أدب

الشاعر حسين المحالبي: الجدل بين الذَّات والعالَم

حسين المحالبي، تجربة شاعر قَطَعَ أشواطَ الحياة على عجلٍ شديد، لقد وَثَبَ بين مراحلها وَثْبًا سريعًا، لم تكن الطفولة إلَّا محطةً عابرةً سرعان ما غادرها ولمَّا يتدرَّج في اكتشافِ عوالِمها، بل دَهَمَتْهُ التجارب دُفعةً واحدةً، فتنامتْ عواطفُه باضطرابٍ، وماجَ بعضُها على بعض، وتجلَّى ذلك في أغانٍ حزينةٍ ومعزوفاتٍ باكيةٍ، انفطر عنها قلبُه الصَّغير.

كان حسين عُودًا غضًّا في أرض (التَّهائم)، حيث التُّربة المَرْوِيّة بمياه الخَمر والعِشق منذ الأزل، وحيث الإلهام المسكوب على صفحة السَّماء، وحيث الشَّوق المحمول على نُواح الأرياح الهَابَّةِ من تخوم السَّلام.

2 الشاعر حسين المحالبي: الجدل بين الذَّات والعالَم

هناك، في الأرض الرَّاقدة على السَّواحل الممتدَّة؛ إذ يجول الفنُّ في أثوابِ العذارى حينًا، وأسمال الدَّراويش أحايين أخرى، امتدَّت يـدٌ من تلك الأيادي إلى العُود اليتيم؛ فارتعشتْ أرواح الشِّعر في أوصاله رعشةً شديدةً، وأزهر نايًا مُطرِبًا؛ يقطر من أنداء العاطفة والوجدان، ويتنقَّل بين تباريح العُشَّاق الهائمين في الفَلَوات، وابتهالات الزُّهَّاد الجوَّالين في بلاد الله.

ها هو اليوم يُطوِّف أقطار الدنيا، نافثًا أنفاسه التَّائهة في كلِّ فضاء وصَوبَ كلِّ ناحية واتِّجاه.

دونكم هذه الوُصلة الموسيقيَّة [وصيَّة نايٍ لم يبلغ العَقدَين] متبوعةً بهوامش تحليليَّة مسطَّرةٍ على أطرافها:

لقَد كُنتَ عُودًا وأَزهَرتَ نَايَا

فمِن أَينَ تَهطِلُ فِيكَ المَزايَا؟!

ومِن أينَ أنبتَكَ الشِّعرُ غُصنًا؟!

فأثمَرتَ أحلَى القَوَافي الصَّبايَا

وفِيكَ انبِلاجُ الحنينِ

تُرتِّلُ بينَ الشَّبابيكِ

دمعًا وشايَا

يُخبِّئُكَ الصَّمتُ عن كلِّ حزنٍ

وحيدًا تعيشُ غموضَ الزَّوايَا

عيونُك مُتَّسَعٌ مِن ضياءٍ

وقلبُك قِنِّينَةٌ مِن حَكايَا

تَمُرُّ عَلَى العاشقينَ

كَدَرويشِ لَيلٍ

تُفَصِّلُ عِشقَكَ آيَا

تقولُ:

احذروا مِن شِباكِ الغرامِ

إليكُمْ رَمَتْها أيادِي المَنايَا

يقولُ لكَ الزَّمنُ الزِّئبَقِيُّ:

إذا نِمتَ

نَمْ في عُيونِ المَرايَا

وأَلِّفْ مِنَ الذِّكرَياتِ سَحابًا

ليَقرأَكَ الظَّامِئونَ وَصايَا

ولا تَجعَلِ الشِّعرَ

يُنسِيكَ أنَّكَ طِفلٌ

تَحَمَّلتَ هَمَّ البَرايَا

لقد خُضتَ حُبًّا وحَربًا 

وها أَنتَ 

نِصفُكَ وَردٌ، ونِصفٌ شَظايَا

حَنانَيكَ يَكفيكَ ما أنتَ فِيهِ

 فلَملِمْ بَقاياكَ.. أينَ البَقايَا؟!

أنَا مُتعَبٌ كالشِّتاءِ 

تُعاقِرُ أَيَّامِيَ اليابِساتِ يَدايَا

لقد شابَ فِيَّ الكلامُ

 وأَسنَدتُهُ بالظَّلامِ ليَعبُرَ فايَا

جَعلتُ مِنَ الصَّدِّ بابًا

 دَخلتُ مِنَ البابِ صَدًّا

 سَكَنتُ الحَنايَا

فيَا أيُّها العاشقونَ رَجاءً 

تَأنّوا لكيلا تصِيروا ضَحايَا

لكيلا تصِيروا ضَحايَا الشاعر حسين المحالبي: الجدل بين الذَّات والعالَم

يحاول حسين أن يرسم تحولاته السريعة في الحياة، الانتقال من (العالَم الفِطري) إلى (العالَم المعقَّد)، ولكلٍّ منهما تجلياتٌ في سلوك الشَّاعر وطقوس حياته التي صوَّرها النصّ.

انتظم ذلك التحول في سلكين معجميَّيْنِ:

المعجم الفطري، حيث يعود الشَّاعر إلى غابة الطبيعة الأولى، فها هو (عُود) ما قطعته فأس حطَّاب، ولا حفرته آلة نجَّار، بل (أزهر نايًا) من تلقاء نفسه دون أن تمتدَّ إليه يد صانع، حتَّى تعجَّب الشَّاعر، ليتساءل: (فمِن أين تهطل فيك المزايا؟!). وهو كذلك (غصن أنبته الشعر، فأثمر أحلى القوافي)، وهو الذي (يُؤَلِّف السَّحاب) في الجو، وهو أوراق منثورة من (الورد)، وهو طِفل في الحقيقة، لا يزال في عوالم الدَّهشة، حيث الطبيعة معلمُّه الأوَّل، وحيث عيناه المغسولتان في النور تُلوِّنان مظاهر المادَّة الكئيبة بألوان الحياة الفطريَّة، بخرير المياه بين الأحجار اللامعة، وهبوب النَّسائم على الأوراق والحشائش النَّاعسة، ورفرفة العصافير إلى الأغصان المتعانقة، وتقاطر الغزلان إلى منابت العشب وجداول الماء.

إنَّ المحصلة الدّلالية لمعجم الشَّاعر الفِطري، تُصوِّر لنا مرحلة الشَّاعر الأولى: تنامي الموهبة بسرعة مفرطةٍ حتَّى عَبَّرَ حسين عن ذلك بـ(الفاء) (عودًا فأزهرتَ نايًا)، (غصنًا فأثمرتَ)، وحتَّى لم يَجِدْ سِرًّا يُفسِّر ذلك التسارع إلَّا عنصر الحياة الأوَّل (الماء)، فهو الجامع الدلالي بين كل مفردات المعجم الفطري؛ هو مادَّة الإنسان (الطفل) والرُّوح السَّارية في العود الغض، والورد المنثور، وثمار الغصن المعلَّقة، والسَّحاب المؤلَّف في السماء.

إنَّ هذه المنظومة المعجميَّة، قد تقارب لنا رغبة الشَّاعر الأول: الانكشاف التام، الحريَّة، الفناء في الطبيعة الأم.

إلًّا أنَّ تلك الرغبة سرعان ما تتبدَّل، حين يدخل حسين (العالَم المعقَّد) (عالم المادَّة)؛ فمن البيت الثَّالث، تبدأ الصَّنائع البشريَّة تغزو معجم القصيدة (الشبابيك)، (القنينة)، (الشباك)، (المرايا)، (الشظايا)، (الباب)، لتحدث انتقالة من المعجم الفطري إلى المعجم المادي. لا تحدث تلك الانتقالة كليًّا بل يثور جدلٌ بين المعجمَيْن، فيخفت الصوت الفطري في الشاعر، ويتطامن عمَّا كان عليه في صدر القصيدة.

لقد نضج الشَّاعر الآن، لا مجال للانكشاف التَّام، والتَّعري كالعُشَّاق أمام الحياة، فها هو الحنين ينبلج فتَصُدُّهُ (الشَّبابيك)، فليزم حسين عزلته دون أن يغني قصائده، بل يُخبِّئ بالصمت جميع أحزانه، منطويًا عن الناس في الزوايا المظلمة، وثمَّة حكايا كثيرة، لن يَقُصَّها على أحد بل سيُودِعها قنينةً ويدفنها في الأعماق.

إنَّه (عالم معقَّد) لا يجبرك على الصمت بل يُخِيفك من كل شيء حتَّى حين تنام، فلا بُدَّ أن تُوقِظ المرايا وتنام في عيونها.

إنَّ الجدل بين (العالَم الفِطري) و(العالَم الماديِّ المعقَّد) لم يحسم كليًّا؛ فلا يزال وعي الشاعر يُصِرُّ علي شيء من الانكشاف؛ ولذا كان الجامع الدلالي بين كثير من مفردات المعجم المادي، هو العنصر الزجاجي الشفَّاف أو العاكس، فلَئِنْ حَجَزَت الشَّبابيك ما خلفها، وحَبَسَت القِنِّينة محتواها فإنَّ الرؤية لم تُحجَب الحجبَ التامَّ، كما أنَّ الباب إن كان حاجزًا فهو منفذٌ أيضًا، بل يظهر أنَّ الشَّاعر يتنبَّأ بعودتِه إلى العوالِم الفِطريَّة، فاختار أن يكون سجنُ حنينِه وعواطفه من زجاج؛ إنَّه حاجز ليس بالقويّ، سيهشمه حسين في أي لحظة، ويعلن حريته مرَّةً أخرى.

أمَّا في القصيدة فإنَّ الشاعر يُسلِم نفسه إلى التعب، ويدين بدين عالَم معقَّد مليء بالخيبات، فيكتسي أثواب درويش، ويتحوَّل من شاعر إلى واعظ؛ إنَّه يصوغ عواطف العشق المقموعة في نذر ومواعظ، يُحذِّر العشاق من شرك الغرام، ويُؤَلِّفُ من ذكرياته القديمة وصايا، إنَّه شاعر عاشق، ولأمرٍ ما لَبِسَ ثياب واعظ، إنَّه يُناقِض رغباته ويُصارِع معانيَ كبيرةً في نفسه، إنَّه في حُبٍّ وحرب، (فنصفه ورد، ونصف شظايا)، لقد تَعِبَ أخيرًا، ها هو (الشِّتاء) يزحف على رُوحِه، لن يُزهِر النَّاي ولن نرى غضنًا ولا ثمارًا، لقد (يَبِسَتْ الأيام)، شاخ الطِّفل، و(شاب المعنى في نفسه)، لم يخرج إلى الدنيا إلَّا (ملفوفًا بأكفان الظلام)، ويَسكُنُ حسين بعد الصِّراع في الحنايا، ويردِّد مواعظ الخيبة والندامة على مسامع المحبين والعُشَّاق.

محمد العامري

كاتب وباحث في اللسانيات

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى