أدب

 انفجار العوالم: تراكمات عرضية في قلبِ الشتات

في ليلةٍ عابرة جلسَ إليَّ أحد الأصدقاء، شابٌّ نبيهٌ، لطيف، حسن المعشر، يدانيني في العمر، مطلعٌ، مثقف، ملتزمٌ بعضَ الشيء؛ جلسَ بغيرِ الوجه الذي أعرفه، نظرتُ إلى عينيه، بدت لي باهتة، ذاهبةُ البريق، لا حياةَ فيها! جلسَ إليَّ للبوح. أعلمُ ذلك.. لكنَّه صامتٌ متكورٌ على ذاته، فقَدَ مفتاح البدْء بالحديث! بطريقةٍ ما، عليَّ أن أجعله يثرثر، ليفضَّ الغشاوة عن قلبه، حَسَنًا، شيءٌ من الكلام المكرر الممل سيفُضُ عنه، قلتُ بسذاجة: كيفَ حالك؟ رفعَ عينيه إلي، بكلِّ كمده، وهمِّه، بكلِّ شتاته واغترابه.. “جيد، أنت كيف حالك؟” خِلته يصرخُ بها، على أنَّ صوته وصلَ إليَّ هادئًا! حسَنًا، ها هو ذا، يبدو أنه سيتحدث.. يقول:

أتعلم.. كان من الممكن أن أكون اليوم تحتَ الرُّكام مع الآلاف ممن أرادتهم المقادير لذلك، أو تعلم.. كان من الممكن أن أكون ممن تمزَّقت أجسادهم بشيءٍ من القذائف أو الشَّظايا، وكان من الممكن أن أكون ممن اخترقت الرصاصات رؤوسهم، كان من الممكن أن أكون كل ذلك، أنا خارجٌ من أرضِ حرب! إذًا من الطبيعي أن يكون من الممكن أن أكون أنا ممن مات بطريقةٍ أو بأُخرى..

لكن جرتِ المقادير بغير ذلك، هبْ أنَّ الرصاصات اخترقت رأسي، وأنَّ القذائف مزَّقت جسمي، هب ذلك كله كائنًا.. ما عسى يكون اليوم حالي؟ أقل ما سيكون… أني سأكون حُرًّا، لي روحٌ طيَّارة.. لا يحدني حدٌّ ولا رسم، ولن يكون بيني وبين من أهوى، وما أهوى حائلٌ أو حاجز، لكنما أنظر حاليَ اليوم، حيٌ أرزق! يا لحسرتي، يا لِعِظَمِ الخسارة، أفلتُّ الموتَ من يدي!

قعدتُ مُفكرًا بكل أولئك الذين سقطوا في ميادينِ الموت..  قارنتُ حالهم بكلِّ من سقطوا في شتى ميادين الحياة! لم يحتج الأمر مني لكثير تفكير، فالحكمةُ نطقت ذات يومٍ على لسانِ شاعر:

“جاورتُ أعدائي وجاورَ ربه  

شتــان بين جواره وجواري!”

لا بأس بشيءٍ من الشَّتات، على الرغم من كلِ النِّظام والرتابة التي أعيشُ بها! أكثر ما انتظمَ عندي ذات يوم، الضغوط! نعم الضغوط تنتظم في حياتي بشكلٍ مخيف! كل شيءٍ يأتي بوقته، فلانٌ بِثقل حديثه كله.. لا يتأخر عن ميعاده ساعة! الدائرة الفلانية.. لا تتأخر، بل تناديني من بعيد، العمل، الدراسة، الجامعة، الأشخاص.. الدكاترة، الأصحاب، الزملاء… الجميع الجميع، لا أحد يتأخر عن موعده، كلٌ يأتي ساحبًا همّه، هائمًا على وجهه، ليسقطَ وهمه، بعد لحظة، أرقبها.. ها هما يجثمان على صدري كالفجيعة!

لا مشكلة، كذلك اعتاد النَّاس مذ خلقَ الله آدم. أنا، مِني.. إلى الماضي، إلى المستقبل، إلى الحاضر، إلى شيء مِن كل ما تراكم عليّ، إلى رواية مُرَّة، وإلى كتابٍ مرة.. فأنا وإن جلستُ أضل متنقلًا بين كل شيء، اعتدت على ذلك، ما حصلَ أن هدأت ذات مرة! أتعلم، وقعتُ على روايةٍ منذ فترة، لا أزال أتجرع مرارتها يومًا بعد يوم، في ليلةٍ من الليالي، قعدتُ أقرأ، وقد التهبت عيناي أو كادت.. مضت ساعات لم أفق من غفوتي، أعصابي تلفت، العذاب، العذاب.. الكثير من العذاب، أقرأ، أصطحبُ وإياي كل الشَّتات المعنوي، كل الشتات النفسي، العاطفي.. أنا أقرأ بكلي، لِذا، كُنتُ أحسُّ بوقع السِّياط عليَّ، اهترأت قدماي من التعذيب، انفجر قلبي أو كاد من مناظر الشَّقاء، كنتُ قد سمعتُ عن محاكمِ التفتيش… هه كانوا قومًا غايةً في اللطافة!

ما هو أحقر من التعذيب؛ حياة السجن نفسها، السجنُ قاسٍ لدرجة تتعالى عن الوصف، صدقني لو عُرِضَ على كلِّ سجين أن تخترق رأسه عشر رصاصات يُبعثُ بعد كل واحدة منها حياة جديدة ليموت مرة أخرى، أو أن يبقى في السجن يومًا آخر، لآثرَ الرصاصات المئة.. لا العشر! أنا كُنتُ مع المساجين تلكَ الليلة، أكبحُ الدَّمع بصعوبة، أكتم كل آهاتِ الألم، كان أدنى صوت خارج الرواية كفيلٌ بانتزاع كلي، بل كانَ كفيلًا بالانفجار! أقل صوت خارجٌ عن صوت الرواية كفيل بإهدار آخر قدرةٍ على التحمل، على صاحب الصوت أن يحتمل الانفجار اللحظي..

prison  انفجار العوالم: تراكمات عرضية في قلبِ الشتات

-“ياسين”

أفزع فالتفت بحركة مضطربة، وقعُ اسمي عليَّ كوقع القنبلة! تشنجٌ عصبيٌ بسيط، نظرة حادة.. قبل أن أجيب أخيرًا: “نعم !؟”

بعد كل هذه الانفعالات والاضطرابات، يوقن المنادي بأنه لا جدوى من الحديث معي.. وبعينين ذاهلتين تقريبًا يجيب ” لا شيء “.

هو موقن أنه لم يفعل أي شيء، مُطلقًا، لكن.. مؤشرات ردة الفعل تقول إنه ارتكب جريمة ما!

أعود لغفلتي، هذا النَّابض لا يزال أرِقًا مضطربًا يتلجلج بين أضلعي يريد أن يفتعل حربًا، الجوارح منهكة، إذًا.. لا استجابة، أعصابي تالفة، وإن صحَّ التعبير.. إحساسي يضطرم لأجل شيءٍ ما لا أعلم ما هو..

هذا أنا، أنا كذلك منذ زمان بعيد!

قلبي ميت، لكنه يشعر كثيرًا! الآن -يا صديقي- تلفُ الأعصابِ بلغَ مني مبلغه، لا أكاد أستقرُ ببصري على شيء..

أقولُ أحيانًا: “الله فعل ذلك” نعم، يعيدني إليه.. أنا من هربت، نعم كذلك…

أتعلم… أنت تعرفني كثيرًا، ومنذ زمن، لكن أخبرني، أترانِيَ إنسانًا مرفّهًا!؟ لا أدري.. انظر لحالي، ليس سيئًا، نعم نعم لربما، إلى حدٍ ما.. لكن أنا خَرِبٌ من الدَّاخل كثيرًا، لا أعلم إلى ما سيؤول هذا كله، لكن ثمَّةَ صباحٌ يمزِّقُ الليل المدلهِم كل يوم لأنسى شيئًا ما، انغماسًا بكل جحيم هذه الحياة ونعيمها، أنسى.. إلى أن يأتي الليل، يتهدَّمُ كل شيء حولي، أنا أعيشُ صباحًا بشكلٍ جيد، لكن هل تكون الشمس حارقةً فعلًا لِبعض الوحوش كما كنا نرى في الأفلام؟ هل الصباحُ طيبٌ لهذا الحد؟ انظر.. فعلًا، إنه ينعشنا، لكن هل يُحرقُ الأشرار.. لا أدري، سأظلُ أفكر…

لاحظتُ غرَقَه عند هذه الجزئية، وجهه مُحمَر، بدأ يتعرق.. “أول الغيثِ قطرة” إنه يبكي!

سكتَ هنيهة، ثُمَ أكملَ بصوتٍ متهدِّج:

هذه السنة تقريبًا.. حسبما أذكر، بكيت مرتين، أذكر أني ارتحت كثيرًا بعد ذلك، أصلاً.. لم أكن أريد أن ينتهي ذلك البكاء أبدًا.. كان البيت خاليًا، خرج الجميع، لسببٍ ما أصررتُ على البقاء، وحيدًا، إذًا لن يسمع أحدٌ ذلك، أسلمتُ لقلبي ناره، ولعيني دمعها، وللصدر شهيقه واضطراب نظمه، وأخذتُ أحاول كتم بكائي بالوسادةِ خشيةَ أن يسمعَ الجيران، فلم أفلح، أخذتُ بطانيةً ثقيلة، لففتها على رأسي، اختنقتُ بها إلى أن خمدت ثورة القلب، ولمّا هدأت، أحسستُ بخسارةٍ كبيرة، إذ لا أزال أريدُ أن أبكي! أخذتُ أستَدِرُّ الدَّمْع، أغمضُ عينيّ، أتذكر كل سيئات هذه الدنيا، أتذكر كل شيء، أتذكر كل الإحباط.. الرِّواية، النَّار، جهنم، الصبح..  بدأت تمر أمامي الكثير من الكلمات، خِلت أني سكِرتُ، وطفقتُ أبكي مرةً أخرى، بكاءً مُرًّا، هتكَ السِّتر عن كلِّ هذا الضَّعف الآدمي، الجميع يعرفُ مَن أنا، أنا لا أبكي!

قالها وأخذ يكررها بمرارة العالم كله “أنا لا أبكي أنا لا أبكي” قالها واختنق صوته في حلقه، فأدركتُ أن “المرتين” أصبحت “ثلاثة” فلا مناصَ من الهرب.. رأيته، هذا البكاء الثالث!

دقائق مضت، كِلانا صامت، وتثبيتًا لقاعدته، أزحت نظري عنه، فهو لا يبكي! إذًا أنا لم أر أي شيء، انتظرته دقائق أخرى، هدأت ثورته بعض الشيء، استعاد صوته شيئًا من حزمه، تنحنح.. بلَّ ريقه بشيءٍ من الماء، نظر إليَّ بشيءٍ من العطف! ثُم تابع كلامه.. يقول:

في المرةِ الثَّانية لما بكيت، كان جسمي كله قلبٌ كبير.. أنا لا أرجف، لكنني كنتُ قلبًا نابضًا كبيرًا، بحجمِ الخيبات، وكالعادة، لم أكن أعرفُ سببَ بكائي، موقنٌ أنها كثبان التراكمات، الكثير من ذرات البارود، لا أعلم من فجرَّها.. في تلك اللحظات، كنتُ قد يئستُ من الجميع، لا أمل لي عند أي أحد، الجميع خونة، الجميع غدارون، اعذرني يا صديقي، حاولت تنحيتك عن فكري تلك اللحظة، أنت وقلة آخرون، نسيتكم عمدًا… قلبي كان يقول إنَّ الجميع خونة، إذًا الجميع كذلك، خُتِمَ على عقلي، لكنَّ ذاكرتي لا تنسى.. لا تخف؛ ويئستُ من الجميع، وطفحت الحسرات، وطفحَ الشؤم، ولم يكنُ من العتب بد، فما عتبتُ على أحدٍ سواه، عاتبتهُ وأنا الأحقُّ بالعَتَب.. فأنا من غادَرَ وتنكَّرَ لكلِّ شيء، نعم، عاتبتُ ربي، ما كان العتب ليجدي نفعًا مع أحدٍ من ولدِ آدم، فعاتبتُ ربي وربهم، ولربما كان لسان حالي، لسان الكليم) رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ)، نعم، أنا أصابتني الرجفةُ كذلك، لكن هل عبدتُ عِجْلَ نفسي.. لا أدري، عاتبتُ الله، واضِعًا عنده أملًا لا يخيب، وحلمًا لا بدَّ لا بد أن أراه، ورجوته رجاءَ الهالك منقطعِ الأمل، أيقنتُ أني قلتُ كل شيء، عندها فقط، نزعتُ الغطاء الذي أظلني، أزحتُ الوسادة، قمتُ بلا هدف.. استلقيتُ مرةً أخرى، لكن هذه المرة بروح أخرى، استلقيت ناظرًا للظلام من حولي، متمتم (رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا)، أنا خبيث، فالله يعلم أني قصدتُ الجميع، لكنه يعلم كذلك أن لساني منعقد عمن أحبهم! أخيرًا.. قلتُ سِرًّا وجهرًا “ابقَ بجانبي، فالكلُ ذهب” قمتُ.. توضأت، نكستُ رأسي، استحيتُ أن أنظر في المرآة أيضًا، على الدمع أن يجف أولًا! نظرتُ للفراش.. قلتُ في سري: يجبُ أن أسرع بتجفيف لترِ الدمع هذا!

انتهى إلى هُنا، نظرَ إلي.. ابتسمَ أولاً ابتسامَ المُكرَه، ربما لأني سمعتُ كل شيء، لكنه سرعان ما انفجرَ ضاحكًا، يقول: علامَ الحزن.. اضحك!

نعم… علامَ الحُزن؟ اضحك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى