الجرجاني، علي بن عبد العزيز، أبو الحسن، قاضي الرِّي على زمن الصاحب بن عباد، وقاضي قُضاتها، الأديب الأريب، الناقد ذو الذوق الحصيف، صاحب “الوساطة بين المتنبي وخصومة”.
كان فقيهاً أديباً، لم يَجُر عنده فقهٌ على أدب، ولا أدبٌ على فقه، وكان كلاهما لديه في طبقة رفيعة وقلَّ لهما أن التقيا لدى أحد هذا اللقاء. كان كلّ منهما عوناً لصاحبه، إنّه الفقيهُ الأديب، والأديبُ الفقيه، الذي يُعطي الفقهَ، إذا كان المقامُ مقامَ فقه، كلَّ ماله، ويحفظ على الأدب في مقامه كلَّ حقه.
أخذ العربية من أصولها فاستقامت له، وبلغ بها منزلةً رفيعة حتّى صار من المفاخر أن يَتّلمذ المرء عليه. قال ياقوت: ” وكان الشيخ عبد القاهر الجرجاني قد قرأ عليه واغترف من بحره، وكان إذا ذكره في كتبه تبخبخ به وشمخ بأنفه بالانتماء إليه.” ولم يكن ذلك لما له من علم رصين، وذوق رهيف وحدهما؛ بل لهما، ولما قام عليه خلقه من عدل، واتزان عناصر تتّجه به نحو طلب الحقيقة حتّى لا تشتبه عليه الدروب نحوها.
ولّاه الصاحب بنُ عباد قضاء الرِّي، وكان موضعَ تكرمةٍ منه، رفيعَ المجلس لديه، وكان الصاحب أديباً وزيراً ذا سلطان، تدعو إليه الرغبةُ والرهبةُ، وكان على ذلك يشنأُ المتنبي شنآناً شنيعاً، ويُكثر الوقيعةَ فيه؛ ولعلّ من دواعي ذلك أنّه أراد منه أن يمدحه فأبى! وكان من شنآنه أن وضع رسالة وسمها بـ ” مساوئ شعر المتنبي”، وكان من شنآنه أيضاً أن حرّض عليه من يمتّون إليه بسبب، وكان الجرجاني قريباً منه، وربّما ذهب بك الظنُّ إلى أنّه سيسارع إلى الاحتطاب بحبل الصاحب، وسيضع كتاباً في المتنبي يُرضى به ابنَ عبّاد؛ إن لم يكن من تلقاء نفسه فبأمر الوزير ذي السلطان الواسع، غير أنّ أيّاً من ذلك لم يقع! لا الوزير أمره، ولا هو احتطب في غير حباله! ذلك أن القاضي الجرجاني لم يكن ممن يُؤمر في شأن كهذا! ولم يكن ممن يصدر عن غير ما يعتقد.
كان يذهب في أمر المتنبي إلى مذهب عدل؛ يرى ما له ، ولا يعمى عمّا عليه؛ يرى إحسانه، وهو كثير، ولا تخفى عنه سقطاته وهي مما يعد. ولكي يُحقَّ الحق، وينصرَ الأدب، ويرفع من شأن النصفةِ ألّف: “الوساطة بين المتنبي وخصومه”، وبدأه ممتلئاً بحكمته وسداده: “وكما ليس من شرطِ صلة رحِمِك أن تَحيف لها على الحقّ، أو تَميل في نصرها عن القصد، فكذلك ليس حكمُ مراعاة الأدب أن تعدِل لأجله عن الإنصاف، أو تخرج في بابه إلى الإسراف؛ بل تتصرفُ على حكم العدل كيف صرفك، وتقفُ على رسمه كيف وقفك، فتنتصف تارة وتعتذر أخرى، وتجعل الإقرار بالحقّ عليك شاهداً لك إذا أنكرت، وتقيم الاستسلام للحجة –إذا قامت- محتجّاً عنك إذا خالَفْت، فإنّه لا حالَ أشدّ استعطافاً للقلوب المنحرفة، وأكثر استمالة للنفوس المشمئزة، من توقفك عند الشبهة إذا عرضتْ، واسترسالك للحجة إذا قهرت، والحكم على نفسك إذا تحققت الدعوى عليها”.
يقول ذلك؛ وإنّي لأقرأ كلماته وأعيدُها متأملاً نبعها الصافي! ألا ما أسمى هذه الكلمات، وما أرفع قدرها! وإنّها لتُطلُ من القرن الرابع، بهيّةً، على القرون لا يُدركها بلى، وكأنّ الحاجة إليها لا تنفد، بل ما أسمى قائلَها حين يتمثّلها في كل ما يأخذ، وما يدع! وما أرسخ قدمَه في الحضارة إذ يتخذ منها منهجاً! إنّها جوهرةٌ ثمينة من جواهر الحضارة العربية الإسلامية!
ولم تكن تلك الكلمات المضيئة بالطارئة على نهج صاحبها، وإنّما هي صميمُه، ولبابُه، وحديث نفسه في ليله ونهاره كلّما زاول شأناً من شؤون القضاء، أو أخذ في منزع من منازع الأدب.
وإذا بدت سهلة الجريان على الورق فإنّ إقامتها شاخصة في الميدان شيءٌ دونه خرط القتاد؛ وكم من رائم انثنى دونها! ولكنّ الشيخ القاضي كان من أتمّ مصاديقها.
كان فقيهاً، وكان أديباً كاتباً رفيع الكتابة، وكان ناقداً مازجت كتابته النقد، وتلبّس نقده بالكتابة حتى بديا نسيجاً واحداً، وكان إلى ذلك كلّه يقرِض الشعر أحياناً، ومنزلته فيه دون منازله الأخرى، فإذا كان في النقد والكتابة في الطبقة الأولى فإنّه في الشعر بعيد عنها غير أن ما أبقاه شاعراً مذكوراً على تطاول القرون أبيات ماؤها من ذلك النبع المتدفق بين أحناء نفسه في رعاية العلم وحياطة كيانه، وصيانة النفس من التردي في مهاوي الطمع ، قالها متمسّكاً بالعروة الوثقى معرباً عن نهجه القويم ليردع ألسنة لاتعرف سمو المحجّة البيضاء:
يقولون لي فيك انقبــــاضٌ وإنّما
رأوا رجلاً عن موقف الذُّل أحجــما
أرى الناسَ من داناهم هانَ عندهــم
ومن أكرمته عزّةُ النفس أُكــــرما
وما زلتُ منحازاً بعرضي جانبـــاً
من الذمِّ اعتدُّ الصيانةَ مغنـــــما
إذا قيل هذا مشربٌ قلتُ قـــد أرى
ولكنّ نفسَ الحرّ تحتملُ الظــــما
وما كلّ برقٍ لاح لي يستفزّنــــي
ولا كلّ أهلِ الأرض أرضاه منعــما
ولم أقضِ حقّ العلم إن كان كلّــما
بدا مطمعٌ صيّرتُهُ لي سلّــــــما
ولو أنّ أهلَ العلم صانوه صانـــهم
ولو عظمّوه في النفوس تعظّـــما
ولكن أذالوه جهاراً ودنّســـــوا
محياه بالأطماع حتّى تجهـّــــما
أبياتٌ نادرةُ المثال في الأدب العربيّ ؛ تُبين عن موقف عزيز نادر بياناً واضحاً قويّاً يجمع الأمر من أطرافه ويجهر به!
ولكنّها صيحةٌ في قاع صفصف، لا يرجع صداها؛ ذلك أنّ ما كان فاشياً بين أصحاب القلم أنّهم يطيلون الوقوف على أبواب ذوي السلطان وكان منهم من يتّجر بعلمه، ويبغي به المرابح، إلّا قليلاً ممن توخّى الصيانة ونأى بنفسه عما يتردّى بها.
على أن مركب الجرجاني صعب خشن إذ لم يعتزل، ولم يعتصم بجدران بيته، ولم يقطع ما بينه وبين الشأن العام، بل كان في مدارج القضاء يتوقل فيها حتّى بلغ منصب قاضي القضاة، ولولا وثاقة نفسه، وأيْدُ عناصرها لوهتْ منه العُرى وخدعته البروق.
– أكانت له أبيات أخرى غير هذه؟
– أجل! له ديوان من الشعر، ولكنّه لم يجعل الشعر من وكده، ولم يخض في كلّ ميادينه؛ بل كان يقوله بين الحين والحين؛ وليس منه ما يبلغ تلك الأبيات في أصالة المعنى، وفي حسن البيان.
بقيت الأبيات على الزمن لمغزاها الرفيع، ولصياغتها المتينة وصارت حلية ترجمة القاضي لدى إيراد ترجمته، وزينة كتب الأدب …!