أدب

السكران الذي يضرب زوجته كل ليلة

تهاوى جسده النحيل بقوة على الأرض كأنه فقد السيطرة عليه، واصطدم رأسه بالباب الخشبي الذي أسند إليه ظهره.. وظلت عيناه شبه مغمضتين، وقطرات من الريق الأبيض تخرج من شفتيه كلما تنفس أو زفر هواء من جوفه! ولما استقر جسده على الباب راح يحك أجزاء من جسده بطريقة انتقائية، وارتفع صوته المخمور وهو يغني بصوت واهن يمط الحروف كأنه ينتزعها من حنجرته انتزاعا:

– يا بوي أنا يا بووووي.. يا بوي أنا من حسنك يا بووووي!

ورويداً رويداً بدأ الصوت المخمور يرتفع أكثر وهو يردد الكلمات نفسها فصار الغناء أكثر إزعاجا وخاصة في تلك الساعة المتأخرة من الليل.. وكالعادة في مثل هذا الموقف انفتحت نافذة في المنزل المقابل، وأخرج (عبد الباقي) رأسه قبل أن يخاطب جاره الفنان ساخرا:

– أهلا بأيوب طارش.. مالك الليلة تأخرت في السهرة.. المستمعون روحوا.. وأنت ستبدأ.. قم الله يهديك يا أخي وخلينا ننام.. وادخل بيتك وكفاية مشاكل!

رفع (عباس) رأسه ببطء، وراح يمسح العرق من على رقبته ووجهه وهو يسدد نظرات ميتة إلى مصدر الصوت الذي ألف سماعه كل ليلة، وارتسمت نصف ابتسامة على وجهه وهو يقول:

– صباح الخييير يا (عبد الباقي).. أنت الوحيد الذي تفهمني في هذه الدنيا.. والوحيد الذي يشجعني على الغناء.. ومن أجل عينيك سأغني لك واحدة ثانية تسمعها لأول مرة في حياتك!

وقبل أن يسمع الرد ارتفع صوته المخمور عالياً يكرر الكلمات نفسها:

– يا بوي أنا يا بووووي!

– قلنا لك كفاية إزعاج.. دع الجيران يناموا.. بكره الناس لديهم أعمال ومدارس.. قم الله يهديك وادخل بيتك!

في تلك اللحظات كان قد أضيء النور في المنزل الذي يتكئ على بابه (عباس)، وسمعت أصوات تهبط سلما خشبيا قبل أن ينفتح الباب ويسقط النصف العلوي لجسم الرجل إلى الردهة الداخلية التي تؤدي إلى درجات خشبية تصل إلى المنزل في الدور الثاني.. وشاهد (الذبحاني) جسد جاره وهو يسحب بصعوبة إلى الداخل ثم يد امرأة تغلق الباب، ومع ذلك فلم يغادر مكانه فهو يعلم أن هناك فقرة ليلية لازمة بعد هذا المشهد، وسرعان ما سمعت أصوات صراخ كان صوت السكران واضحا فيها وهو يهدد بضرب من يقف في طريقه، ثم تلا ذلك أصوات ضرب قوية وصراخ امرأة باكية يتعالى مختلطا بصراخ أطفال وتهديدات الرجل المخمور وشتائم غير مفهومة!

كان (عبد الباقي) أكثر الجيران المهمومين بما يحدث في منزل جاره السكران كل ليلة، وكم تألم مما يحدث في تلك الساعة.. وكم نصح جاره عندما كان يلتقيه في السوق أن يتقي الله في زوجته وأولاده، وأن يقلع عن هذه العادة السيئة في شرب الخمر يوميا وما يلحقها من فضائح ومشاكل مع زوجته، ولو اقترب منهما شخص لسمعه يقول مثل هذه النصائح:

– الذي يدهشني هو لماذا أنت وحدك من بين كل السكارى الذي يضرب زوجته.. لا وكمان تضربها كل ليلة.. يعني لازم كل ليلة.. يا أخي اعملها يومين فقط في الأسبوع.. أو حتى كل يومين مرة! أعرف سكارى كثيرين مثلك لكنهم لا يفعلون ذلك.. بالعكس سمعت أن بعضهم لما يسكر (والعياذ بالله.. الله يشلكم أنتم والخمر والذي يبيع الخمر!) يصير فرفوش ويقلب الدنيا أنسا وفرحا.. لكن أنت سكران من طينة غريبة ابتلانا الله نحن وعائلتك بك.. ما ذنبنا نحن كل ليلة وهذه المعركة السخيفة! أخشى أنك تشرب صنفا بلديا يجعلك كالمجنون.. يا (عباس) ارحم زوجتك وأولادك.. وارحمنا نحن معهم!

ما كان يثير غضب (عبد الباقي) وحيرته أن جاره (عباس) كان يستمع لنصائحه بهدوء وبابتسامة ميتة ورأسه منكسة إلى الأرض؛ وكأنه ليس هو الذي يفعل تلك الفعلة المخزية يوميا، ولا يكاد يرد بكلمة على نصائح جاره، ويكتفي فقط -بالإضافة للابتسامة- بترديد كلمة: سامحونا.. أزعجناكم.. هموم الحياة يا عم عبد الباقي!

لكن (عبد الباقي) لم يكتف بتلك المواعظ التي كان يلقيها على جاره؛ فقد فكر يوما أن يستشير أحد معارفه من العاملين في مجال القانون فقد كان يخشى بالفعل أن تحدث جريمة يوما ما ويقتل السكران زوجته من شدة الضرب.. لكن صديقه المحامي نصحه ألا يتدخل ويحاول أن يعالج المشكلة بهدوء.. وأكد له صحة كلام أحد جيرانهم العسكريين الذي نهاهم عن اقتحام المنزل إلا بشروط ويومها جادل صديقه:

– حتى لو أدى الأمر إلى قتل الزوجة المسكينة؟

– وكيف تعرف أصلا أنه سيقتلها؟ هل ترى شيئا من ذلك من نافذتك كأن يكون الرجل حاملا سكينا أو يقوم بخنق المرأة؟

– للأمانة.. لا فالنافذة دائما تكون مغلقة لكن أحيانا من شدة الصراخ والضرب أخشى أن تحدث جريمة!

– طالما أن الرجل سكران طينة كما تقول فلن يحدث ذلك.. لكن يبدو الأمر كما هو معهود في مثل هذه الحالات.. صفعات وركلات.. وربما لولا صراخ المسكينة لما شعرتم بالأمر!

– لكن لو حدث أنني رأيت ما يشير إلى احتمال حدوث جريمة.. ليس القتل بسكين أو خنق بالضرورة، ولكن ضرب شديد قد يؤدي إلى كارثة؟

– في هذه الحالة أي إذا رأيت بعينيك وتأكدت فمن حقك أن تقتحم المنزل لكن في البداية اطرق الباب واستأذن ثلاثا.. ولو كان معك شاهد أو اثنان من الجيران فهو أفضل.

❃❃❃

fa0a33cec3 السكران الذي يضرب زوجته كل ليلة

في العادة الليلية عندما كانت ترتفع أصوات الضربات والصراخ والبكاء من منزل السكران وهو يضرب زوجته؛ كان عدد من الرجال يتجمعون أمام المنزل؛ بعضهم من المارة الذين يتصادف مرورهم وقت المعركة، والآخرون من الجيران الذين تعودوا كل ليلة سماع مثل هذا الصراخ وأصوات الضربات التي يعقبها بكاء، وأنين مضروب، وصراخ أطفال مفجوعين؛ فيخرجون من منازلهم، ويقفون في الجهة المقابلة مستندين للجدار الأسفل لمنزل (عبد الباقي) وهناك تدور بينهم مثل هذه الأحاديث:

– لا حول ولا قوة إلا بالله.. كل ليلة من هذا الإجرام في حق الزوجة المسكينة الصابرة.. يا جماعة شوفوا لها حلا.. معقول نسكت وهذا الباطل يجري أمامنا؟

– يعني ماذا تريدنا أن نفعل؟ نقتحم المنزل وننتهك حرمته؟

– والله هذا كان رأيي من زمان لكن (صالح العسكري) حذرنا من ذلك كما تعرفون لأنه كما يقول لا يجوز اقتحام منزل إلا إذا سمعنا صوت استغاثة: يا مسلمين! والمصيبة أن المسكينة لم نسمعها مرة تصرخ بها وتكتفي فقط بالبكاء والصراخ!

– امرأة أصيلة يا جماعة لا تريد الفضائح.. ثم كيف لها أن تعرف مثل هذه الحيل القانونية؟

– والله أنت رجل مسكين تحتاج من يضربك مثلها.. يعني هذا الذي يجري كل ليلة ليس فضيحة تجعلها تصرخ: يا مسلمين؟ أنا لو كنت مكانها فسأصرخ: يا بني إسرائيل وليس فقط: يا مسلمين!

– ما رأيكم أنني أرسلت إليها أهلي ليعلموها ماذا تفعل عندما يضربها زوجها.. لكن يبدو أن لا فائدة.. المرأة مسكينة ولا أهل لها إلا أب عجوز وأمها مسكينة مثلها.

– المهم الآن ما العمل؟ نقف نتفرج ونسمع فقط؟ فكروا بحل سريع.. الليلة الضرب شديد والصراخ كبير.. هذا السكران الملعون سوف يقتل زوجته!

وعندما يصل الكلام إلى هذه النقطة يتدخل (عبد الباقي) من مكانه في النافذة مخاطبا المتجمعين في الشارع أسفل منزله:

– يا جماعة لا تتعبوا أنفسكم.. المسألة ميئوس منها.. المرأة سلبية!

انصرف الرجال وهم كالعادة في حالة من الغضب والقرف مما يحدث.. لكن (عبد الباقي) ظل على غير العادة في مكانه في النافذة التي تواجه بالضبط النافذة الرئيسية لمنزل جاره (عباس) التي كانت مغلقة لكن يمكن مع ذلك سماع أصوات الضربات وصراخ المرأة وبكاء أولادها، فقد أحس بالفعل أن الضرب والصراخ هذه الليلة تجاوز المألوف، وخشي أن تحدث مصيبة كأن تموت الزوجة أو يقتل جاره السكران أحد أولاده الصغار في عنفوان غضبه وهو فاقد السيطرة على مشاعره وعقله! وتذكر أيضا ما قالته له زوجته أن أم الزوجة موجودة في المنزل هذا اليوم الأمر الذي يعني أن السكران قد يقتل حماته العجوز وليس زوجته فقط،

وصدقت هواجس (عبد الباقي)؛ فقد تعالت أصوات الصارخين بدرجة مخيفة جدا بحيث لم يعد يتحمل البقاء في مكانه ساكتا، وقرر اقتحام المنزل وليكن ما يكون.. وفي أقل من دقيقة كان يخرج من باب منزله غير مستجيب لتوسلات زوجته ألا يورط نفسه في مشاكل الناس، وأثناء عبوره الطريق الذي يفصل بين المنزلين رأى جارهم (عزيز) وهو في طريق عودته لمنزله فجذبه معه ليكون شاهدا على ما سيحدث بعد أن أفهمه المطلوب بعبارات مختصرة سريعة، واستجاب الجار معلنا حماسه لهذه المهمة الإنسانية رغم أنه هو نفسه كان في حالة سكر! ومن حسن الحظ كان الباب الخارجي للمنزل مفتوحا، وبخطوات سريعة صعد درجات السلم وفي إثره كان (عزيز) يحاول أن يلاحقه متعثرا وهو يدمدم بعبارات غير مفهومة.. وتوقف قليلا أمام باب الشقة الذي كان هو الآخر غير مغلق تماما كما يبدو من إمكانية رؤية أضواء الشقة، وانتظر حتى وصل (عزيز) إلى منتصف السلم ثم بدا يطرق الباب عدة طرقات مستأذنا كما نصحه صديقه المحامي؛ لكن دون فائدة فالصراخ والبكاء الشديدان غطيا على كل شيء، وحينها لم يعد أمامه إلا أن يقتحم الباب وهو يصرخ:

– يا جماعة اتقوا الله.. يا عباس كفاك جنونا!

وفي الداخل شاهد (عبدالباقي) المأساة الليلية للمرة الأولى بعد أن كان فقط يسمعها صوتا دون صورة، وقبل أن يفيق من بشاعة ما رأى سمع خلفه أصوات جلبة رجالية ونسائية وأصحابها يصعدون السلم، واندفع إلى داخل الشقة عدد من القادمين (كان من بينهم زوجته لكن لم يكن من بينهم عزيز الذي اختفى ولم يره أحد بعد ذلك) وتجمد الجميع أمام منظر السكران وزوجته وحماته وهم ملقون على الأرض، والأطفال في ركن الصالة يبكون في حالة بائسة لطفولة معذبة، وجذب أحد القادمين (عباس) من على الأرض من طرف قميصه الذي كان ممزقا وهو يسبه ويلعنه قبل أن يسحبه إلى جانب من الصالة الصغيرة التي شهدت معركة الليلة، وقامت النساء بسحب المرأتين المسكينتين والأطفال الصغار إلى غرفة جانبية وهم في حالة مزرية.. واكتملت مأساوية الليلة بعد أن وصلت سيارة الشرطة، وصعد أحد رجال الأمن إلى الشقة، وبعد توجيه أسئلة سريعة أمر الجميع أن يلحقوا به إلى قسم الشرطة لأخذ أقوالهم، وأخذ معه السكران وزوجته وحماته، ووضع الأطفال في منزل أحد الجيران القريبين.

كان وصول الجيران مفاجأة ل(عبد الباقي) الذي علم فيما بعد أن زوجته كانت هي السبب في تطور الأمر إلى هذه الدرجة المؤسفة؛ فقد خشيت عليه أن يصيبه مكروه على يد جارهم السكران وهو في حالة الجنون تلك، فخرجت وراء زوجها وأبلغت الجيران الذين بدورهم اتفقوا على مساعدة جارهم خوفا أن يلقى حتفه بسبب فضوله الدائم كما قالت زوجته المفجوعة، وطلبوا من أحدهم أن يذهب سريعا إلى قسم الشرطة القريب لإحضارهم حتى تكتمل الصفة القانونية للاقتحام، وبالمرة يتم معاقبة هذا السكران المجرم في حق أهله وجيرانه!

❃❃❃

4b97145b06 السكران الذي يضرب زوجته كل ليلة

انشغلت الحارة بمشكلة جارهم السكران الذي كاد أن يقتل زوجته وأمها وربما أطفاله في هذه الليلة التعيسة بسبب الخمر اللعينة! وظل بعض الرجال من الجيران متجمعين في ركن الشارع بانتظار عودة الذين ذهبوا إلى قسم الشرطة لتقديم إفادتهم عم حدث ويحدث كل ليلة.. وكانت المفاجأة أن (عباس) عاد مع عائلته أولا، وصعدوا بهدوء إلى منزلهم دون أن يعيروا أي اهتمام للمنتظرين.. وتأخرت عودة الآخرين حتى قرر البعض الذهاب للسؤال عنهم بعد أن سرب أحدهم معلومة أنهم محتجزون بسبب انتهاكهم لحرمة منزل بطريقة غير قانونية.. لكنهم قبل أن يتحركوا رأوهم وهم قادمون من جهة قسم الشرطة، ولم تسمح حالة الصمت الغاضب التي كانوا عليها أن يتحدثوا مع أحد أو يجرؤ أحد على سؤالهم عما حدث، وخاصة بعد أن عاد السكران وعائلته قبلهم وهم الذين ظنوا أنه سيقضي ليلته في الحجز ولن يعود حتى يتعهد بعدم تكرار فعلته إن لم يحال إلى القضاء الذي لن يتسامح أبدا مع رجل يضرب زوجته كل ليلة!

وكان من الطبيعي أن تثير تلك العودة الغريبة للطرفين هواجس وأسئلة حائرة بين الجيران.. فمن قائل إن الذين اقتحموا المنزل تلقوا إنذارات شديدة في قسم الشرطة في حالة تكرار فعلتهم! وانتهز (جعفر الميكانيكي) الفرصة ليوجه سهام نقده المعتاد للشرطة وهو يقول:

– يعني كنتم منتظرين أن الشرطة سوف تعاقبه؟ إذا كان كثير منهم يشربون الخمر فكيف تتوقعون إذا أنهم سيعاقبون سكران؟ صحيح أن التهمة ليست شرب الخمر، بل ضرب الزوجة لكن في الأخير الجماعة هناك من الذين بالي بالكم.. وأكيد سيقدرون ظروف صاحبهم وأنه لم يكن في حالة طبيعية وغير مسيطر على أفعاله، وأكيد الزوجة المسكينة خافت منهم ورفضت اتهام زوجها بشيء.. وهذا يؤكد صحة الكلام عن تحذير الشرطة للمغفلين الذين هبوا إلى المنزل وكأنهم ذاهبون إلى فلسطين!

في الساعات القليلة المتبقية من تلك الليلة التي لم تنسها الحارة سنوات طويلة؛ تقلب (عبدالباقي) طويلا على فراشه دون أن يتمكن من النوم، ليس فقط لأنه دخل في نزاع سريع مع زوجته بوصفها السبب في تفاقم المشكلة على النحو الذي أوصلها إلى قسم الشرطة، ولكن أيضا لأن الرجل لم يستطع أن يبعد عن عينيه فظاعة المشهد الذي رآه بعد ما دخل الشقة، ولأنه كان الشاهد الوحيد الذي رأى على الطبيعة ما كان يحدث فقد اكتفى ضابط قسم الشرطة بشهادته، ولحساسية المشكلة بوصفها قضية عائلية فقد انفرد به في غرفة أخرى داخل القسم، ثم تم استدعاء الزوج والزوجة للانضمام إليهما، وبعد زمن خيل للموجودين خارج الغرفة أنه دهر خرج الرجلان (ووراءهما المتهم والمجني عليهما) وعلى وجهيهما حالة غضب وذهول جعلت المنتظرين يتوقعون قرارات حاسمة، وأن الضابط سوف يأمر بحبس الزوج السكران، لكنهم فوجئوا بما لم يتوقعوه أبدا فقد طالبت الزوجة وأمها الحاضرين أن يستروا على العائلة من الفضائح.. ولدهشة الحاضرين وافق الضابط فورا على إنهاء القضية وكأن اتفاقا ما حول ذلك تم في الغرفة، وأمر الزوج السكران أن يأخذ عائلته وينصرف إلى منزله، واستبقى الجيران ليتحدث معهم حول ما حدث، وكان ذلك هو السبب في تأخرهم في العودة، وظهور إشاعة التحذير الذي تلقوه.

في اليوم التالي لم يستطع (عبد الباقي) أن يذهب إلى العمل بسبب الإرهاق وسهر الليلة الماضية، وعندما خرج إلى السوق ظل مهموما بمشكلة الليلة الماضية، وامتنع عن الحديث فيما حدث مع الذين حاولوا معرفة التفاصيل، وعاد إلى بيته وهو على الحالة نفسها التي خرج بها من الإرهاق والشعور بالقرف، وعدم الرغبة في الكلام مع أحد.. لكن زوجته كانت بانتظاره فهي كما يفهم طبيعتها لم تقتنع بأن الشرطة أمرتهم بالكف عن الخوض فيما حدث، فبادرته بنقد شديد وهي تلاحظ حالته المرهقة، ولم تتردد أن تقول:

– كفاك تمثيلا علينا.. كل هذا الغضب حزنا على صاحبك المجرم الذي لا يرحم امرأة ولا طفلا.. ولا يخجل من جيرانه.. يا رجل لو رآك حزينا عليه هكذا لأننا أحضرنا الشرطة لزاد من شرب الخمر وتحدى الجميع أن يمنعوه من إيذاء زوجته المسكينة التي أهانها أمام أمها العجوز وكاد يقتلهما.. قلبي يقول لي أن هناك سرا تخفيه عنا عرفته عندما كنتم لوحدكم في الغرفة.. هل تظن أن تلك الخلوة سر لا يعرفه أحد؟ وإذا لم تخبرني به فأحلف لك بالله أنني سأذهب إلى الزوجة وأعرف منها الحقيقة بأساليبي التي تعرفها.

لم تنته الزوجة من الكلام حتى كان زوجها ينفجر ضاحكا وهو يلطم كفيه ببعضهما قبل أن يقول:

– الله يخارجنا منكم يا بنات حواء.. المصيبة يا بنت الناس أنني رأيت ما لا يجوز البوح به لكنني أعلم أنك لن تتركيني في حالي ولا مفر من الاعتراف لك فالشرطة أرحم منك.. يا مسكينة عندما دخلت البيت اقشعر جسمي مما رأيت.. ابعدي عني واتركيني أنام قليلا.. الله يلعن الخمر وبلاويها.. وأنا الذي كنت أقول لنفسي: لماذا كان (عباس) كلما نصحته أن يرحم زوجته من الضرب كان يطأطئ رأسه خجلا؟ كنت أظنه يشعر بالندم والخجل مما يفعل كل ليلة بزوجته.. لماذا تظنين أن الشرطة تركت الرجل يعود إلى بيته دون عقاب؟ أنت صدقتِ أن الزوجة مسكينة وأمها عجوز ترحم؟ الله يلعن الخمر وبلاويها.. عندما دخلت المنزل كان (عباس) مبطوحا على الأرض على وجهه والحماة العجوز باركة فوق ظهره وهي تخنق عنقه بحبل بيديها اللتين لم أستطع نزعهما وأنا الرجل القوي قبل دخولكم إلا بالعافية وبعد أن عضت المجنونة يدي، أما الزوجة المسكينة (تلفظ الكلمة الأخيرة بسخرية واضحة!) فقد كانت منحنية على زوجها من الجهة الأخرى وهي في حالة هستيرية تعضه كالمجنونة في أماكن مختلفة من أسفل ظهره وأفخاذه مع عدد سريع وخطير من اللطمات واللكمات التي كانت توجهها لزوجها عندما كانت تأخذ راحة من العض! وأمس اكتشفت -وتأكد ذلك بعد انفرادنا مع الرجل وزوجته- أن الرجل هو المسكين الذي كان ينضرب ليليا.. وزادت حماته أن حاولت خنقه لولا أننا دخلنا البيت وأنقذناه من الموت في آخر لحظة، وكل تلك الصرخات التي كنا نسمعها كل ليلة كانت تمثيلا من زوجته، والبكاء والعويل كان صادرا من (عباس)!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى