أدب

السير الذاتية: مسٌّ من السِّحر

أحاولُ دومًا أن أضربَ في فنونِ المعرفة بسهمٍ، مخافة الملل، وإقامةً على طريق الثقافة، مع القناعة التَّامة بأن التَّنوع يفيد ولا يضر، وذلك إذا حسُن استخدامه، لإعادة بناء المعارف مرَّة أخرى. لكنَّي أحيانًا أجد الهوى في نفسي، والميل في قلبي إلى صنفٍ من الكتب دون آخر، قد تظل هناك الصُّورة الكلية الشَّاملة كما هي، بلا محو ولا ترتيب، لكن الأفضلية تسبقُ أحيانًا وتعلو.

 

في فترة من الفترات كنتُ مغرمًا بأدبِ السُّجون، سيرة المعتقلين، وجرائم الجلَّادين، فضائح الأنظمة الشُّمولية، والقبضة الحديدية، كيف نجا من نجا؟ وكيف تجاوز الفضاء من غاص في نفسه لينجو؟ كيف تُقتلع الاعترافات؟ وكيف تصمد النُّفوس؟ وكيف تتم “حيونة الإنسان” حسب وصف ممدوح عدوان؟

 

في فترة أخرى كنتُ -وما زلتُ- مغرمًا بالمختارات الأدبية. يقولون بأنّ “اختيار الرجل قطعةٌ من عقله”، حين أقرأها أتخيّل المسّ والسِّحر وشحنة الكهرباء التي ضربت أعصاب المُنتقي لها. لعله صفَّق، لعله اندهش، لعله حملق، لكنه في النهاية وقع في أسر المعاني واللغة، وقرر أن يجتزئها لمن بعده، كمن يقطف الرُّمان وحبات العنب، وأطايب الفاكهة ليقدمها عن طيب خاطر إلينا.

 

لكن مهما تذوقت من المُتع، ومسَّت أعصابي لذة المعرفة وشهية القراءة، ستظل السِّير الذَّاتية والتراجِم الأدبية في المقدمة، بل رأس كل فنّ، ووسيلته إلى الغوص العميق في الأفكار والتَّجارِب.

 

قد تقودك مقالة في صحيفةٍ سيَّارة، أو ترجمة مختصرة في موسوعة أدبية، أو حوار صحفي في مجلةٍ أدبية، أو ترجمة أدبية كتبها أديبٌ عن آخر، أو سيرة ذاتية ترجم فيها صاحبها لنفسه، إلى ما لا تتوقع ولا تظن، من الخير الواسع، والمعرفة الوافرة، والفتوحات الثقافية التي تُغيِّر مجرى حياتك تمامًا.

 

الذاتية مسٌّ من السِّحر9 السير الذاتية: مسٌّ من السِّحر

· تطوُّر تاريخ السِّير والتراجِم

يقول الأستاذ محمَّد عبد الغني حسن (ت: 1985) في كتاب (التراجم والسِّير) -وهو من أوائل من كَتَب في هذا الفن، نُشِر كتابه في دار المعارف بالقاهرة في 1955م-: “والترجمة للأشخاص قديمة قدم الإنسان نفسه، ولا شك أنها ظهرت في الكتابة في الأمم التي عرفت الكتابة واستخدمتها في مسائل حياتها. كان عند الإغريق مؤرخون من طراز يذكره التاريخ بالفخر، كما كان عندهم كُتَّاب تراجم لا يدعون حيوات العظماء تمر من غير تسجيل لها، مثل كتاب بلوتارك (سير عظماء اليونان والرومان)، أو كتاب سويتنيوس (حياة الاثني عشر إمبرطورًا رومانيًا). أما أوروبا فقد ظلت عقيمة في كتابة التراجم الأدبية عشرات القرون، فأول ترجمة أدبية في إنجلترا ظهرت في القرن الثامن عشر الميلادي، وهم يعدونها أول خطوة في كتابة التراجم الذاتية لما تلاها من تراجم”(1).

 

أما في تراثنا العربي فإنَّ فن السِّير الذَّاتية والتراجم الأدبية، فنٌّ عريقٌ، وبناءٌ متين، ومعمارٌ شديد الفخامة، فقد بدأ من القرن الثَّاني للهجرة، وظلَّ يتطور على مدار السِّنين والقرون حتى بلغ مكانة عظيمة، من القوةِ والرُّسوخ والتنوع والكثرة؛ بحيث أصبح هذا الفن مكتبة عظيمة مترامية الأطراف على مساحة شاسعة من الزَّمان، وإن كان هناك قلة من الذين كتبوا سيرتهم الذاتية -مثلًا- أبو حامد الغزالي في (المنقذِ من الضَّلال)، وأسامة بن منقذ في (الاعتبار)، وقد قال عنها الهدلق: “هذه أفضل ترجمة ذاتية في تراثنا العربي”(2)، ومن الذين أملوا سيرتهم الذَّاتية ابن سينا على تلميذه أبو عبيد الجوزجاني (استخدمها الروائي جيبلربت سينويه في رواية ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان). ومن الذين نثروا بعضًا من سيرتهم في كتبهم ولم تكتب خالصة أبو حيان التَّوحيدي. وكم كنت أتمنى أن يكتب الجاحظ سيرته (أظن لو كتبها لجاءت فخمة وممتعة كبقية كتبه)، ويقول الأستاذ محمَّد عبد الغني حسن: “ولم تبلغ السِّير الذَّاتية في الأدب العربي ما بلغته التراجم الأدبية كثرة وتنوعًا”(3).

 

وحتى يكون القارئ على بصيرة من أمره، نوضَّح الآتي، أولًا: (السِّيرة الذَّاتية) هي ما يكتبه الإنسان عن نفسه، أما (السِّيرة الغيرية) فهي ما يكتبها إنسانٌ عن آخر، قد يكون ابنه أو زوجه أو مشتغلًا بأدبه.

 

ثانيًا الطبقات: وهو أن يعمد مؤرخٌ أو أديب إلى كتابة سير وتراجم جماعة معينة من النَّاس لها اشتغال بفنٍّ معين، بحيث يكونون كلهم مجموعين في طبقةٍ معينة. فلدينا عشرات الكتب بمساحة واسعة في الزمان والمكان والاهتمامات، مثل طبقات الصحابة، طبقات الفقهاء، طبقات المفسَّرين، طبقات المُحدِّثين، طبقات النُّحاة، طبقات الشُّعراء، طبقات الصُّوفية، طبقات القضاة، طبقات الأطباء، طبقات الفلاسفة، وغيرها من الطبقات التي كتبت.

 

ويكون الكاتب على حريته تمامًا في اختيار منهج الكتابة، فيمكن أن يكتب تراجمه الأدبية على الترتيبِ الأبجدي لحروفِ المعجم، فيبدأ بمن اسمه بحرف الألف ثمَّ الباء، وهكذا حتى ينتهي من كل التراجم الأدبية. ومثاله (معجم الأدباء لياقوت الحموي)، أو يكتب على ترتيب الأعوام، بحيث يبدأ من نقطة زمنية معينة، ثمَّ ينتقل إلى السنة التالية وهكذا، ومثال ذلك (نُزهة الألبَّاء في طبقاتِ الأدباء للأنباري)، وهذه لها ميزة وهي وضوح التراجم وترتيب الأدباء، ومن كانوا معاصرين. أو يكتب التراجم على حسب العصر كأن يعمد إلى كتابة أعلام قرن كامل، ومثال ذلك كتاب (الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة لابن حجر العسقلاني)، وهو حسب الأستاذ محمَّد عبد الغني حسن: “أول كتاب لدينا في الترجمة للرجال على حسبِ العصور”(4).

 

وفضل المُحدِّثين على كتاب التراجم -خاصة في المراحل الأولى منها- كبير، حيث كانت التراجم تُكتب على طريقة (العنعنة) بتأثير واضح من أصحاب الحديث،  بذكر الإسناد في رواية الأخبار، فتضخمت كتب التراجم الأدبية. مثال ذلك (كتاب الأغاني للأصفهاني) فإنه كان يورد أخباره على طريقة الإسناد (أخبرني فلان عن فلان). ويقول الأستاذ محمَّد عبد الغني حسن: “فإنهم قد وكَّدوا لنا هذه الأخبار بسندها”(5)، إلا أن طريقة كتابة التراجم على منهج المُحدِّثين وطريقة الإسناد، لم تستمر طويلًا، “وذكروها مجرَّدة، اطمئنانًا إلى ما فعله المُصنِفون الأوائل”(6)، حسبما يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن.

 

وحتى لا يظن القارئ أنَّ مدار التَّأليف في السِّير والتراجِم في التراث العربي كان جادًا متجهمًا، فإنهم كتبوا في بعض الأشياء التي لا تخلو من طرافة وخفة ظل، وفرادة لا تُنكر. فكتب الجاحظ كتابًا كاملًا عن (البخلاء)، كما كتب عن (البرصان والعرجان والحولان والعميان)، وكتب ابن الجوزي عن (أخبار الأذكياء) كما كتب عن (أخبار الحمقى والمغفَّلين)، وكتب الصفدي عن (العميان) كما كتب عن (العُور)، وكما كتبوا في أخبار الرجال، فإنهم كتبوا في أخبار النِّساء.

 

يقول الأستاذ محمد عبد الغني حسن: “وبين كتب الطبقات والتراجم الأولى، والسِّير والتراجم الأدبية في عصرنا هذا، يمتد تاريخ مشرقٌ حافل طويل، لبضعة عشر قرنًا في هذا الفن الأدبي التَّاريخي”(7).

 

ولو ذهبنا نستقصي عناوين الكتب التي كُتبت في كل طائفة ما انتهينا منها، ويكفينا ما قالته العرب في أمثالها: “حَسْبُك من القلادة ما أحاط بالعُنُق”.

 

الذاتية مسٌّ من السِّحر7 السير الذاتية: مسٌّ من السِّحر

· الهدلق والسِّير

وعن أهمية السِّيرة الذاتية، يقول عبد الله الهدلق في كتابه البديع “ميراث الصمت والملكوت”: استهواني فيما استهواني من هذه الدنيا الغريبة التي فتحها الله عليَّ -يقصد دنيا الكُتب-، بعد أن أوصدت دنيا الواقع في وجهي: فنُّ التراجم الذاتية، وما زلت أظن أنه لا يوجد فنٌّ آخر يعدله من فنون هذا التراث الإنساني كله، كانت كتب التراجم الذاتية مسلاةً لروحي، أجدُ فيها العظة والعبرة والمتعة، وكنت أعثر فيها على لطائف من المعارف لا توجد في غيرها، بل لا يظن القارئ أنها من مظان هذه اللطائف”(8).

 

وقد كان عبد الله الهدلق من كبار القرَّاء لأدبِ السِّير الذَّاتية في عصرنا، يقول عن نفسه: “طالعتُ من كتب التراجم الذاتية ما يملأ قبة الصَّخرة”(9)، وقد ذكر في ثنايا كتبه عشرات من السِّير الذاتية والتراجم الأدبيَّة في الأدبيْن العربيِّ والعالمي، فقد كان الهدلق مفتونًا “بالأيَّام” لطه حسين، وقد قرأه مرارًا، وكذا كتاب “أوراق العمر” للدكتور لويس عوض، الذي قال فيه: “من أعمقِ كتب السِّير الذاتية على ما فيه من سوء”(10)، والهدلق يتعاملُ مع السِّير الذَّاتية بمنطق الباحث عن الذهب، فقد نثر في ميراث الصمت والملكوت عشرين سيرة ذاتية مُعلقًا عليها بالفرائد التي لا توجد في غيرها، مثل: “سيرة برتراند راسل” نعرف أنَّ أخاه هنري كان مسلمًا، وفي “مذكرات محمد كرد علي” أخبار عن الشَّيخ طاهر الجزائري لا توجد في كتاب، والاعتبار لابن منقذ فيه نصوص رائعة عن أوروبا في العصور الوسطى”(11).

 

ولولا مزاج الهدلق، لاستفدنا من خبرته في السِّير الذاتية، فقد بدأ بتأليف كتابٍ عنوانه: “المنتخب من كتب التراجم”، يقول عنه: لو تمَّ لأتيتُ فيه بما يُبهر القارئ ويفيده(12).

 

ومن هذه القراءات الموسَّعة والكثيفة للسِّيرة الذَّاتية، استخرجَ الهدلق حقيقة عزيزة لا تخطئها العين، في قوله: “رأيتُ أنَّ الذينَ قرأتُ تراجمهم الذاتية يُجمعون كلهم على اختلاف ألسنتهم وألوانهم وأزمانهم وأعمارهم وأديانهم، وتفاضل تجاربهم، وتباين مشارب أنفسهم، وتنوُّع مطارح مقاديرهم: على أنَّ الحياة نصَبٌ ومشقَّة، وأنهم ما نالوا ما نالوه منها إلا بالصَّبر والتَّجلُّد والمغالبة”(13).

 

الذاتية مسٌّ من السِّحر3 السير الذاتية: مسٌّ من السِّحر

· فضل طه حسين على أصحاب السير الذاتية

ويرى الهدلق في كتابه “ظلال الأشياء”: “أنَّ طه حسين فتح باب السِّيرة الذاتية في الأدب العربي المعاصر، إلا أنه عاد فأغلقه، لأنَّ كثيرًا من أعلام عصره لم يكتبوا سيرهم الذاتية خشية أن تقارن بالأيَّام، وقد سار على طريقه بعض الأعلام وتأثَّر به لكنهم وقعوا جميعًا دونه”(14).

 

ويصف الهدلق الجزء الأول من الأيَّام، فيقول: “وهي عندي أجمل سيرة ذاتية خطَّها قلمٌ عربيٌ منذ كتب العرب إلى يوم النَّاس هذا، ولا أعرف كتابًا طُبع أكثر مما طبع الجزء الأول من الأيام، فقد زادت طبعاته على مئة طبعة، ودُرِّس، وتخرجت به أجيال”(15). ويتفق مع الهدلق الأستاذ حسين بافقيه، فيقول في كتابه “عبروا النَّهر مرتين – قراءات في السيرة الذاتية”: “وأما الأيام فحسبُه أنَّه أعظم كُتب هذا الفن قَدْرًا، وأبعدها صيتًا في الأدب العربي المعاصر”(16).

 

وقد وجدت عدة سير ذاتية كُتبِت بنفس طريقة كتابة طه كما فعل في سيرته “الأيام”؛ وهي التحدث عن الذات من جهةِ الغائب، لا من جهة المُتكِّلم. كان طه يكتب: “وكان صاحبنا، وكان الفتى”، فقلَّده عدد من الكُتَّاب والنُّقاد، على سبيل المثال، كتب شوقي ضيف سيرته في جزأينِ بعنوان “معي“، كتب فيها عن نفسه وقال: “وكانَ الطفلُ، وكانت أمام دار الصبي، وكان مما يروَّع الصبي”، وفي الجزء الثاني منها كان يكتب: “وكان صاحبي”، وتحدَّث سامي الدَّهان في سيرته “درب الشوك“، وكتب عن نفسه: لم يكن صديقي، وكان صديقي ..”.

 

ولا يوجد دليل على سطوة طه حسين وفضله على كُتَّاب السِّيرة الذاتية، أفضل من هذا، فقد اتخذه الكُتَّاب والأدباء إمامًا لهم، وساروا على دربه، الأمر الذي حدا بعدَّوه اللدود زكي مبارك، أن يقول عن “الأيَّام”: “أما هذا فلا أقول فيه شيئً”(17).

 

الذاتية مسٌّ من السِّحر4 السير الذاتية: مسٌّ من السِّحر

· أنماط كتابة السير الذاتية

ومن اللطائف أننا لا يمكننا تحديد نمط معين نستطيع من خلاله تحديد الشَّكل والإطار والقالب الذي تكتب فيه السِّير الذاتية. فممكن كتاباتها بلسان الغائب (طه حسين في الأيام)،  وممكن أن تكتب كأغلب السير بطريقة المتكلم، وممكن أن تكتب بشكل أدبي صرف، وممكن أن تكتب على شكل محاضرات (سيرة صلاح الدين المُنجد)، وممكن أن يكون حوارًا صحفيًا (مسار لكيليطو، وسيرة البشير الإبراهيمي مع جريدة المصوَّر المصرية)، وممكن أن تكون هذه السير عن غالب مراحل العمر، وممكن تكون عن فترة معينة.

 

فهناك سير المعتقلين وما أكثرها، وهناك سير كتبت عن فترة المرض (جمال الغيطاني في كتاب الألم، وعلاء خالد في مسار الأزرق الحزين)، وهناك سير الخارجين من الجماعات الأصولية (الدنيا أجمل من الجنة لخالد البِريّ)، وقد يكتب الكاتب سيرته في جزء وقد تكتب في أجزاء ( جلال أمين في ثلاثة أجزاء، ومحمد كرد علي في خمسة أجزاء، وعلي الطنطاوي في ثمانية أجزاء)، وممكن يكتب سيرته في عدة كتب متفرقة (توفيق الحكيم وعبَّاس محمود العقَّاد)، وهناك من يكتب سيرته باعتبارها أيام حياته، أو مذكراته، أو يومياته، أو مشاهداته، أو أجزاء من سيرته.

 

ومن أنماط كتابة السيرة الذاتية أن تكون في إطار أدبي روائي، يستبدل الكاتب اسمه الحقيقي بشخصية روائية ويسرد على لسانها أحداث حياته، وهو نوع لم أحب القراءة فيه، لاختلاط الحدود بين الحقيقة والخيال، وبين الواقعي والروائي، مثال ذلك (شقة الحرية لغازي القصيبي، وموال البيات والنوم لخيري شلبي).

 

الذاتية مسٌّ من السِّحر5 السير الذاتية: مسٌّ من السِّحر

وحتى لا يظن قارئ أنَّ هذا الفن كان حِكرًا على الرِّجال دونَ النساء – وحتى نتقي غضبهنَّ – فإنَّ المكتبة العربية تحوي في تضاعيفها على عشرات السِّير الذاتية والتراجم الأدبية التي كتبتها النِّساء، فقد كتبت الدكتورة عائشة عبد الرحمن (على الجسر بين الحياة والموت)، وكتبت رضوى عاشور (أثقل من رضوى)، وكتبت فدوى طوقان (رحلة جبلية)، وكتبت عبلة الرويني بعضًا من سيرتها في كتابها عن زوجها أمل دنقل (الجنوبي)، ومن أحلى كتب التراجم الأدبية ما كتبته الأستاذة عايدة الشريف في كتابها (شاهدة ربع قرن)، ففيه عدة تراجم بديعة عن محمَّد مندور ومحمود شاكر ونجيب محفوظ وآخرين، والكتاب ممتع ومبهج.

 

ولفرادة هذا الفنِّ وتنوعه، فإنَّ الأشكال الأدبية التي يكتب بها، كلها قابلة لاحتوائه، وقليلًا ما تجد سيرة غير ممتعة، فمن الذي يكره الحكي وسماع التَّجارِب، وخلاصات العمر.

 

· فوائد قراءة السير الذاتية

وإذا كانت السِّير الذاتية أو التراجم الأدبية، تفيد عمومًا قارئها، أيًا ما كانت سنَّه أو عمره أو مستواه الثقافي، فإنها أشدَّ أهمية إذا كان قارئها شابًا حدث السِّن، أو في بداية طريقه للقراءة أو التَّحصيل، وطلب العلم. لما فيها من شدَّ الأزر، والتربيت على الكتف، والتهوين من مصاعب الحياة، وأنَّه في نهاية المطاف، بعد أيام الضنى والشقاء المر، يحدث له التَّحقق الأدبي، والمكانة الاجتماعية، والوصول للغاية المنشودة. فإنها، وإن كانت سُنة كونية، فإنها تقدم العبرة والعظة للقارئ، لأنه أحيانًا يتعظ الإنسان بغيره مع ضرب المثل، وشرح العلة، والمشكلة الشبيهة، والظرف القريب لحالة القارئ، ما يجعله يوقن، بأنه ليس وحيدًا في الحياة، وإنما سبقه من مرَّ بنفس مشاكله أو قريبة منها، فيهدأ باله وتستكين خواطره، ويقرَّ في اليقين قلبه.

 

ولا أعلمُ من الكتب ما يرفع الهمَّة، ويشدُّ العزم، ويقوي الظهر، ويجعل الحياة أكثر احتمالًا، مع قلة الزَّاد، ووعورة الطريق، ومُرَّ الطلب، وتعدد الإخفاقات، وتوالي النصب، وفقدان الشغف، والحيرة في البدايات، والخوف في منتصف الطريق، والإحساس بقلة الجدوى في نهاية السعي، مع قرب التحقق، أو تمام التوفيق بالتحقق والثبات = مثل “سيرةً ذاتية” كتبها صاحبها، أو “سيرة غيرية” كُتِبَت عنه. قد مرَّ بما مررت به، وعانى ما عانيت، أو لاقى ما ستلاقيه في طريقك، لكنه منك على الضفة الأخرى من النهر، يخبرك أن أقدم، واقتحم الأهوال، ولا تخش شيئًا، واصبر، فإني هنا، سنلتقي، وتتلاقى مسرَّاتنا، بعدما تشابهت أحزاننا.

 

ومن حسنات السِّير الذاتية والتراجم الأدبية، أنها تبصرك بمواضع نفسك، وتعرفك صعوبات الطريق، وكيف تغلب عليها من تغلّب؟ وأنه لا يوجد جني للعسل دون إبر النحل، وأنه بالصبر والمحاولة يصير المرء إلى ما يريدُ وأكثر، مع سردٍ ملخّص للمعوقات التي مر بها صاحب السيرة أو المُترجَم له، لتعلم أنك لست وحدك صاحب العلة والبلاء، وإنما تختلف النَّظرات حسبما تسكُب من عبرات لتصل إلى ما تصبو إليه، وتتمنى حدوثه.

 

ربما لا أكفّ عن التَّأكيد على أهميَّة قراءة السِّير الذاتية، أو التراجم الأدبية، لأيّ كاتب أو أديب أو مفكر أو سياسي أو صحافي، في أي شكلٍ من أشكالها سواء كانت أحاديث تم تجمعيها، أو كتابًا مفردًا بذاته، أو لقاءات تليفزيونية أو إذاعية تم تفريغها، لا يهم الشكل، لكن المحتوى أهمَّ.

 

ذلك أنَّ السِّيرة الذاتية التي يكتبها الشخص عن نفسه، سواء كانت مراحل حياته بالكامل، أو مقاطع منها، أو مرحلة معينة، لا تفيد قارئها فقط بالمعرفة للتاريخ الإنساني بعقباته أو كبواته للشخص المقروء، وإنما تحتوي على التاريخ الاجتماعي والظرف السياسي والحالة المعيشية التي كان فيها صاحب السيرة أو الترجمة لحياته، وكذلك التكوين الثقافي الذي أسهم في تكوين ذلك الذي تقرأ له، ما الكتب التي قرأها؟ ما المشاكل التي واجهها، وكيف شكَّلت وعيه؟ وكيف تلافى آثارها، وأعادت خلقه في صورةٍ أخرى؟ وكذلك التعاريج التي تمت على منحنى حياته.

 

ومن فوائد قراءة كتب السير والتراجم والمذكرات واليوميات: أنها مداخل تعريفية وقراءات أوليّة للعالِم الذي تريد الدخول إليه، هي خطوة وبداية لعالم أكثر اتساعًا، ومن مذهبي ومنهجي في القراءة لكاتب جديد لم أقرأ له سابقًا أن أطالع سيرته الذاتية، لأفهم معراج حياته الروحي والنفسي، وما هي المؤثرات والعوامل والدوافع التي جعلته يكتب هذا الكتاب، وهذه القراءة تكون تمهيدية ولطيفة أن تخبرك بالطريق الذي تنوي السَّير فيه، فإن لم يوجد سيرة، فأبحث عن حوارات صحفية له، أو كتابات نقدية عنه تشرح لي خريطة حياته، وكثيرًا ما نجحت هذه الطريقة معي في القراءة، وقد قرأت عدة مرات أن المدخل الأساسي مثلا لعبد الوهاب المسيري هو سيرته الذاتية فقد وضع فيها أصول أفكاره، وبالتالي لن يجد قارئ كتبه معاناة في أن يعرف من أين يبدأ؟ وإلى أين سينتهي.

 

يقول الأستاذ محمد سعود الحمد: “سيظلُّ أدب السيرة الذاتية من أحبّ فنون الأدب إلى القارئ في كٌلِّ زمان ومكان؛ لأنه -باختصار- هو “فنُّ الحياة” الذي يبوح فيه الإنسان بسريرة نفسه، وأعماق وجدانه، وربما يجيش فيها من مشاعر وأحاسيس، ولذلك كُتِب لفنِّ السيرة الذاتية الخلود والذيوع والتألُّق، وقد حفل هذا الفن الأدبي بالعواطف الإنسانية اللافتة، التي اتسَّمت في مُجملها بالصدق والعفويَّة والتلقائية والحيويَّة”(18).

 

الذاتية مسٌّ من السِّحر2 السير الذاتية: مسٌّ من السِّحر

ولعلَّ أجمل تلخيص لفوائد ومتع قراءة السير الذاتية والتراجم الأدبية ما قاله الأستاذ فهد الجريوي في مقدمة كتاب (الظلَّ والحرور – منتخبات من السير الذاتية): “فهذه سطورٌ من أوراق العمر، وصفحاتٌ من دفاتر الأيَّام، وشجوٌ من حديث الذِّكريات، وصوًى على طريق الحياة، وذكرى من عهود الصبا، وأشتاتٌ من معارف الشباب وحِكمة الشيوخ. نجلو غبارها، ونبلو أخبارها، ونعيش مع أصحابها في قوّتهم وضعفهم، وانتصارهم وخيبتهم، وظِلِّهم وحَرُورهم. هذه الصفحات تُريك وجوه البشر، تُريك ابتساماتهم وانكساراتهم، وتأخذ بك لتعيش مع أفراحهم وأتراحهم، وتمارس معهم شدَّة الأيام ورخاءها، وبُخل الأحوال وسخاءها. إن الحديث عن خبايا النفوس وأسرارها، وتجارب الحياة حلوها ومُرَّها، ألقِها وأرقها، وما اجتواه أصحابها من خيبات، حديثٌ عذب محبَّب مُشوَّق، لعلَّه من أشهى أنواع القراءة وأحفلها بالمتعة، لأنَّه يمرُّ بك على قنطرةٍ بين توُّهج الحياة وأفُولها”(19).

 

· العناية بكتب السِّير والتراجِم في عصرنا

وفي عصرنا هذا كانت هناك عناية فائقة بكتب السِّير والتراجم تعريفًا ونقدًا وتقديمًا، فمن الذين خدموا هذا الفن الأستاذ محمد عبد الغني حسن، حيث كان كتابه من أوائل الكتب التي تحدثت عن فنِّ السِّير والتراجم الأدبية، كان كتاب (التراجم والسِّير)، وقد نشر في خمسينات القرن الماضي في دار المعارف بالقاهرة. وهو كتابٌ صغير الحجم عظيم الشَّأن، أزعم أنَّ من قرأه وهو خالي الذهن من بنية التراث العربي، فإنه بعد الانتهاء منه سيصبح لديه تصور قوي وواضح عن مكانة كتب السير والتراجم في التراث العربي، وهي مكتبة عظيمة لا ينكر فضلها إلا جاهل.

 

وكذا ما كتبه العلامة المحقِّق إحسان عباس (ت:2003) في كتابه “فن السِّيرة”، فقد كتَبَ مهادًا بديعًا عن تاريخ السِّير عند المسلمين، وتحدَّث عن البُعْد الفني في السير الذاتية، وختَمَ كتابه الماتع بالسِّيرة الذَّاتية في الأدبِ العربي، وهو كتابٌ مهمٌّ في هذا الباب، وكل كتبه حقيقة بالاِهتمام، وجديرة بالنَّظر، والمطالعة، ولم يكتف بالتَّنظير لفنِّ السِّير الذاتية، بل كتبَ سيرة ذاتية، سمَّاها “غُرْبة الرَّاعي“.

 

الذاتية مسٌّ من السِّحر8 السير الذاتية: مسٌّ من السِّحر

أمَّا الأستاذ محمَّد بن سعود الحمد في معجمه الضخم عن دار الثلوثية بعنوان (معجم كتب السير الذاتية في العصر الحديث)، أحصى فيه من السِّير الذاتية العربية أو المُعرَّبة أكثر من ستة آلاف وخمسمائة كتاب في السيرة الذاتية في العصر الحديث، وكان هذا الكتاب هو النواة التي بنى عليها صديقنا الأستاذ أنس عثمان قناته في التليجرام، حيث قام بإنشاء قناة (كتب السِّير الذاتية) وقام برفع أكثر من ألفي كتاب، وهو جهد عظيم نسأل الله أن يعينه ويوفقه، فقد قام على ثغر عظيم.

 

أما صديقنا الأستاذ محمَّد عبد العزيز الهجين، فقد قام بنشر كتابين في السِّير الذاتية، يحتويان على مقالات تعريفية ومداخل تمهيدية وقراءات صحافية وأدبية لعشرات من السير الذاتية والتراجِم الأدبية، فعرَّف بهذا الجهد القراء على كتب ومذكرات ويوميات، وكانت كتبه بعنوان (الأنس بالراحلين – أمسيات مع السِّير الذاتية)، والآخر عنوانه (مودة الغرباء – حكايات من السِّير الذاتية والمذاكرات)، وهو جهد يُذكر، ويُشكر عليه.

 

أما الأستاذ فهد الجريوي فقد قدَّمَ مئات المختارات من السِّير والتراجم، وكان تعامله مع هذا الفن من جهةِ الاختيار والاقتباس، فقدَّم لنا كتابًا عنوانه (الظِّل والحرور – منتخبات من السِّير الذاتية) صدرت منه المجموعة الأولى في مجلد ضخم حافل، وأظن هذه المختارات مُعينة لقارئ يريد معرفة هذا الفن، أو مطالعة فقرات قد تطول أو تقصر لكاتب وهو يحكي عن تكوينه أو ثقافته أو معاناته في الحياة أو نجاحاته، فيسعى لقراءة السيرة كاملة.

 

ومن الذين خدموا فنَّ السيرة الأستاذ أديب الحجاز حسين محمَّد بافقيه، فكتب (عبروا النَّهر مرتين – قراءات في السِّير الذاتية)، وهو كتابٌ ممتع كعادة ما يكتبه الأستاذ، فهو قارئٌ كبير وكاتب من طرازٍ رفيع، وأسلوبه حلو لا يمل قارئ كتبه.

 

وأحسب أنَّ كتاب الأستاذ فهد الجريوي وكتاب الأستاذ بافقيه، مع ما كتبه صديقنا محمَّد عبد العزيز، بداية قوية لفنٍّ عظيم، يزداد قيمته مع الأيَّام، ولا يفقد بريقه.

 

تُقرأ السِّير الذاتية لأسبابٍ كثيرة، لكنه عجزي عن الإحاطة. فاللهم اغفر ما أنت به أعلم، وندعو بما دعا به شيخنا أبو عثمان الجاحظ: “نعوذُ بالله من فتنةِ القول، والعجب بالنَّفس”.

 

ومجمل القول: في كتب السِّير الذَّاتية، والتراجِم الأدبيَّة، والمذكرات الشَّخصية، دروس وعبر وخلاصات مجانية، اغتنموها إذا ما استطعتم إليها سبيلًا!

هذا جهدُ المُقلِّ، والحمد لله في بدءٍ وفي ختمٍ.

الهوامش:

  1. التراجم والسير، محمد عبد الغني حسن، دار المعارف، مصر،صـ 11،10 
  2. المرجع نفسه، ص35. 
  3. التراجم والسير، ص 6. 
  4. التراجم والسير، ص 47. 
  5. التراجم والسير، ص .6 
  6. التراجم والسير، ص.6 
  7. التراجم والسير، ص7. 
  8. ميراث الصمت والملكوت، عبد الله الهدلق، السعودية، ص 33. 
  9. ميراث الصمت والملكوت، ص38. 
  10. المرجع نفسه، ص 35. 
  11. المرجع نفسه، ص 35. 
  12. ميراث الصمت والملكوت ، ص 36. 
  13. ميراث الصمت والملكوت، ص 37. 
  14. ظلال الأشياء، عبد الله الهدلق، دار أدب، السعودية، ص 58. 
  15. ظلال الأشياء، ص57، 58. 
  16. عبروا النهر مرتين، حسين بافقيه، دار كنوز المعرفة، السعودية، ص.13 
  17. نقلا عن ظلال الأشياء، ص 58. 
  18. معجم كتب السير الذاتية في العصر الحديث، محمد سعود الحمد، دار الثلوثية، السعودية، ص 32، 33. 
  19. الظل والحرور “منتخبات من السير الذاتية – المجموعة الأولى:”، فهد الجريوي، دار آفاق المعرفة، السعودية، ص 15.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى