Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
أدب

“بخيط من حبر” نسجَ بُرَيْه بهاء الكتابة

“بخيطٍ من حبر” عنوان كتاب للأديب والناقد اليمني “خالد بُرَيْه”. وهو عنوان رهيف شاعريٌّ، ما أجدره عنوانًا لقصيدة من الشعر، أو -على أقل تقدير- لرواية عن الحسّ. عنوان غزير الدلالات؛ ففضلًا عن بكارة استخدامه وتداوله على الأسماع، وعذوبة نطقه في الإيقاع؛ يتكشَّفُ منه ربطُه وتوثيقُه بين الكتابة والمعاني، والخيوط والنسيج؛ بطريق الاستعارة المكنيَّة، التي شبَّهَ فيها القلم بالمِغرز، والحبر بالخيط القماشي، والكتابة بالبُنيان الكُلِّيّ للنسج بعد عقده وغزله. وهذا نظر عميق في رؤية الكتابة والإبداع، يليق بمقام الكتابة الرفيع، ويدل على مقام الكتابة في نفس الكاتب، ويشير إلى اعتراضه على كتابة العصر المُهلهلة بطريق الدلالة الخفيّ. كما يُوحي العنوان -لي شخصًا، عن طريق استبطانه بعد ربطه بمحتوى الكتاب- بأسلوب في الكتاب أراه واضحًا؛ وهو سيره الدقيق بين الكثير من المنعرجات بين الثنائيات والازدواجيات التي يعيش الكاتب في ظل بعضها، ونعيش جميعًا في ظل سائرها.

وإذا كان الكاتب قد مزج في كتابه المَنازِع النفسية والفكرية، وأشياءَ من الذات والذاكرة، ونُتفًا من نبرة التعليم؛ أقول إذا كان الكاتب قد مزج في الكتاب، فلأحاكِهِ المَزجَ في تحليل الكتاب، على أنْ أُعمل مهارةً في الحدس والاستنباط في بنية الكتاب لمعرفة ما لم يكتبه الكاتب، شرط ارتكازي على التجربة دون مجاوزة.

من حبر "بخيط من حبر" نسجَ بُرَيْه بهاء الكتابة

كتاب "بخيط من حبر"

كتاب “بخيط من حبر؛ دفقةٌ من الضوء والغواية والأدب”، صدر في القاهرة، عن دار “العصريَّة للنشر والتوزيع”، في طبعته الأولى 2023م. والكتاب من تأليف د/ خالد بُرَيْه، المتخصص في الدراسات القرآنية؛ إلا أنه كتاب أدبي. يتكون من تقديم، وثلاثة محاور، وخاتمة، ومُلحق. وتضمُّ محاورُه وخاتمتُه خمسًا وعشرين مقالةً.

والكتاب ينتمي في تصنيف المكتبة الأدبية إلى كتب “المجاميع المقاليَّة”، وهو صنف من مؤلفات أهل الأدب يجمعون فيه ما سبق لهم نشرُه أو كتابتُه من مقالات غير مصنفة تحت وحدة موضوعية، أيْ تضمُّ كُتبُ هذا الصنف مقالات متنوعة الموضوعات، لا يجمع بينها -في الغالب- إلا الكتاب نفسه، وقد يجمع بينها -حينًا- توقيتُ كتابتها (فيضم الكاتب مقالات عام أو عدة أعوام)، وقد يجمع بينها نسق كتابي، أو أسلوب اتبعه (فيجمع مثلًا مقالاته القصار أو الطوال، أومقالاته الأدبية أو العلمية…)، أو مقالات موجة فكرية ومذهب أدبي تأثر به الكاتب في مرحلة (فيجمع مقالاته أيام كان شيوعيًّا أو وجوديًّا أو…). وقد أصدر هذا النوع من التأليف جمهرة عظيمة من أهل الأدب على مر التاريخ حتى اليوم.

هذا تقعيدي للتصنيف عامةً، أما عن هذا الكتاب؛ فالكاتب قد جمع بين مقالاته برباط هادئ لطيف، هو فكرته في العنوان -التي أشرت إليها في المقدمة-، مضيفًا إليها العنوان الفرعي “دفقة من الضوء والغواية والأدب”؛ فأضاف به إيحاء إلى المقالات ذات التنوع الموضوعي، وأشار به إلى أن جامعها هو الكتابة و”غواية الأدب”؛ وهو تعبير معهود بين أهل الأدب يقصدون به أن الأدب مصدر التذاذ واستقطاب لا يُماثله مجال آخر، فمَن دخل دائرة الأدب من باب الهوى، واستقبله قِبلةً؛ سار كوكبًا دائرًا في فلكه، كما الكواكب في فلك الشمس، تتبعها حتى إنْ احترقت (ولهذا الملمح الأخير في الكتاب كلام سيأتي). وأشار بالضوء إلى ما استنار له من أفكار وثمارِ قدحٍ ضمَّها في مقالاته.

وهذا الصنف الأدبي تعسر الكتابة عنه. فيقف هذا التنوع الموضوعي حائلًا أمام الكاتب، مُحيِّرًا إيَّاه في مرتكز كتابته. وتطالعنا هذه الحيرة متى قرأنا مقدمات الكُتَّاب عن أحد كتب المجاميع المقالية التي يعيدون نشرها لكاتب مشهور بعد موته؛ فلا يجد الكاتب من حيلة إلا إيراد مقدمة شديدة القصر مُنوِّهًا فيها عن إمتاع الكتاب أو فائدته، أو مقدمة يركز فيها على مقالين أو أكثر أثارت انتباهًا خاصًّا، أو مقدمة مهترئة تشير لكل مقالة بكلمة حتى يتهلهل نسيجها. لكني سأحاول هنا سلوك طريق معتدل متوسط في المعالجة، يرتكز على منهج الكتاب وروحه الكلية.

e5403e32 e3a5 44c5 93e2 7ead17c0c244 "بخيط من حبر" نسجَ بُرَيْه بهاء الكتابة

"بخيط من حبر"، إعادة الاهتمام بالكتاب اليمنيّ

رغم تاريخ اليمن التليد، ورغم أنها من أقدم الحضارات، ورغم ذكرها في البيان الحكيم؛ إلا أن المكتبة العلمية والأدبية اليمنية ظلَّت محليَّةً لا تجوز القُطر إلى غيره، وتصيبها لعنة تهميش الأطراف لحساب المركز. ويقع عليها ظلم ما أقبحه وأفدحه في قلب المبدع اليمني. وليس مُشتَهَرًا في المكتبة العربية العامة من كتب أهل اليمن إلا كتب نفر قليل؛ منهم الإمام الشوكاني، والشيخ عبد الرحمن المُعلِّمي -وهو متقصر على لون من الثقافة الإسلامية، وأقل شهرة بما لا يقارن بالأستاذ الشوكاني-، والأديب اللامع علي أحمد باكثير.

وصاحب هذه السطور -وهنا أحاكي صاحب الكتاب في استطراده- ذو صُحبة مع اليمنيَّيْنِ المُشتَهَرَيْنِ؛ فقد درست الإمام الشوكاني -بحُكم الدراسة- مع من درس، لكنني اهتممت بكتبه، وما زال “إرشاد الفُحُول” -وهو من ألمع الكتب الأُصوليَّة- يُطالعني من المكتبة قيامًا وقعودًا، و”نيل الأوطار” المُعجب في ذاكرة مطالعتي. أما اليمني الآخر “علي أحمد باكثير” فقدَّر الله أن تطول الصحبة بيننا؛ فقد قرأت له نيِّفًا وسبعين كتابًا -أيْ كل ما كتب إلا نوادر-، ليصير أكثر مؤلف قرأت له عددًا من الكتب -مع الأستاذ توفيق الحكيم-. وهو شخص عزيز على نفسي، لا تبارحني آثار “ملحمته الإسلامية الكُبرى”، ولا مسرحية رقيقة عذبة عنوانها “هكذا لقى اللهَ عُمر”. دون هذين العَلَمَين لم أقرأ -فيما أذكر- لأي كاتب يمني آخر، حتى قرأت كتابنا هنا.

وقد اهتمَّ “بُرَيْه” بمُشكلة التهميش التي تعانيها الثقافة اليمنية في مواضع من كتابه -كلما أمكن-؛ فأشار في حديثه عن الأستاذ باكثير، وفي هامشه عن الشوكاني، وفي حواره الذي أثبته في آخر الكتاب؛ الذي بث فيه ملامح واسعة من معاناة الكتاب اليمني. ولعلَّ صوته -بمُساعدة كل مخلص- يثمر نفعًا وتغيُّرًا في الموقف العام المستمر حتى اللحظة. ولعل من أبرز معالم استمرار التهميش أن كتابنا هنا مطبوع في مصر، استمرارًا لقاعدة قهر الأطراف والاقتصار على المركز.

وإكمالًا في سمت الاستطراد؛ كم استهواني وأطربني الإهداء اللطيف الودود، المُعبَّق بعطر الزمن الذي استفتح به “بُرَيْه” كتابه؛ إلى “الأشرم” بائع الكُتب في صباه في اليمن. وقد وُفِّق -في صدق شعوريّ- أنْ يُظهر مُوالاة الذكرى لصاحبه البائع، رغم شعور الصخب -وقد يكون الحنق- حين ارتداده إلى زمن الحدث من مُغالاة البائع في أثمان الكتب. أعرف هذا لأن إهداءه قد ردَّني ردًّا إلى كثير من بائعي الكُتُب الذين صحبتهم سنين، وفيهم شخص يشبه الأشرم هذا، وقد ذهب الحنق وبقي شوق اللقاء، ولو باعني الكُتب أطنانًا من الذهب.

متلألئة. بقوة سحرية. سحري. صاعقة صاعقة حول كتاب متوهج متوهج في غرفة الظلام 2 "بخيط من حبر" نسجَ بُرَيْه بهاء الكتابة

أهم آفاق وأُطُر "بخيط من حبر"

قلت -من سابق- إن “بُرَيْه” جمع المقالات الواردة في الكتاب بجامع هو فكرة العنوانين -الأصيل والفرعي-. ويعني ما قلت أن هناك رابطًا وأفقًا يربط ويسلك هذا العقد من المقالات. وبينتُ أن صعوبة الكتابة عن هذا الصنف الكتابي تكمن في عدم وجود مرتكز يتناوله الكاتب أو الناقد في كشف التجربة الكتابية. فما هي الآفاق والأُطر التي ربطت وجمعت بين المقالات؟ أربعة في نظري بثنايا الكتاب.

الإطار الأول والأعظم هو الكتابة فنًّا وحياةً؛ فلن تطالع الكتابة في صفحات هذا الكتاب فعلًا يمارسه الإنسان بيده على ورق، بل تطالعها حياةً يحياها الإنسان ويتنفسها، ودثارًا يتدثر به الإنسان من سُخف العالم المحيط الذي لا مهرب منه، وبلورة سحرية يكتشف بالنظر فيها حقيقة نفسه ونفوس الآخرين. والكتابة التي نسجها بخيطه الحبريّ هو خلاص ذاته، وفعله التذوقيّ لما حوله وما بين جنبيه. ثم يبارح “بُرَيْه” هذا المفهوم إلى محاولة التأسيس لقواعد النموذج الكتابي الذي يليق بهذا الدور للكتابة، في صورة ملحوظات فنية، وأخلاقيات لصاحب الكتابة. وقد وُفِّقَ فيه للكثير من المظانّ اللطيفة في ضروب هذا الفن الكتابي. وقد ضمَّ هذا الإطار غالب الجزء الأول من الكتاب، ومقاليْ “تباريح الوجع على أعتاب قرطبة”، و”الوهم المعرفي: ارتفاع للسقوط” من الجزء الثاني، وملحق “ماذا يعني الإنجاز؟”.

الإطار الثاني هو ثمار من حديقة الكتابة الجيدة، تناول فيها إنتاجات مفيدة ثرية لزملائه من الكتاب القدامي والمعاصرين. وقد ضم هذا الإطار غالب مقالات الجزء الثالث من الكتاب.

الإطار الثالث علاقة النص بالصورة، والتناول التحليلي للأعمال الأدبية حالَ تحويلها إلى عمل مُصوَّر. وواضح -من استبطان الظاهر- أنه من أولى الموضوعات التي استولت على تفكير الكاتب في السنوات الأخيرة. بدأه بموضوع في الجزء الأول “التلقي بين صورة النص ونص الصورة”، وحديث عن المسلسل الشهير “لعبة الحبَّار”، ثم ثنَّاه بتناول تجربة “الزير سالم” في الدراما العربية، وحديثه عن المخرج “حاتم علي” والكاتبين “وليد سيف” و”ممدوح عدوان”، ثم ثلثَّه بتناوله لمسلسل “ناركوس” الذي تمحور حول تاجر المخدرات الشهير “بابلو إسكوبار”، وكذا تناوله للفيلم الهندي “النمر الأبيض”. وهذا الأفق من أكثر الملامح إثارة للاستبشار بالكاتب والكتاب، ومن مظاهر التجديد فيه. وكما سبق، فقد راعى “بُرَيْه” أنْ يربط العمل مكتوبًا بالعمل مصوَّرًا معًا، مُبرزًا رأيه في كليهما.

الإطار الرابع والأخير “المُقارنات”؛ فقد اهتم الكاتب بنهج المقارنة بين كاتب وكاتب، أو تجربة وتجربة، في أكثر من مقال. ولعل من ضمنها مقارنته بين العمل مكتوبًا ومصوَّرًا -كما سلف-، ومنها مقارنته “سلَّامة القس” بين الرافعي وباكثير، وتعرُّضه للقِران بين الأساتذة والتلاميذ في مقال “من الشيخ إلى المُريد”، ومقال “الرواية وسردية التاريخ” التي قارن فيها بين متداولي الرواية التاريخية المعاصرين.

من حبر مكتبة "بخيط من حبر" نسجَ بُرَيْه بهاء الكتابة

التصنيف الفني لمقالات "بخيط من حبر"

ما سبق في التعريف بالكتاب تصنيفٌ له في المكتبة الأدبية، أيْ أنه تصنيف خارجيٌّ عام. أما التصنيف الفنيّ الداخلي فشيء آخر؛ وأقصد به إلامَ تنتمي المقالات الواردة في الكتاب فنًّا؟ وبالنظر في الكتاب استبان لي وجود صنفين من الفنون في هذه المقالات؛ صنف المقالة الأدبية، وصنف المقالة النقدية والفكرية. وهنا أنوِّه إلى أن هناك فرقًا بين المقال الأدبي وبين المقال النقدي ذي الأسلوب الأدبي.

ضمَّ الكتاب من صنف “المقال الأدبي” -الخالص الداخل تحت هذا الصنف-: المقدمة “تقول الحكاية”، والمقالتين الأوليين “دويّ الصمت وقلق البدايات”، و”النص وعملية الخلق”، والمقال القصصي -وهو الوحيد في الكتاب- “الطريق إلى الثراء؛ نص وخيال وعطر رديء”، والمقال الإنشائي “تباريح الوجع على أعتاب قرطبة”. هذه هي المقالات الأدبية المدرجة في الكتاب.

والصنف الآخر هو “المقال النقدي”، يضم ما سوى المُعنون أعلاه من مقالات الكتاب. وهنا نقطة يجب توضيحها؛ أن المقال النقدي -مفهومًا- واسع المجال. و”بُرَيْه” يميل في مقالات نقده إلى أسلوب صناعة نص نقدي يُقاسم النص الأدبي كثيرًا من السمات؛ فيستخدم الجماليات التعبيرية، وقد يستدعي معادلًا موضوعيًّا، ويدلف إلى الموضوع دُلُوف الأدب لا دُلُوف النقد الصريح. والقسم الأخير من الكتاب مقالات نقدية صريحة. لكنَّ جزءًا من الكتاب تتأرجح مقالاته بين تصنيفَيْ المقال النقدي والمقال الفكري. عمومًا ممكن ضمُّه تحت صنف النقد.

وأستطرد هنا -على مذهب الكاتب- فأنوِّه إلى استنكاف بعض الأدباء من تصنيف ما يكتبون من مقالات أدبية عامة تحت اسم “النقد”، حيث يفرقون -تمييزًا لأنفسهم- أنهم “مبدعون”، وكأن النقد ليس إبداعًا. وهو مذهب مرذول، لا يفكر فيه إلا من لا يحسن رؤية الأمور وتقديرها. وقد كان “طه حسين” يحل هذا الإشكال -ولعله كان يصنف نفسه- بأن الإبداع الخالص (شعر، رواية، قصة، أقصوصة، خاطرة، مقال أدبي…) أدب إنشائي، وأن النقد أدب وصفيّ. وصاحب هذه السطور لا يوافق أصحاب الرأي المستنكف -وقد منَّ الله عليه بمعالجة كلا الصنفين-؛ بل يرى الإبداع والرصانة خصيصتين ومزيتين موجودتين في كلا الصنفين، وكذا الاتباعية والسطحية والابتذال صفات موجودة في كلٍّ. فهذا عمل نقدي بديع، وذاك عمل أدبي بديع. وهذا عمل نقدي مبتذل سطحي، وذاك عمل أدبي مبتذل سطحي.

old writer "بخيط من حبر" نسجَ بُرَيْه بهاء الكتابة

جانب الذاتية في "بخيط من حبر"

لعل مما يتصل بالنقطة السابقة؛ الحديث عن عنصر “الذاتية” في الكتاب. والذاتية أحد أهم سمات العمل الإبداعي، بل أخص خصائصه من حيث مُنشئ العمل. وهي من السمات الفارقة بين الأدب والعلم والفكر، ترتكز وتتمحور في كلٍّ على هيئة وتمظُهر مُعين. وكتاب “بخيط من حبر” يمتاز ببروز شديد لجانب الذاتية؛ فمفهوم الكتابة عند الكاتب يميل إلى اتجاه كونها خلاصًا فرديًّا، وأصحاب هذا الاتجاه تبزر لديهم الذات بشدة في العمل الأدبي.

ومن ملامح الذاتية في الكتاب دورانُ المقالات كلها ونبوعُها من إشكالات أرَّقتْ الكاتب، في سنوات طلبه لفن الكتابة، أو في الزمن الحالي، ومن قضايا وآراء وسلوكيات انطبعت في ذهنه من أثر تلاقيه مع غيره من الكتاب، في الكتب أو الحقيقة، ومن مُنجيات ينصح بها أي كاتب من مُنزلقات عاشها أو رآها في الآخرين. حتى في دوره مُتلقيًا نراه يُعوِّل على مسألة أفق تلقي العمل، وموافقتها أو تخييبها لذات المُشاهد، ونراه يعلي من دور بطل الأعمال الروائية بشدة.

ومن ملامح الذاتية في التشكيل النقدي بروز فكرة “التأليه والتقديس”؛ فالكاتب قد ركَّز على تأليه الإنسان نفسه في أكثر من نموذج (إسكوبار مثلًا). ويبدو أن هذا الملمح أو النظَّارة التفسيرية قد اكتسبها من معاناته من بعض ظروف بلده الحبيب. وكذا عرض للموضوع نفسه في تناوله لرواية “مزرعة الحيوانات”، لكن تركيزه انصبَّ على تشكيل المعادل لما يلقاه اليمنيون في حياتهم من معاناة.

كلُّ هذه ملامح ذاتية بثَّها الكاتب في كتابه، وقد أضفتْ هذه الذاتية على بنية الكتاب صبغة الصدق الشعوري والفني؛ فأنْ تتناول مشكلات صارعتها وصارعتك شيء، وأن تتناول مشكلات مررت بها أو عنَّتْ للمجتمع الأدبي شيء آخر. فإن الصدق وليد المُعاناة في الأدب. لكنَّ “بُرَيْه” وازَنَ بين الذاتية التي كانت سببًا في طرح غالب الموضوعات، ومعالجته للموضوعات بعد طرحها على ذهن القارئ، وإحداث إشكالية فكرية لديه. وهذه الموازنة تنقلنا لسمة مميزة جدًا لهذا الكتاب.

الأدَب

الثنائيات والازدواجيات في "بخيط من حبر"

هذه السمة لمْ يُصرح بها الكاتب في كتابه، ولم يقل شبهها؛ لكنني طالعتها بين ثنايا المعاني، وفي طيات المواقف، وفي جنبات التقريريات. باستبطان السطور، وشيء من الحدس؛ يتضح أن الكاتب قد عانى في تجربته الأدبية والفكرية بالكثير من الثنائيات والازدواج في أُفق الثقافة المجتمعية التي عايشها. أحدثت هذه الثنائيات حيرةً وشيئًا من الاضطراب في نفسه غير قليل، اعتمل مدة ظاهرة في تشكيله، ثم استقرَّ -أو كاد- على اختيارٍ من تلك الثنائيات التي تفرضها علينا حياتنا وثقافتنا.

أول ملامح الحيرة هي حيرته بين أدب ولغة العصور العربية الأقدم التي يرتضيها وينظر لها لغةً حقيقةً جديرةً بالأدب الرفيع، ومن جانب آخر تهافت العصر في أدبه الغث ولغته العرجاء. وهذه ثنائية يعيشها كل شداة الأدب العربي الرفيع. ويبدو أن الكاتب يجاهد ليحقق مزاجًا يعادل به بين ما يرضيه ويوصله إلى الآخرين.

ثاني الملامح تأرجحه بين قيم علمنة الأدب وإسلامية الوجهة. واضح كل الوضوح -أتحدث هنا عن نفسي- هذا الملمح من سطور ما كتب. واضح أنه يجاهد في مشكلة العصر بالنسبة للأدباء: أن الوسط الأدبي المسيطر علمانيٌّ، لا يُعلي مَن يكتبون ما يسمُّونه بالأدب الإسلامي، بل قد يمجُّون كل من يحاول هذا، ويصمونه بوصم التحيُّز والضيق -أو ما يظنونه وصمًا-. وواضح أن هذا الإشكال لم يكن مجرد تفكير، بل وقعت وقائع في حياته تعلق بهذا الصراع -طبعًا هذا كما قلت حدس-. وأرى أن الكاتب يحاول الموازنة، لكنَّه وقت الحسم لا يطاوع إلا ضميره ونداءه الداخلي.

وثالث الملامح تأرجحه بين الأدب والعلم، وهنا نعود لـ”غواية الأدب”. وهذه مشكلة أعرفها وعايشتها مدة طويلة، تنشأ في كل نفس نالت حظًّا من الأدب والعلم في آنٍ؛ فيظل الصراع بينهما. وهذا موضوع يطول شرحه. ويكفي أن أقول إن عذابًا من العذاب أن تتأرجح بين “رياض الأدب” و”قلعة العلم”.

"بخيط من حبر" نسجَ بُرَيْه بهاء الكتابة

أسلوبيات في "بخيط من حبر"

امتاز أسلوب الكتاب بالأناقة في التعبير، والسوق الأدبي للمعاني، واستخدام الأقوال والحِكَم، وكثير من نُقُول الكُتَّاب والنقاد المعاصرين والقدامى. وقد أسلفتُ ذكر بعض السمات مثل إيراد الموضوعات بالإشارة ابتداءً، واستخدامات للمعادل الموضوعي، وإبدال الكنايات بالتصريحات، وبعض الجرس في الفقرات، وغيرها من تقنيات العمل الأدبي.

وقد ظهرت نبرة تعليمية في المقالات الأولى، وكأن المقالات كُتبت لغرض تعليم الكتابة. وقد أدرج الكاتب بعض الهوامش في مقال “النص وعملية الخلق” كسرت جو الأدبية في النص، لصالح غرض تعليمي. وفي الحق، ظلم الكاتب نفسه بتصريح استخدامه “الاستطراد”؛ فقد أعمله في مقالات قليلة جدًا (مثل مقال من الشيخ إلى المريد)، أما البقية فلا يوجد فيها استطراد. وفارق بين الاستطراد وتوفية المعاني.

وامتازتْ رُوح الكتاب بالصدق الشعوري والفني، وبالنبل الأخلاقي، وإعلاء القيم الرفيعة (مقال من الشيخ إلى المريد)، والميل إلى التقصِّي والنهي عن ظلم أهل العلم والأدب بآراء شائعة عنهم، وكذا التركيز على الجانب الإيجابي من أية تجربة (مقال حسن حنفي)، والوفاء للمتقنين والمُجدِّين (حديثه عن أسامة شفيع السيد).

كتاب “بخيط من حبر” تجربة كتابية مُبشِّرة بما يأتي بعده من إنتاج هادف رصين، متعقِّل. ودعمُهُ دعوةٌ لكل أحد إلى الاهتمام بالأعمال المعتدلة الوسطية الهادئة في عالم ملأناه بجنون التعصب والصراخ. وها أنا أبادر بالاشتراك في هذا الاهتمام، وأفتح الباب للاهتمام به وبغيره من الأعمال الجادة المُبشِّرة في عالم تُرِكَ لنا مُلوثًا بآثار الابتذال والتدني، ونريد أن نتركه نظيفًا، لا كما وجدناه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى