترجمات

الأستاذ في جامعة يورك البريطانية الدكتور أحمد خليل البحر: في حوار مع حكمة يمانية

ترجمتُ لشعراء من الشَّرق والغرب ويهمني أن يعلمَ القارئ لترجمتي أنَّ ما يقرأه شعر، يهتزُّ له الوجدان طربًا وليسَ شيئًا آخر
1 e1673634279663 الأستاذ في جامعة يورك البريطانية الدكتور أحمد خليل البحر: في حوار مع حكمة يمانية
د.أحمد خليل البحر
أستاذٌ جامعيٌّ

خاص – حكمة يمانية

الدكتور أحمد خليل البحر، أستاذٌ جامعيٌّ عراقي، يعمل أستاذًا مشاركًا في قسم اللسانيات وعلم اللغة بجامعة يورك، بالمملكة المتَّحدة، متخصصٌ في الأدبِ العربي، ومهتمٌّ بترجمةِ ما تُسْتعصى ترجمته translating untranstable مثل النُّصوص الدِّينية والشِّعرية. حائزٌ على جائزةِ يورك العليا ، 2012، والفائز في بي بي سي عربي في القصَّة القصيرة جدًّا ، أبريل 2009. تم اختياره رئيسًا لمنظمة أمناء مدينة يورك (2020-2021)، ومؤخرًا اُنتخِبَ عضوًا/سيناتور في مجلس رئاسة جامعة يورك/مجلس الشيوخ. له اهتماماتٌ أدبيةٌ ومعرفيَّة واسعة، وصدرت له العديد من المؤلفاتِ والتَّرجمات باللغتيْنِ العربيَّة والإنجليزيَّة.
أحمد خليل البحر 1 e1673620112211 الأستاذ في جامعة يورك البريطانية الدكتور أحمد خليل البحر: في حوار مع حكمة يمانية
تميزت كتاباته بالرَّصانة، واجترحَ حقل الترجمة، فترجمَ لكبار شعراءِ الشَّرق والغرب، وترجمةُ الشِّعر عملٌ شاق، يفرُّ منها كثير من المشتغلينَ بالترجمات، لكنَّ البحرَ ترجَمَ ما تُسْتعصى ترجمته، وقال بثقةٍ عالية: يهمُّني أن يعلمَ القارئ لترجمتي أن ما يقرأه شعر، بل وشعر جيِّد يهتزُّ له الوجدان طرَبًا وليسَ شيئًا آخر. وهذه ثقةٌ محمودةٌ في مقامِ الإعلاءِ من شأنِ البيان.
عن تجربته الثَّرية في الأدبِ والشِّعر والترجمة، كانَ هذا اللقاء، ليكشفَ اللثام عن مبدعٍ عربيٍّ أصيلٍ في بلادٍ بعيدة، وقد تفضَّل بتواضعٍ جم، بالإجابة عن أسئلتنا بعبارةٍ مكثَّفة، تُنْبي عن معان مزدحمة خلفَ الأسطر، فإلى نصِّ الحوار:

عرَّفَ أحدهم الشِّعر بأنَّه "النَّص الذي لا يُترجَم"، لماذا؟

برأيي لا يمكن الجزم بهذا الأمر ولايصحُّ كذلك. للشِّعر تعريفاتٌ كثيرة، أبسطها تعريف النَّاقد الأنكلو-أمريكي ويستن أودن بأنه memorable speech أي كلام يعلق في الذِّهن. أمَّا تعريف الشِّعر بأنه نصٌّ لا يُترجَم، فهو تعريفٌ يتناقضُ مع نفسه، فإذا كان الشِّعر لا يُترجَم، كيف يكون نصًّا إذًا؟ وإذا كان لا يُترجَم، فذلك قد يعني أنه لا يُفهَم! الشعر والترجمة كلاهما نتاج للعقلِ البشري وكلاهما يجمعُ بين الموهبة والممارسة والمعرفة. وإذا كان الشعر بابًا فإنَّ الترجمة مفتاحه، لكن لكلِّ باب مفتاحه الخاص به، فمفتاح باب البيت مثلًا لا يصلح مفتاحًا للسيَّارة، وكذلك الحال مع الشِّعر.
الأستاذ في جامعة يورك البريطانية الدكتور أحمد خليل البحر: في حوار مع حكمة يمانية

إذا كانت الترجمة هي إيصال مراد الكاتب، فلماذا نعجز عن ترجمة النَّص الدِّيني أو الشِّعر؟ وإن كنَّا قد أوصلنا المعنى، فما الذي فُقِد في طريق التَّرجمة؟

ما يسمى عجزًا هو في الحقيقة غياب للأدوات التي تصلحُ لترجمة النَّص الدِّيني أو الأدبي. وأهم هذه الأدوات هي المترجم نفسه. فالذي يتصدَّر لترجمة الشِّعر مثلًا، لا بدَّ أن يمتلك الموهبة والخبرة والمعرفة الضرورية بحيث يكون قادرًا على صنعِ قالب يصبُّ فيه المحتوى ليصبحَ نصًّا لا يقلُّ عن النَّصِّ الأصلي شأنًا من ناحية المعنى والبلاغة والجمال. ونجاح تلك الترجمة أو هذه أمرٌ نسبي، فقد ينتج المترجم نصًّا أقل من النَّص الأصلي وقد ينتج نصًّا أجمل من النَّص الأصلي وهذا وارد كما ذكر الجاحظ في مقالته عن الترجمة إلى العربية. وذلك يعود كما أسلفنا إلى جودة المترجم نفسه وهؤلاء اليوم عملة نادرة.

بعض أصدقائي غير العرب إذا تكلموا عن شعر حافظ يكادون يرقصون طربًا إذا سمعوا شعر حافظ، وحين قرأته مترجمًا لم أجد مثل ذلك الأثر؟

هل تقصد شاعر النِّيل؟ أنا أدرِّس الأدب في بريطانيا منذ 2012 في جامعة يورك ولم أعثر على إنجليزي واحد يرقص طربًا على أشعار ملتون وبوب وتنيسون، فما بالك بأشعار حافظ ابراهيم مترجمة!! هذا عجيب.. لكن كل شيء وارد مع ذلك.
اللغة العربية لغة رصينة وقوية وهي كما أخبر الجاحظ “تضام اللغات الأخرى في حضرتها”، ومع ذلك فقد تكون تلك الترجمة ضعيفة أو قد تكون جيدة لكن القارئ لم يصل في اللغة الإنجليزية حدًّا يمكن معه تذوق العناصر البلاغية والجمالية في النصوص الأدبية، خصوصًا المترجمة منها.
230222 york الأستاذ في جامعة يورك البريطانية الدكتور أحمد خليل البحر: في حوار مع حكمة يمانية

هل تحتاج ثقافة أن تنقل إلى ثقافة أخرى معانٍ/ مفاهيم/ نصوص هي من صُلب بنيتها الثقافية والعقدية؟ في سبيل ماذا هذا العناء؟

العامل الثقافي لا يقلُّ أهمية عنِ العناصر الأخرى الواجب نقلها في عمليةِ الترجمة. وإهمال الجانب الثقافي أحد أسباب ضعف الترجمة وركاكتها. وتكمن المعضلة في هذا الأمر في الاختلافات الثقافية التي تحتاج إلى تفسير وشرح .. وهذا لا بأس به في النصوص العادية. أمَّا في النص الشعري فإنَّ الشرح والتفسير لا يصلحان لأنهما يؤديان إلى استنزاف القالب وبالتَّالي ترهل النَّص. وهنا يأتي دور المترجم كذلك. فبراعته ومعرفته تلعبان دورًا محوريًّا في ترجمة الثقافة، إما لغويًّا وبلاغيًّا أو عن طريق استعارة محلية قريبة إن لم تكن مماثلة. وهنا أستطيع أن أضرب لك مثالًا لكل منهما من أعمالي الشخصية.
الأولى (مثال على الاكتفاء بالمقدرة اللغوية) ترجمة لمرثية شكسبير التي كتبها بنفسه كي توضع على قبره:

Good friend for Jesus’ sake forbear,
To dig the dust enclosed here.
Blessed be the man that spares these stones,
And cursed be he that moves my bones.

أقسمتُ يا صاح أن تمتنع
عن نبش قبري وأن ترتدع

أبارك من زارني بسلام
 وألعنُ من مسَّ هذي العظام

والثانية وهي لتينيسون، كمثال على الاستعارة من الثقافة المحلية:

“I hold it true, whate’er befall;
I feel it when I sorrow most;
‘Tis better to have loved and lost
Than never to have loved at all.”

حـقيقة سـوف تبــقى دونما وَهَنِ
 أحسها حين يشقى القلب بالحَزَنِ

إن كان ضيمك مـن هــجرٍ ألم به
 فكيف حال الذي ما مر بالشجنِ

وفي المثال الثاني اقتضت الضرورة أن تتم استعارة صور محلية (دونما وهن، يشقى القلب بالحزن ، ما مر بالشجن) لإيصال المعنى بحرفية لا تضيع معها العناصر الجمالية والبلاغية والثقافية، بل على العكس فهي تؤدي الغرض المطلوب بحصول النشوة بالنَّص لدى القارئ حال قراءته للترجمة تمامًا كما تحصل لقارئ النَّص بالإنجليزية. وكما أسلفنا فإنَّ ذلك يعود لنوعية المترجم.
رشد الأستاذ في جامعة يورك البريطانية الدكتور أحمد خليل البحر: في حوار مع حكمة يمانية

لماذا عجز ابن رشد عن إصابة ترجمة "التراجيديا" و "الكوميديا"، أهو الانفصال الحضاري، أيمكن لهذا الانفصال أن يجافي المعنى؟

لا أعتقد أنه انفصال حضاري. أنا في الحقيقة غير ملم بهذا الموضوع بشكل واف، لكنني أعتقد أن الأمر ليس سوى معرفة لم تصل لابن رشد في حينها. ذلك زمان كان الرجل فيه يسافر شهورًا ليسمع حديثًا واحدًا أو يتأكد من معلومة، وبالطبع لم تكن الثقافات والمعارف متبادلة كما هي اليوم ولم يكن الحصول على العلم يسيرًا كما هو الحال في أيامنا.

يبدو لي أنَّ المترجم يحمل قالب ثلج من بلد إلى بلد، فما إن يبلغ البلد الثاني إلا وقد ذاب منه شيء، ما هذا الذي يذوب؟

نعم أتفق معك في أنَّ المترجم يحمل قالب ثلج، لكنني أنظر إلى الترجمة على أنها عملية إذابة كاملة للقالب ثم إعادة تجميده في قالبٍ جديد. وقد يكون ذلك القالب مشابهًا للقالبِ القديم أو مختلفًا لكن في كل الأحوال لابدَّ أن يكونَ جميلًا ومميزًا. أما ما قد يضيع في تلك العملية فلا يمكن التكهن بما يضيع أولًا، فهناك مترجم يبرز المعنى ويهمل القالب وهناك من يفعل العكس.. لكننا هنا نتكلم عن ترجمة الشعر والأدب وغيرهما من النُّصوص الرفيعة .. وهنا لا يتسع المجال إلا لمترجم يتقن هذا الفن. فالرفيع لا يصلح للرقيع والعكسُ صحيح.

ترجمتَ للمتنبي، ولمظفر النواب، ما هي تقنيات الترجمة الشعرية؟

نعم، ترجمتُ للمتنبي وطرفة والجواهري وعبد الرزَّاق عبد الواحد والسياب وغيرهم. وترجمتُ من الشعر الانكليزي لشكسبير وأودن وتينيسون وبوب ووردزورث وغيرهم. الأهم عندي أن يعلم القارئ لترجمتي أن ما يقرأه شعر، بل وشعر جيِّد يهتزُّ له الوجدان طربًا وليسَ شيئًا آخر.

عمِلت في مكتبات شارع المتنبي في بغداد، حدّثنا عن التجربة.

نعم، عملت. لكن الكتابة عن تلكم الأيام الجميلة في الغربة أمرٌ صعبٌ مرُّ المذاق. ربما يكون الحديث عنها أسهل من الكتابة.. فاعذروني.
الأستاذ في جامعة يورك البريطانية الدكتور أحمد خليل البحر: في حوار مع حكمة يمانية

أخيرًا: هل لك أن تتحفنا بنماذج من ترجماتك للشعر باللغتينِ العربية والإنجليزية؟

أتعلمينَ أيَّ حُزْنٍ يبعثُ المَطَر ؟
 وَكَيْفَ تَنْشج المزاريبُ إذا انْهَمَر ؟
 وكيفَ يَشْعُرُ الوَحِيدُ فِيهِ بِالضّيَاعِ ؟

بِلا انْتِهَاءٍ – كَالدَّمِ الْمُرَاقِ ، كَالْجِياع ،
 كَالْحُبِّ ، كَالأطْفَالِ ، كَالْمَوْتَى – هُوَ الْمَطَر !

Do you know what grief in the rain, lies deep?
And how gutters, when they whimper weep;
And how, in the rain, the lonely feels lost
 Forever, like the hungry – like spilled blood,
 Like love, children and the dead, the rain is..
 Assayyab (iraqi poet)
 Translated by Ahmed Khaleel

وهذه مقطوعة للشَّاعر ويليام وردزورث:

رأيتُ نفسي في الأعالي سابحًا
 كسحابةٍ طافت على الآكام
فكأنني أبصرت تبرًا لامعًا
 من نرجسٍ متزاحم الآجام
 عند البحيرة تحت ظل شجيرة
 يلهو ويمرح في شذا الأنسامِ

I wandered lonely as a cloud
 That floats on high o’er vales and hills,
 When all at once I saw a crowd,
 A host of golden daffodils;
 Beside the lake, beneath the trees,
 Fluttering and dancing in the breeze. (William Wordsworth: translated by Ahmed Khaleel)

وأختم بهذه المقطوعة للشاعر الفريد تينيسون:

ويطوف بي حلمي، وأسأل من أنا؟
 كالطفل يصرخ في الدجى
 كالطفل ينتظر الضيا
 ومن اللغات جميعها
 لم يحترف غير البكا

So runs my dream, but what I am?
 An infant crying in the night
 An infant crying for the light
 And with no language but a cry
 Alfred Lord Tennyson, In Memoriam (translated by Ahmed Khaleel)

لعلي أكتفي بهذه النَّماذج، وغيرها كثير، ومن أراد النَّظر في بعضِ التَّرجمات يستطيع أن يرجعَ إليها في مظانِّها، فهي منشورةٌ في بعضِ كتبي وأبحاثي ومقالاتي.

د.أحمد خليل البحر

الدكتور أحمد خليل البحر، أستاذٌ جامعيٌّ عراقي، يعمل أستاذًا مشاركًا في قسم اللسانيات وعلم اللغة بجامعة يورك، بالمملكة المتَّحدة، متخصصٌ في الأدبِ العربي، ومهتمٌّ بترجمةِ ما تُسْتعصى ترجمته translating untranstable مثل النُّصوص الدِّينية والشِّعرية.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لله درك يادكتور البحر .. لقد أثبت أن اللغة العربية جبارة، لدرجة ان الترجمة الى العربية افضل من النص الاصلي واجمل. خسارة أن يبقى مثلك في المنافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى