أدب

المسَرَّةُ: دُرَّةُ الحُزنِ الشَريفِ

استشعر معنى أن تكون الكتابة من مداد القلب، وأخالني لا أريد أن أكتب بقدر ما أريد أن أغرف من دفق السعادة في قلبي فأسكبه بين أيديكم، ذاك أنه تكبر السعادة عندي آن أرى لمعها في عيون محدِّثي!

على أنني كذلك أحس أحيانًا أنَّ سعادتي محصورة بين أمرين كلاهما من الحزن، سعادةٌ في ماضٍ فأبكيها، وسعادةٌ في مستقبلٍ بعيدٍ أتشوقُ إليه.. فأبكيها كذلك، فبذلك تكون سعادتي تلك والأخرى ضربٌ من ضروبِ الحزن، وعلى ذلك دأبت في كتابتي فأكون في عالمٍ مموه غريب لا زمان فيه ولا مكان!

❃❃❃

أحيانًا، بلا مقدمات يجولُ بي سعدٌ غريب، وألمسُ في نفسي خفةً عجيبة، وآخذُ نفسي فيه.. حتى يأخذني بيتُ المتنبي:

أشَدُّ الغَمّ عِنْدي في سُرورٍ

تَيَقّنَ عَنهُ صاحِبُهُ انْتِقالا

لأذكر صاحبَ النظرات وقوله أنَّ “السبب في شقاء الانسان أنه دائما يزهد في سعادة يومه ويلهو عنها بما يتطلع إليه من سعادة غده، فإذا جاء غده اعتقد أن أمسه كان خيراً من يومه، فهو لا ينفك شقياً في حاضره وماضيه” فألهو بقوله عن المتنبي، بيدَ أن غمامةً سوداء تجلى في الأفق.. فيها القول الذي أورده المنفلوطي، الذي في معناه “أن السعيد من كان دائم الترقب لزوال النعمة!”

فيشتدُ غم انتقالِ السرور، على السعادة بترقب الزوال.. ويعلو بيت المتنبي، مرةً أخرى!

ثُم يظهر لي الرافعي متشحاً بوشاحِ السماء، مؤتزراً بإزارِ الملائكة، يقول “ففي رجاءِ الله واليوم الآخر يتسامى الإنسانُ فوق هذه الحياة الفانية، فتمُرُ همومها حوله ولا تصدمه!” ويقول “وإذا وقعَ ما يسوؤكَ أو يحزُنكَ فابحث فيه عن فكرته السامية، فقلَّما يخلو منها، بل قلَّما يجيءُ إلا بها” ويقول “وكما أنَّ الأرض هي شيءٌ غير هذا الإعصار الثائرِ منها، فالحياةُ كذلك هي أمرٌ آخرٌ غير شقائها”[1]

وتجاوزَ ذلك بأن عرجَ بقارئه للسماءِ لـمّا قال “ما أشبه النكبَةَ بالبيضة تُحسَبُ سجناً لما فيها وهي تحوطُهُ وتَربِّيه وتُعينُه على تمامه وليس عليه إلا الصبرُ إلى مدةٍ، والرّضا إلى غاية، ثم تَنْقُفُ البيضة فيخرجُ خَلقاً آخر. وما المؤمن في دنياه إلا كالفَرْخِ في بَيضتِهِ؛ عمله أن يتكوَّنَ فيها، وتمامه أن ينبثق شخصُهُ الكامل، فيخرج إلى عالـمِه الكامل“[2]

ثُم كأنه يتهكَّمُ بالسُخَّط، ويهزأُ بالنادبين، فيقول:

أيا غاضباً من صروفِ القضـــــا

بنفسِكَ تُعنِّفُ لا بالقـــــــــــدر

ويا ضارِباً صخرةً بالعصـــــــــا

ضرَبتَ العصا أم ضربت الحجر؟

فأرجعُ بعد قوله لِسعدي، ولا أرى الغمَّ ولا الزوال، وجاهدتُ بعد ذلك ألا أنظر إلى زوالِ سعادةٍ إلا موقناً بالتاليةِ بعدها، فإن بَعُدَت انتظرت مرَّ الإعصار، ثُم رجعتُ إلى أثرِ الزوال أتلمَّسُ الفكرة السامية، متسامياً فوق الحياةِ الفانية! فجعلَ الله لي بذلك سعادةً في كل حزن، وعلى أنه سبحانه أنبتَ الأولى، ما أفنى الثانيةَ تقريراً لحقيقة الدنيا.

وما قرأت للرافعي، إلا ونجحَ حرفُهُ بإذابة الدنيا، وهُمومها، وأحزانها، وابتلاءاتها، وخوالج الناس وانفعالاتِهم، فجعلها حكمةً من السماءِ العالية! فكأنما يأخذك لتنظُرَ مِن عَليّ؛ وما انغمستُ مع المنفلوطي إلا كدتُ أخبطُ وأندب!

book المسَرَّةُ: دُرَّةُ الحُزنِ الشَريفِ

أما الكِندي، فهو ذاك الذي ينحى بك منحى المنطق البسيط، فيدفعُ عنك الحزنَ شيئاً فشيئاً، وينتهي حزنك مع آخر حروفه في “الحيلة لدفع الأحزان”، يقول “إن كلَّ حزنٍ غير معروف الأسباب غير موجود الشفاء” ثُم يشرعُ يصبِّرُ على المصابات ويفنِّدُ أسباب الحزن واحداً تلو الآخر.. فيقول “إن الحزن ألمٌ نفساني يعرض لفقد المحبوبات، وفوت المطلوبات” “فإذن قد ينبغي أن نبحث هل يمكن أن يَعرى من هذه الأسباب أحد! فإنه ليس بممكن أن ينال أحدٌ جميع مطلوباته؛ ولا يسلَم مِن فقد جميع محبوباته” ثُم كأنما تدرَّج للفلسفةِ فقال: “لأن الثبات والدوام معدومٌ في عالم الكون والفساد الذي نحنُ فيه. وإنما الثبات والدوام موجودان اضطراراً في عالم العقل الذي هو ممكن لنا مشاهدته، فإن أحببنا ألا نفقد محبوباتنا، ولا تفوتنا طلباتنا فينبغي أن نشاهد العالم العقلي، ونُصيِّرَ محبوباتنا وقنياتنا وإرادتنا منه. فإنّا إن فعلنا ذلك أمنّا أن يغصِبنا قِنياتنا أحد، أو يملكها علينا يد؛ وأن نعدم ما أحببنا منها!” فانظر كيف أنه سلّى كل محزونٍ عن حُزنه حتى لا يقولَ قائلٌ “لِمَ أصابُ أنا دون غيري!” فإنما الكلُ مصاب، والدارُ دارُ كدر، وقد قال المصطفى عليه الصلاة والسلام “الدنيا سجنُ المؤمن وجنةُ الكافر” فكأنه عليه الصلاة والسلام يرُدُّ على كلِ مؤمن محزون: وهل تطلبُ من السجنِ غير ذلك؟ أوهل تعلم أن السجنَ يصلحُ أن يكون أهل لغير ذلك!؟

ولم يُغفلِ الإسلام ذلك، إذ نحنُ لو نظرنا إلى حقيقة القول في الحزن، نعلمُ أنه انعكاسٌ لنظرة الإنسان عن الظاهر للباطن، فحقيقية الحزن لا تكون في الدنيا وأسبابها، إنما في البذرة التي يخلقها في الصدر، لنرى أن الشريعة أهدت أصحابَ اليقين برداً وسلاماً، ووقتهُمُ أجيج النارِ في صدورهم، إذ كفتهم الحزن بدعواتٍ وأذكار، مَن قالها غارقاً في يقينه، أخرجَ لهُ الله تعالى من حزنه حكمة يلمسها، ومَن عمَّهُ الرضا بعد ذلك، وتكاملَ تسليمُهُ لربه، زاده الله السرور بحكمه، وأراه المسرة دُرَّة الحزن الشريف.

كما أن الحزنَ يأخذُ النفسَ لحجٍ تعودُ منه بريئة من ذنوبها عفيفةً عن خطاها، ترتفعُ وتسمو حتى لتجعلُ الإنسان في حالةٍ روحانية عجيبة، قال في ذلك الشاعر:

والحزن في النّفس نبع لا يمرّ بــه

صادٍ مِنَ النّفسِ إلاّ عادَ ريّانـــــا

والخير في الكون لو عرّيت جوهره

رأيته أدمعا حرّى وأحزانـــــــا [3]

❃❃❃

إذاً بعد ذلك، ليس بغريبٍ… أن في الحزن ضُروباً من ضروب السعادة، أي: ليسَ في الحزنِ سعادةٌ واحدة، علاوةً على أن يكون حزناً مطلقاً، إذ أنظرُ أحياناً لتلكَ الأيامِ التي حَمَّلت روحي الآلامَ والأوصاب، فلا أراها إلا أياماً مجازيةَ الثقل، وألمسُ في الذكرى آلاماً تافهة، وأوصاباً سخيفة.. فأُرجع الفكر كرةً ثم اثنتين، فتتجلى رغبةٌ عارمة بالضعف، رغبة بالتهاوي.. نسفٌ لدعاوي الصلابة المطلقة الزائفة، وإنَّ إنفاذ تلك الرغبة: وجه من وجوه السعادة في الحزن!

كذلك، وجهٌ من وجوهها فيه.. أن تكتبه، وتبكي عليه.. فيخلد!

تَبْدُو حُرُوفُ الحُزْنِ زَهْرًا بَاكِيًا

يَقْتَاتُ غَيْثًا مِنْ جُفُونِك تُمْطِرُهْ! [4]

أنك تكتب دمعةَ أحدهم.. إنسانٌ بين ثماني مليارات نسمة، إنما بدمعة خالدة!

فــصوغيه كالفنّان يبدع تحفه

ويـرمقها نشوان هيمان معجبا

فما الحزن إلاّ كالجمال، أحبّه

وأترفــه، ما كان أنأى وأصعبا [5]

❃❃❃

إن الله تعالى أنشَرَ لكلِ من أنهكَهُ الحزن عبداً من عباده يجعلُ على يديه فرحه، فيوسف “قَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ” ويعقوب أتاه البشير، وقيلَ لأيوب “ارْكُضْ بِرِجْلِكَ” عليهم السلام جميعاً، إنَّ الله -عزَّ وجل- لا يتركُ عبده، إلا أن الناس بين اثنين، رجلٌ أُصيبَ فتفكر واصطبر، وآخر أصيب فأدبر واستكبر، وقال “أنى يكون”!، “بَل لِّلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا”!، ولكن أكثر الناس لا يفقهون..

والعلاقات والروح والطبيعة 1 المسَرَّةُ: دُرَّةُ الحُزنِ الشَريفِ

إنَّ الروابط التي تنشئ بين الناس عن حزنٍ أوثقُ عرىً وأقرب صلة، وإن المحزونين يشعرُ بعضهم ببعض، بل يكاد يكونون بعضهم من بعض..

أجارَتَنا إنّا غَرِيبَانِ هَهُنَـــا

وكُلُّ غَرِيبٍ للغَريبِ نَسيـبُ

والغريب محزون…!

إن الحزن غورٌ عميق في الإنسان لا يصله كلُ أحد، أشبهُ ما يكون أنك ترى بئراً ذراعاً بذراع.. غير أنها خوقاءُ [6] بعيدة الغور، فمن تعنّى خائضاً دركاته، نازلاً درجاته، هاتكاً ظلماته.. أيكون بعد ذلك امرئً عادياً يمُرُ هوناً ولا يُتعلَّقُ بأسمالِه!

ألا أن رقابنا أثقلت حُباً وامتناناً وشوقاً لكل مَن خاضَ إلينا غياهب الجبِّ فاستنقذنا منه، ألا لِكلِ مَن انتشلَنا من تلك الظُلَمِ التي بعضها فوق بعض، لَكَمْ نحنُ مدينون بكل السعادات.. لِمن أهدانا ضحكةً آن حزن!

❃❃❃

أيا عابراً الوجوه السعيدة المنبسطة الأسارير، أيا سائراً لِمَن تعس وجهه، وساء حظه، وأُوغِرَ صدره.. أيا مولياً صوبَ الأشقياء، ميمماً نحو البؤساء، مفتشاً عنهم؛ أيا مشتت الشتات، ومبعثر الحزن، وطاوي الهم، مُروّحَ الغم[7] .. لكأنكَ الملاك المنزَّل، والرحمة السائرة.. ألا لو أنه اشتُقَ من الجبرِ اسمٌ لكان فعلك، فما أعظمَ أجرك! وما أبهى طلَّتك، وما أحسن فعلك.. ولو أنَّ بكلِ بلدةٍ أنت لَما رأينا في البلاد كئيباً ولا حزين.. إلا أنها رحمة الله، يجعلها حيثُ يشاء! ويا هنيئاً لِمن جعله الله مظهراً من مظاهر رحمته سبحانه! ويا سعدى لمن حملَ بلاءَ الشيطان إليه، فكما قال الشيخ .. “[8] بدخول السرور على القلوب: يفِرُّ الشيطان!”

ليسَ بغريبٍ أن يجعل الله جبرَ المكاسير، وخيط جراحهم، قربةً من أعظم القربِ لله تعالى، ليسَ بمستغربٍ على الرحمن الرحيم، أن يُهدي الرحمةَ مَن يُحب، وينزعها عمن يبغض، وليسَ بمستغربٍ على مَن يرحم النحلة والنملة فلا يقتلن، والشاة فلا تذبح أمام اختها، والحُمّرة [9] فيرد عليها فراخها، أن يرحمَ العبيدَ فلا يجعل حزنهم حزناً مطلقاً!

إن مَن يُكرر علينا في كتابه الكريم “الرحمن” “الرحمن” سبعاً وخمسين مرة، ومَن يكرر علينا “الرحيم” “اللطيف” “الخبير” “الودود” جديرٌ أن يُسلَّمَ إليه، ويوثق بحكمه، ويرضى بقضائه، ويُتيَّمنُ بكلِ ما هو منه سبحانه، فــ (إنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ).

الهوامش:

  1. وحي القلم- الانتحار2
  2. وحي القلم- الانتحار3
  3. لِـ بدوي الجبل
  4. لــ محمد بركات
  5. لــ بدوي الجبل
  6. شُرِحت فيما بعدها؛ خوقاءُ أي: بعيدة الغور
  7. يُقال: رَوِّح عني. ويقالُ: روَّحَ فلانٌ عن فلان.
  8. من كلام الشيخ العارف إبراهيم الإحسائي
  9. طير من فصيلة القُبرات، يستوطن الصحاري

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. من جمال هدايا القدر أن نستقي من عذب هذه الكلمات التي أخالها قد غرفت من بحر يقين ورضا من الرحمن الرحيم
    بورك يراعك يابُني أهديت من بحر قلبك الندي حكم عظيمة الأثر دثرت كل قلب حزين بالرضا وحسن الظن بالله تعالى
    حفظك الله من كل سوء وملأ قلبك بسرور رضاه إلى أن تلقاه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى