أدب

البحث عن سندريلا

أخذ كرسيًّا ونأى بنفسه بعيدًا عن المحتشدين في ملعب المدرسة الذين كانوا يتابعون مباراة للكرة الطائرة بين طلاب المدرسة ومعهم عدد من المعلمين. ومن مكانه الذي اختاره للجلوس وحيدًا راح (عبد الواسع البواب) يراقب مجريات اللعب ظاهريًّا وباطنه مشغول، عاقدًا ساعديه فوق صدره علامة الضجر، وقد تجهم وجهه المكتنز المختفي وراء نظارته السوداء الكبيرة، وزمّ شفتيه كما هي عادته عندما يستولي عليه الغضب الذي يثير الرعب في نفوس التلاميذ.

كانت هذه الحالة غير معهودة من (عبد الواسع) في مثل هذا الوقت من كل يوم اعتاد فيه أن يكون مشاركًا في المباريات الرياضية التي يعشقها.. وكانت مشاركته محبوبة من الجميع لما يضيفه وجوده وصراخه وتعليقاته الضاحكة عندما يحرز هدفًا والغاضبة عندما ينهزم من أجواء مرحة في الملعب، لكنه اليوم نأى بنفسه عن كل ذلك، وغرقت أفكاره في بحرٍ عميق من الضياع كان لامرأة عجوز في الحافلة التي أقلته من منزله البعيد إلى المدرسة دور في هذه الحالة البائسة التي اعترته.. والذي حدث أنَّ العجوز التي كانت تجلس في المقعد المجاور طلبت منه أن يساعدها على النزول من الحافلة فهرع إليها مرحبًا كعادته في تقديم العون لمن يطلبه منه، وعندما كانت المرأة العجوز تستند إلى ذراعه دعت له بصوتٍ رحيم:

– الله يحفظك أنت وزوجتك وأولادك، ويجعلك تعيش حتى ترى أحفادك!

ولا يدري ما الذي جعله لا يردد كلمة (آمين) المعهودة منه في مثل هذه الحالات، وللمرة الأولى وجد نفسه يقول:

– على مهلك يا حجة.. فأنا لم أتزوج بعد!

وفاجأته العجوز وهي تستقر على الأرض خارج الحافلة ويدها تلطم خدها برفق:

– ما زلت أعزب.. الله يهديك يا ولدي.. الشيب غزا شعرك وعمرك كبير.. هل ستقيم حفل زفافك وأنت على حافة القبر!

كانت كلمات مثل الرصاص استقرت في قلبه: شعر أشيب.. وسن كبيرة ولم يتزوج بعد، حفل زفافك سيكون على حافة القبر! عاد إلى مقعده في الحافلة وهو يشعر بالحرج الشديد خشية أن يكون الركاب قد سمعوا كلام العجوز، وواصلت الحافلة سيرها وهو في شبه غيبوبة عن المناظر الجميلة التي تحف الطريق وكان يراوح عينيه بينها معجبا كل يوم وكأنه يراها للمرة الأولى! ونزل من الحافلة في محطة الوصول وكأنه مريض على وشك دخول غرفة العمليات، وأكمل طريقه إلى المدرسة ورأسه غارق في صداع مخيف جعله ساهما غير متنبه للذين كانوا يحيونه باحترام كالعادة أثناء سيره في الشوارع، وكان هو يحرص على رد تحيتهم بود، وربما توقف للحديث مع بعضهم وتبادل التعليقات الضاحكة على شؤون الحياة والناس! وعندما دخل ملعب المدرسة لم يجد في نفسه رغبة في المشاركة مع زملائه المدرسين والطلاب، وفضل النأي بنفسه وأفكاره عنهم وعن صياحهم وضحكاتهم!

أشار بيده لأصدقائه الذين دعوه للمشاركة في اللعب؛ أن يتركوه في حاله موهماً إياهم أنه مصاب بصداع.. فتركوه وانغمسوا في رياضتهم، وعاد هو إلى أفكاره وكلام العجوز الذي قلب كيانه رأسا على عقب، وحول رأسه إلى ورشة حدادة لا تكف فيها المطارق عن الدق.. وراح يتفحص زملاءه المعلمين الموجودين في الملعب فوجد أنهم كلهم قد تزوجوا وجلهم أصغر منه سنا، وصار لديهم أولاد وعائلات، حتى (أحمد البهلول) آخر من صمد معه؛ وكان سلوته في العزوبية؛ تزوج قبل عامين فيما وصفه يومها بأنها خيانة وطعنة في الظهر.. وبقي هو أشهر عزاب المدينة يشارك في أعراس معارفه وأصدقائه بحماس منقطع النظير، ويخدم أصدقاءه في أفراحهم عندما يرزقون الذرية، ويلاعب أطفالهم بحماس وحب لا يعرفه هؤلاء من آبائهم.. حتى تنبأ له أحد أساتذته الكبار أنه سيكون أبا مثاليا وزوجا ناجحا، وامتلأ قلبه يومها بالسعادة قبل أن تتبخر وهو يتذكر أن زواجه تحول إلى مشكلة عويصة بسبب شروطه المتشددة في المواصفات التي لا بد أن تتوفر في سعيدة الحظ التي سيقع اختياره عليها لتصير زوجا له!ش

البحث عن سندريلا

❃❃❃

قبل زمن عندما تخطى الثلاثين من عمره واجه (عبد الواسع) حصارا من شقيقاته وهن يطالبنه بحسم أمر زواجه، وتخفيف شروطه المعجزة في الفتاة التي يريدها زوجة له: شابة لا تتعدى العشرين، قوام ممشوق كالغزال، بشرة بيضاء كاللبن، عينان كعيون المها، شعر طويل فاحم كالليل يصل إلى الكعبين أو على الأقل إلى الركبتين.. باختصار جملة مواصفات لا يقرأ الناس عنها إلا في قصص ألف ليلة وليلة، وسندريلا، وقطر الندى، وورقة الحنّا، ولا يشاهدون مثلها إلا في الأحلام وأفلام السينما!

وكعادته في مثل هذه المحاكمات -كما يسميها- واجه شقيقاته بوجه عنيد وابتسامة باردة، ودعا بنظرة والدته أن تتولى الرد عليهن بما عرف عنها أنها هي التي أسست لهذه المواصفات النادرة التي يستحقها ولدها الوحيد في زوجة المستقبل:

– ابني يستحق بنتاً صغيرة، وديعة كالقطة، رشيقة كالغزال، بيضاء إذا شربت الفيمتو رآه الناظر وهو ينزل في عنقها.. جفون عينيها طويلة كالأصابع.. وشعرها مثل تلك الممثلة المصرية.. ما اسمها؟!

لم ينتج شيء ذو بال من محاكمة ذلك اليوم الذي دخل فيه العقد الرابع من عمره.. وازداد هو إصراراً على التمسك بشروطه، لكن السنين تتابعت لا تعيره اهتماما، والعمر تراكم في رصيده وحتى في جسده الذي امتلأ بالشحوم، وشعر رأسه الذي تساقطت مقدمته وتراجع ما تبقى منه إلى الخلف والجانبين كاشفا عن سنه الحقيقية.. ولم يجد هو الزوجة بالمواصفات المطلوبة. وها هو اليوم تجاوز عامه الأربعين والحال كما هو لم يتغير فيه شيء: توفيت والدته وهي تدعو له بدعائها التاريخي أن يرزقه الله بعروس قوامها كالسيف، وبشرتها كاللبن، وعيناها كعيني المها، وشعرها أسود من الليل وأطول من شعر الممثلة المصرية التي رأتها يوماً في أحد الأفلام.. وأما شقيقاته فقد يئسن منه، وكانت آخر نصائحهن له أن يتواضع قليلاً في شروطه وإلا ندم في الأخير.. أو على حد تعبير شقيقته (نسيم) الشهيرة بلسانها الطويل:

– حتى المحلات والدكاكين والباعة المتجولين يضطرون لعمل تخفيضات كبيرة في الأسعار لتصريف البضائع.. وأنت جامد على شروطك دون فائدة.. هل تنتظر أن يتمكن العلم من اختراع جهاز لصنع العرائس وفق أمزجة الرجال؟ كل إنسان رجلاً أو امرأة لا يخلو من العيوب والميزات.. ولو تستمر جامداً على شروطك فلا أمل لديك إلا بحورية في الجنة.. هذا إن دخلت الجنة!

لكن أقسى عبارة سمعها منها في نهاية تلك الجلسة أصابته في القلب عندما لمزت سنه الكبير الذي لا يتناسب مع شروطه:

– شخصيا ورغم أنك شقيقي الحبيب والوحيد إلا أنني لو وجدت فتاة بالمواصفات التي تشترطها فولدي (كمال) أحق بها منك فهو على الأقل من جيلها وليس من جيل آبائها!

ورغم ذلك لم تزده تلك الكلمات إلا عنادا وتمسكا بالمواصفات المطلوبة لفتاة الأحلام، ومن يومها امتنع عن مناقشة الأمر مع شقيقاته ولا سيما بعد أن توفيت والدته.

لا يعني كل ما سبق أن (عبد الواسع) كان بلا محاولات جادة للزواج؛ لكنه اصطدم في مقتبل شبابه بمشكلة المواصفات التي يريدها.. وفي حالات أخرى كانت خطوات الزواج تفشل في بداياتها عندما يكتشف شيئاً ما في الفتاة المرشحة لا يعجبه فيها.. وفي بعض الأحيان كان هناك خوف باطني يتملكه فجأة ويجعله ينصرف عن الزواج نهائياً في المراحل الأخيرة عندما يتشكك في صفة ما! ولم تنفع معه نصائح أصدقائه المتزوجين قبله ألا يحرص على كل شيء فيخسر كل شيء. ولجأ يوما إلى أستاذه (مختار العامري) كبير المعلمين في المدرسة الذي استمع إليه بهدوء وهو يحتسي الشاهي متلذذا به قبل أن يقول له:

– أنت لا تبحث عن امرأة تكون زوجا لك.. أنت تبحث عن جملة نساء في شخص امرأة واحدة، وهذا شيء نادر جدا إن لم يكن مستحيلا.. يا صديقي العزيز حالتك هذه ليست فريدة فرجال كثيرون مثلك تتملكهم أوهام ست الحسن والجمال التي يقرأون عنها في الروايات أو يشاهدونها في السينما وتتسبب لهم بعقدة يمكن أن نطلق عليها: عقدة سندريلا!

جادل (عبد الواسع) أستاذه الخبير بشؤون الحياة: 

– لكن أليس من حقي أن أحلم أن تكون زوجتي على شاكلة سندريلا؟

– يا حبيبي نحن نعيش في الأرض وليس في الجنة، ولا تصدق كل ما تقرأه؛ فسندريلا نفسها مجرد خيال واحد مثلك كان يعيش في الأوهام ويبحث عن المستحيل.. وحتى الممثلات الجميلات اللائي نشاهدهنّ في السينما والتلفزيون فالواحدة منهم لا تظهر إلا وقد صنعت عاملات المكياج معجزات في وجهها! هل تظن أنهنّ خلقن هكذا؟ 

واختتم كبير المعلمين محاضرته التي كانت صادمة له ولأحلامه: 

– تذكر فقط لو أن كل واحد أصر على مثل هذه الشروط فلن نجد تلاميذ ندرسهم ونقبض من تعليمهم مرتباتنا.. ولا تنس أن الرجال أنفسهم ليسوا كلهم عبد الحليم كاظم الساهر، ولو تمسكت النساء من ناحيتهن بشروط مماثلة فالغالب أنك وأنا معك وغيرنا لم نكن لنولد في هذه الحياة! وهل تظن أن كل الرجال والنساء وجدوا غايتهم وحققوا أحلام المراهقة؟ توكل على الله يا بني وتزوج ولن تخسر على مذهب سقراط (وأضاف ضاحكا).. هل تعلم بماذا نصح تلميذه الذي جاءه يستشيره في أمر زواجه مبديا له تخوفات شبيهة بما لديك؟ 

رفع (عبد الواسع) رأسه بانتظار سماع ما قاله سقراط.. واستطرد (مختار): 

– قال له: تزوج يا بني.. فإن توفقت بامرأة كما تهوى عشت سعيدا.. وإن كانت على غير ذلك فستصير فيلسوفا مثلي!

ثم أضاف وهو يضحك بشدة: 

– وبالبلدي.. تزوج يا (عبد الواسع).. فإن وجدت ما تهوى عشت سعيدا.. وإلا فستصير.. كبير المعلمين! 

وخضع يوماً لإلحاح والدته فذهب لزيارة شيخ المسجد الكبير وعرض عليه حالته المستعصية؛ فأجابه هذا بموعظة دينية عن المرأة الصالحة زينة الحياة الدنيا؛ فلم يقتنع قلبه طبعا بالكلام، وتركه متبرماً بعد أن ظن أن (الشيخ) سيمنحه الدواء في غمضة عين!

❃❃❃

أمام رجل البحث عن سندريلا

انتبه (عبد الواسع) على صوت زميله (أحمد البهلول) مدرس الرياضيات الذي كان مثله من جماعة (عقدة سندريلا) قبل أن يفاجئهم يوما بزواجه بعد أن تنازل عن معظم شروط شلة (سندريلا) مقتنعا بأن البركة في الحاصل:

– مالك اليوم هكذا.. ذكرتني بالذي مضى.. لو كنت متزوجا لقلت أنك تشاجرت مع زوجتك قبل أن تأتي!

لم يفهم ماذا يقصد زميله بالكلام.. وتنبه إلى أن الذين كانوا يلعبون قد انصرفوا ولم يبق إلا هو وهذا الذي جاء ينكأ له الجراح ويعرف أسراره.. واكتفى بأن رفع رأسه نحو زميله متيقنا أنه سيفهم ما حل به عندما يرى وجهه التعيس!

– هل عقدوا لك اليوم محاكمة في البيت؟ 

– انتهى عهد المحاكمات.. يئس الجميع مني وأنا لم أيأس بعد! 

– هل تمر في مرحلة خطوبة جديدة ومطلوب منك اتخاذ قرار لا يناسبك؟ 

– لا.. كل ما في الأمر أن امرأة عجوزا صفعتني اليوم أمام الناس و.. 

انفجر البهلول بصوت كالصراخ: 

– عجوز صفعتك.. لماذا؟ هل طلبت منها الزواج؟ (مضيفا بنبرة ساخرة) ربما انتقدت شعرها الذي يصل للكتفين فقط أو كانت عيناها كعينيّ مها لكن فوق.. السبعين؟

– أنت رجل مرتاح.. كيف أطلب من عجوز الزواج وأنا أرفض الزواج ممن هن في سن حفيداتها إن لم تتوفر شروطي؟ هل تحسبني مثل الخونة الذين تعرفهم؟

تجاوز الصديق المتزوج رد صديقه العازب بالغ السخرية منه، وقال مستسلما: 

– ماذا حصل إذا؟ أرحني الله يرزقك بالسندريلا ولو في الأحلام! 

وقص (عبد الواسع) ما حدث له مع عجوز الحافلة.. وختم حكايته قائلا: 

– وبهذه الصورة سوف أصير ملطشة للعجائز إن لم تحل مشكلتي! 

أسند (البهلول) رأسه على يديه الموضوعتين على حافة المقعد الذي جلس عليه بالمقلوب، وراح يتكلم مثل الحكماء: 

– اسمع يا صاحبي.. لا بد من حل جذري لمشكلتك.. شخصيا لا أزعم أنني حزت السعادة كلها، فلا زلت أحيانا أسقط في بئر الأحلام القديمة عن سندريلا، وتضيق نفسي من كل شيء لكنني اكتشفت صحة المعادلة التي قامت عليها الدنيا أنها خير وشر، وسعادة وشقاء في وقت واحد.. وكل شيء له ضريبة: تعطيك من جهة وتأخذ منك من جهة ثانية، وليس أمامك إلا أن تتنازل عن بعض شروطك المجحفة وتقبل بالزواج بالحاصل!

– بالحاصل؟ 

صرخ البواب في وجه صديقه وهو يشيح بيده في وجهه وكأنه يقول: هيهات مني الاستسلام.. صبرت كل هذه السنين لتكون نهايتي.. الحاصل! 

انتظر (الكشي) حتى هدأ صديقه ثم قال:

– لن تجد صادقا معك مثلي وأنت تؤمن بذلك.. وصدقني فلا تزال أمامك فرصة كبيرة لكنها قد تكون الأخيرة.. لا أطلب منك التنازل عن كل الشروط لكن كن مرنا بعض الشيء.. مثلا: شرط السن لم يعد ضروريا.. أنت الآن تجاوزت الأربعين فتحتاج امرأة فوق الثلاثين، وصدقني ستهتم بك وتفهمك أكثر من تلك التي لم تتجاوز العشرين والخامسة والعشرين.. الشعر الطويل الأسود كالليل لم يعد موضة عند النساء هذه الأيام فالمحبب لديهن قص الشعر حتى الكتفين فقط.. ولعلمك معظم الشبان من أهل الموضة هم الذين يطلقون شعورهم – وليس النساء- حتى يصل إلى منتصف الظهر!

استمع (البواب) لكلام صديقه باهتمام عبر عنه بعدم التشاغل عنه، والتحديق فيه بوجه مغلف بالمسكنة والاستسلام، وفهم (البهلول) التحول الذي بدأ يحدث في ذهن صديقه فراح يطرق الحديد وهو ساخن:

– خلاص نبدأ من اليوم.. وواثق أننا سنحصل على المطلوب بسرعة.. كلها مسألة أيام ونحتفل بخطوبتك.. نقول: بسم الله الرحمن الرحيم؟

هز (عبد الواسع) رأسه موافقا وكأنه يوقع على قرار بإعدامه، وخطرت بباله فورا صورة شقيقته (نسيم)، وراح يتخيل ماذا ستكون ردة فعلها عندما تعلم بتنازلاته هذه!

غارق في التفكير البحث عن سندريلا

❃❃❃

لم تتحقق وعود (أحمد البهلول) لصديقه العازب بالعثور على زوجة بالمواصفات الجديدة المعدلة بالسرعة التي تنبأ له بها، ومرت شهور دون فائدة، وأيقن الرجلان أن المسألة أعقد بكثير مما توقعاها، وعندما طلب (البهلول) لقاء خاصا مع (عبد الواسع) أيقن هذا أنه مقبل على سماع أخبار مفزعة، واستعراض خيارات مؤلمة، وربما تقديم تنازلات جديدة.. وعقد العزم على التمسك بما تبقى من شروطه ولو دفع الثمن أن يظل أعزب طوال حياته!

جلس الصديقان في سيارة (البهلول) صامتين أمام خلاء هادئ حيث اتفقا على اللقاء، وابتسم (البهلول) سرا وهو يحدث نفسه أن اختياره لهذا المكان لا تفسير له عند صديقه إلا أنه من باب تسهيل عملية انتحاره إن رأى أن الفشل ما يزال يلاحقه، وراح يحك رأسه باحثا عن نقطة مناسبة يبدأ منها الحديث، وفكر أن يدلي إليه بنكتة الانتحار تلطيفا للأجواء، وقبل أن يقرر بادره الآخر هازئا:

– هذه نتيجة التنازل عن المبادئ.. لم أستفد شيئا من مصير العرب الذين تنازلوا لإسرائيل.. إلى متى ستظل صامتا؟ لا عليك.. تكلم.. هات التنازلات الجديدة المطلوبة.. هل سأكون أفضل من السياسيين؟

ابتسم (البهلول) رغما عن حالته الحرجة، وتقمص هيئة الحكماء من جديد:

– كما قلت لك: الدنيا ليست أبيض وأسود.. هناك حلول لكل مشكلة.. والمطلوب فقط مزيدا من المرونة حتى لا تضيع الفرصة الكبيرة التي أخبرتك عنها! 

– تنازلات جديدة.. فرصة كبيرة؛ هل ستزوجني ملكة الجمال! فهمت الأمر بمجرد أن طلبت اللقاء بي بعيدا عن الناس.. هات أفكارك الجهنمية فيبدو أننا سوف نتشاجر حتى يسيل الدم إلى الركب أو يلقي أحدنا بالآخر في البحر! 

– لا مشاجرة ولا دماء.. كل شيء بالخناق إلا الزواج بالرضا.. وبعدين لا أحد يستطيع أن يفرض عليك شيئا لا ترضاه.. لكن كما قلت لك: الدنيا تحتاج إلى مواءمات وتنازلات,, ما رأيك أنني قرأت بالأمس حكمة عجيبة لأحد الحكماء نسيت اسمه يقول فيها إن البيوت لا تبنى على الحب فقط بل أيضا على المودة والرحمة.. يعني الجمال، وعيون المها، والقد المياس ليست شروطا للسعادة، وأنها فقط تنفع في الأغاني! 

تجاهل البواب موعظة صديقه الجديدة، وحدق في عينيه بعمق كأنه يقول له: هات من الآخر وكفاك تقمص دور الحكماء والخطباء! 

فهم (الكشي) معنى نظرات صديقه وراح يكشف أوراقه:

– هذه المرة مطلوب فقط التنازل عن شرط واحد إضافي.. 

سكت هنيهة ليبتلع ريقه ويرى ردة الفعل قبل أن يقول: 

– بصراحة لا داع لشرط عيون المها.. وجدنا واحدة مناسبة ووفق الشروط المعدلة لكنها تلبس نظارة ثقيلة جدا.. مستوى نظرها يجعلها كالخفاش بالضبط! وقلت لنفسي: لا مشكلة.. صاحبنا أيضا يلبس نظارة منذ مراهقته، ونظره أفضل منها بنقطتين فقط.. ما رأيك؟ 

– رأيي أن تبحث من جديد.. لا يمكن أن نكون نحن الاثنان أعمى يقود عمياء.. على الأقل عيون المها ينبغي لها أن تعوض عن السن الصغيرة!

أعلن البواب رأيه بحزم قاطع منع صديقه من المجادلة معه، وانصرفا عائدين والصمت يلفهما.

ومرت شهور أخرى، وتعقدت مشكلة (عبدالواسع) أكثر، لكن صديقه لم ييأس أبدا من بذل محاولاته لدفع صديقه الأعزب المزمن للتنازل عن شروطه، وقرر استخدام مؤثرات نفسية لتشجيعه على التنازل فدعاه يوما إلى رحلة بصحبة عائلته إلى الحديقة الكبيرة؛ حيث قضوا هناك نهارا كاملا بين اللعب والسباحة يشاركهما في ذلك طفلا (البهلول) الجميلان اللذان أضفيا على الرحلة جمالا بشقاوتهما وتعلقهما بصدر والدهما وظهر صديقه، ولم تقصر زوجة صديقه في إعداد الأطعمة الممتازة بوحي من زوجها ليرى عدو المرأة (كما تصفه الزوجة) حلاوة الحياة العائلية ودفئها.

وفي اليوم التالي سارع (البهلول) للقاء زميله خارج العمل لفحص التغييرات التي طرأت عليه بعد الرحلة العائلية الجميلة، وفاجأه هذا بمجرد ان رآه بقول:

– موافق على إلغاء شرط عيون المها.. هل المرشحة ما تزال بالانتظار؟ 

استغل (الكشي) حالة الهزيمة الواضحة لدى صديقه، وبادره بحزم: 

– تلك فرصة كبيرة راحت يا صديقي البطران.. هذه المرة أريد منك تنازلات شاملة ويحق لك فقط استبقاء شرط واحد.. اختر أي واحد منها ولك زوجة في ظرف يومين! 

رد البواب بصوت مهزوم هزيمة كاملة في معركة حياة أو موت:

– خليها شرطين.. جسم الغزال واللون الأبيض.. لن أتنازل عنهما أبدا.. هذه مسألة مبدأ!

بعد أيام عاد (البهلول) إلى صديقه بخبر زوجة تمتلك مواصفات جيدة لكنها تجاوزت الأربعين مثله وربما تصغره بعام إن لم تكن في عمره!

لم يرد البواب على صديقه، وانسحب مقهورا إلى بيته.. وأعلن صديقه له بعدها أنه نفض يده من هذا الأمر فقد تورط في مواقف محرجة كثيرة مع عائلات محترمة؛ حتى كان الوسطاء يتساءلون عن هذا العريس النادر الذي يرفض المرشحات للزواج منه بسهولة!

وأغلق (عبد الواسع) باب البحث عن زوجة نهائيا، وكرت السنون في حياته دون أن تأبه له، واندمج هو في حياة العمل التي يعشقها وأعطاها كعادته كل جهده وصحته، وخاصة بعد أن ترقى في وظيفته حتى تولى إدارة المدرسة ثم إدارة التربية.. لكن ظل حلم الزواج من سندريلا ينتظره كل ليلة عندما يعود إلى المنزل الصامت الغارق في الفراغ والوحشة، وظل يحلم بيوم يعود فيه إلى المنزل فيجد من يستقبله ويتناول معه العشاء، ويسهران مع بعضهما أمام التلفاز، ويقضي معها بقية عمره مطمئنا أنه إن مات فسيسقط رأسه بين يديها!

ومع كل ذلك لم يعد يجرؤ أن يطلب من صديق أو قريب أن يبحث له عن زوجة، وترك الأمر للأقدار وتصاريفها التي صارت العبارة الجاهزة التي يجيب بها من يسأله عن موعد زواجه، وعندما كان أحد معارفه يقابله وهو يسير منحني الظهر، وقد فقد شعره كله ثم يسأله ممازحا عن شروطه للزواج؛ كان يجيب وهو ينظر إلى الأرض خشية أن يتعثر بحجرة:

– شرط واحد فقط.. أن تقبلني زوجا لها!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى