أدب

المقامة الرثائية

روى مسلمُ بنُ عبدِ اللهِ قال: أسرتْني زينةُ الدنيا وملهياتُها، وغلبتني أشغالُها وشهواتُها، فأحسستُ أني قد صرتُ جسداً بلا روح، وطفِقتْ رائحةُ القساوةِ من صدري تفوح، فلم أعدْ أشعرُ بلذةِ الطاعات، وحلاوةِ العبادات، حتى طغتْ الغشاوة على مرآةِ الفؤاد، وأشرفتْ مصابيحُ النورِ على الأفولِ والنفاد، فتذكرتُ في دياجي الغم، سبيلاً يسرو بها الهم، وتنقشعُ بها سحبُ الكربِ الذي قد عم.

فقد نمى الثقات، والرواةُ الأثبات، عن النبي الأعظم، صلى الله عليه وسلم، حديثًا يحثُّ على زيارةِ المقابر؛ لأنها تذكِّرُ باليوم الآخر.

فحملتُ نفسي إلى مقبرةٍ أزورُها، لتعظَني قبورُها، فلما بلغتُ غايتي اتّبعتُ السُّنةَ في الدعاءِ للأموات، والترحمِ على أهل الأجداثِ الدارسات، ووقفتُ هناك متأملاً في ذلك الهدوءِ الطويل، والمشهدِ الواعظِ الجليل، وهو يعظُ الزائرَ بصمتِه، ويذكِّرُه بمصيرِه وموتِه، ويناديه بلسانِ الذكرى: أيها الآتي من دارِ الغفلة، السادرُ في زمنِ المهلة، هنا ستؤوبُ العقولُ بعد شرودِها، وتوقنُ النفوسُ بعد جحودِها، ويستيقظُ ذوو السبات، ويصحو سكارى الغفلات، وتنطفئُ جذوةُ اللاهينَ بالمحرمات، وتغشاهم الندامةُ والحسرات، فلا تغترَّ بالسلامةِ والإمهال، والسياحةِ بين الأماني والآمال، فوراءكَ أجلٌ يكادُ أن يدركَك، وقضاءٌ على الدنيا لن يتركَك.

وبينا أنا غارقٌ في لُججِ التفكير الذي يزجرُني، والمآلِ المحتومِ الذي ينتظرني، إذ رفعتُ طرفي إلى ناحيةٍ نائيةٍ في المقبرةِ الواسعة، وجوانبِها المتراميةِ الشاسعة، فأبصرتُ رجلاً قد أطال على قبرٍ الوقوف، فأسرجتُ نحوَه الدلوف، فلما دنوتُ إلى مكانِه من مكاني، ووقفتُ قريبًا منه حيثُ لا يراني؛ سمعتُه يناجي أحدَ الأموات، ويُسيلُ على جدثِه العبراتِ تلوَ العبرات، فكان مما قال، على تلك الحال:

السلامُ عليكَ حبيبًا ودّعناه، وصفيَّاً فارقناه، وصديقًا قلّ مثيلُه، وأخًا صالحًا ندرَ عديلُه، لقد جمعتَ من مكارمِ الشيم ما تفرّقَ في سواك، وحزتَ من سموِّ الفضائلِ ما لا ينالُه غيرُ عُلاك؛ فقد كنتَ جميلَ المعاشرة، حسنَ المحاضرة، حلوَ المسامرة، نقيَّ السريرة، بهيَّ السِّيرة، متهدلَ جنى الآداب، كثيرَ الإخوانِ والأحباب، قريبًا إلى القلوب، نزرَ الهناتِ والعيوب، تدنو مع علوِّ مكانِك، وتتوددُ إلى جلسائِك وخلّانك، من يراك يبصر سيما الصالحين، ومن يجالسُك يجالس أحدَ السالفين، تبذلُ المعروف، وتنجدُ الملهوف، وتزجي الضعفاء، وتواسي البؤساء، وتتفقدُ الأصدقاء، وتحسنُ إلى الأقاربِ والبعداء، وكنتَ لليتامى أبًا رحيما، وللأراملِ معوانًا كريما، وللجهلاءِ مرشدا، وللمستشيرين مسدِّدا.

لقد كان نبأُ موتِك أليما، وفراقُك لنا عظيما، فبرحيلِك رحل نجمٌ زاهر، وقمرٌ باهر، وشهمٌ تشهدُ له الحياةُ بالفضل، والمواقفُ بالرأي الجزلِ الفصل.

إن موتَك قد تركَ مكانًا لا يُسد، وخلّفَ فضائلَ لا يجمعُها أحد، فلسانُ المكارمِ ترثيك، وسحبُ الخيراتِ تبكيك، ودروبُ المحامدِ تفتقدُك، وسبلُ البرِّ تبحثُ عنك ولا تجدُك، وسطورُ الكتبِ تنعاك، ومدادُ الأقلامِ يذكرُك ولا ينساك، وسعادةُ الأيامِ ما فتئتْ تشكرُ لك العطاء، وابتساماتُ المعروفِ مازالتْ تلهجُ عليك بالثناء.

15 المقامة الرثائية

آهِ يا قبرُ مَن تضمُّ بينَ جنبيك، وأيُّ نورٍ قد نزلَ بين يديك، وأيُّ مزنةٍ عندك كانت تسقي العافين، ويبهجُ وبلُها منازلَ الممحلين، وأيُّ ضياءٍ كان يهدي السالكين، ويهتكُ ظلامَ الدياجي للسارين، لقد جمعَ ترابُك جسداً بالخيرِ نديّا، وخلُقًا كان بالفضلِ سخيا، وكتابًا كان بالنورِ مسطورا، وروضًا كان بالطيبِ معمورا.

لقد زرتُك اليومَ إلى رمسِك؛ إذْ فاتني تشييعُك في أمسِك، وأتيتُك للسلام، بعد جفولِ الزحام، ومواراةِ جسدِك الطاهرِ في الرغام، حتى أستطيعَ بثَّ شجوني، وإسالةَ دمعِ عيوني، بحيثُ لا يرانا ناظر، ولا يشهدُنا حاضر، فيقطع تدفقَ الأشجان، ويحبس منشورَ الأحزان، ويحبس العبراتِ عن الجريان.

لا غروَ فللفجيعةِ بك نارٌ تتأجج، وللقائِك أشواقٌ تتوهج، ولا يخفِّفُ الشجن، ولا يطفئُ شيئًا من لوعةِ الحزن، إلا هذا الصمتُ الذي أُسمعُك فيه صراخَ الحنين، وأنشرُ أمامَك حرقةَ الوجدِ والأنين.

ثم مكث ريثما يزوِّرُ قولاً ينشدُه، وعلى نجيّه يُلقيه ويُرددُه، فقال بعد ذلك:

يا من رحلتَ عنِ النواظرِ لم تزلْ

  ذِكراكَ في كلِّ القلوبِ سحــــابَها

تَهمي عليها حينَ تُجدِبُ أرضُها 

فتزيلُ بالغيثِ الهنيْ أوصــــابَها

ودّعتَنا وتــــــــــــــــــــــــــــــــــــــركتَ خلفَك أنفسًا 

 دونَ المصائبِ قد غدوتَ مُصابَها

تبكيكَ بالحُزنِ العميقِ قلوبُها

 ويكادُ نأيُك أن يكونَ ذهابَها

تبكيكَ نفسًا قد رأتْ إحسانَها 

 ورأتْ على هــــــــــــــــــــــام العلا آدابَها 

تبكيك نفسًا قد سمتْ أخلاقُها 

نشرتْ على أرجــــــــــــــــــــــــــــــــــائِنا أطيابَها 

تبكيــــــــــــــــــــــــــــــك نفسًا ترتقي بخلالِها 

 وتُنيلُ من كرمِ النّدى أصحابَها

 لك في النفوسِ منازلٌ معمورةٌ 

 نسيتْ لحبِّك في الأسى أحبابَها

هذي الدموعُ تبوحُ بالحبِّ الذي 

 غمرَ الفؤادَ فلم يلُمْ تَسْكَابها 

فعليكِ أمزانُ السلامِ تصبّبتْ 

 يا نفسُ طهّرَ ذو الجلالِ ترابَها.

01 1 المقامة الرثائية

ثم إنه قطع إنشادَه بالرثاء والثناء، ورفع يديه بالتضرع والدعاء، فقال:

اللهم أنزل على حبيبي شآبيب رحمتك، واشملْه بعفوِك ومغفرتِك، وأسبغْ عليه واسعَ فضلِك، وأحسنْ إليه بجليلِ نُزلِك، وأبدلْه داراً خيراً من دارِه، وجاراً خيراً من جارِه، واجعلْ قبرَه روضةً من روضاتِ الجنانِ، ولا تجعلْه حفرةً من حفرِ النيران.

اللهم إنه قد نزلَ إلى حفرتِه، فقيراً إلى رحمةِ ربِّه ومغفرتِه، يرجو خيرَك، ولا يؤمِّلُ غيرَك، فلا تحرمْه –ربَّنا- كرمَ النوال، وبلوغَ الآمال، وحسنَ الجوابِ عند السؤال.

اللهم اسكبْ عليه في قبرِه وابلَ العفوِ الغزير، ووافرَ السعدِ الشاملِ الكبير، ووسِّعَ له قبرَه، وتولّ برحمتِك أمرَه.

اللهم إنه قد كان يفضلُ على عبادِك فأفضلْ بمنِّك عليه، ويحسنُ إليهم فأحسنْ بفضلِك إليه، ويدعوهم إلى طاعتِك، ويغريهم بعبادتِك، راجيًا بذلك رضوانَك، وآملاً بسعيه غفرانَك، فلا تردّ-يا مجيبُ-هذا الدعاء؛ فأنت السميعُ ذو الغنى والعطاء، وأنت المنّانُ المعبود، والكريمُ ذو الفضلِ والجود.

قال الراوي: وكنتُ لما سمعتُ صوتَه ودعاه، وحدّقتُ بالنظرِ إلى مرآه؛ أدركتُ أنه أبو الحارث حقا، والقولُ قولُه صدقا، لكنني كرهتُ قطعَ وصلِ آهاتِه، وحبسَ منهمرِ عبراتِه، وتحدرِ سيلِ بيانِه وكلماتِه.

فلما انتهى من وقوفِه، وبذلِ ما استطاعَ لصديقِه من معروفِه، سلّمَ عليّ واستأذنني، ولوى وجهَه عنّي وودّعني، وقد عذرتُه لفرطِ حزنِه، وتصببِ دمعِ عينِه، ووعدتُ نفسي بسؤالِه عن صديقِه الحميم، الذي جللّه فراقُه بهذا الكمدِ العميم.

9/6/1444هـ، 2/1/2023م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى