أدب

تهذيب كتاب “مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية” ج1

كتاب “مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية” لمؤلفه د/ ناصر الدين الأسد؛ من أهم كتب الثقافة العربية الحديثة، ولا يقتصر نفعه على الأدب وحسب. لأن موضوعه “مصادر” الشعر، لا الشعر؛ فهو ليس كتابًا في الشعر الجاهلي، إنما هو كتاب في الثقافة العربية الأولى، قبل ظهور الإسلام، وفي القرون الثلاثة الأولى. ومن هنا تعاظمت لديَّ أهمية تهذيبه تهذيبًا لائقًا، ليكون نافعًا لكل قارئ عربي، يبغي تأسيس ثقافته عن العرب والعربية تأسيسًا متينًا بعيدًا عن الأفكار الهشَّة المتهافتة التي تنتشر في واعيتنا الحالية عن العرب الأولين، وعن الثقافة العربية في طورها الأول. كذا للكتاب دور -فوق هذا التأسيس- في الرد على الكثير من التساؤلات الفكرية والشبهات التي تطرأ في عالم اليوم. وأُحجم الآن عن تقديم الكتاب تقديمًا لائقًا، أو درسه، مُرجئًا هذا للحلقات التالية من التهذيب، ومكتفيًا بشهرته الذائعة.

وقد اعتمدت في تهذيب هذا الكتاب الضخم، البالغ 717 صفحة، على نشرة “دار المعارف” المصرية، في طبعتها السابعة، لعام 2021م. وفي هذه الحلقة أقف من التهذيب عند نهاية الباب الثاني، الذي يمثل ثُلث الكتاب. وقد وقفت عليه، لا محض وقوف على الكمّ؛ بل لداعٍ علمي، فقد انتهى به المؤلف من بحث الكتابة في الشعر، على أن يستأنف بحثه بالرواية في الباب الثالث. فاستملحتُه فاصلًا كميًّا ومعنويًّا.

وقد اعتمد تهذيبي للكتاب على كثير من الأصول. أبيِّن بعضها في نقاط:

1-   اعتبار متن وهامش الكتاب واحدًا، والتهذيب سرى على كليهما نفعًا -لا إحصاءً-؛ أيْ أنني أوردت ما أورده في الهامش حالَ إفادته للمعنى، أو إيضاحه مصدر استدلاله، أو تعقيبه على استدلاله. وما هذا إلا لأنقل للقارئ الفائدة كاملة دون نقصان.

2-   الحفاظ على مسار البحث كاملًا دون نقصان، بترتيبه الموجود في الكتاب، في كل مُؤدَّيات استدلالاته، وترتيبها.

3-   إبانة أدلته العقلية والنقلية كل الإبانة، مع الاقتصار على الفكرة أو النص. وفي الاستدلال بالنصوص اخترت أهم نص استدل به، أو نصين؛ مع بيان وجه استدلاله -حتى إن أخفاه في الكتاب-.

4-   الأصل أن ألتزم نصَّ الكتاب أو أقترب منه، لكنني خرجتُ عن لفظه وتكوينه الإيصالي للمعاني (في مثل إضافتي بعض العناوين الفرعية، وتوزيع العناصر على 1، 2، 3،.. بدل اتصالها في فقرة واحدة في الكتاب) متى رأيت أنه أنفع، أو أن طريقي أنجع في الإفهام، ولفظي أوجز في العبارة.

5-   الهدف منها هو خدمة القارئ العربي الحديث، بإفهامه الكتاب من جهة، والتركيز على ما يدحض خرافات التاريخ العربي عنه.

6-   خدمةً للأصل السابق، اعتمدتُ النظام القديم فوضعت التهذيب في المتن، وصنعتُ حاشية على التهذيب في الهامش فقط، وكل الهوامش حواشٍ مني، بها فوائد أو تعليقات أو استدراكات على التهذيب أو الأصل.

7-   الضمير المكتوب به التهذيب هو الغائبيَّة لا الذاتيَّة؛ فأكتب معبِّرًا عن غيرٍ هو الأسد في كتابه، ولم ألجأ إلى استخدام ضمير الأنا؛ على فرض أنني المؤلف.

8-   سأكتب جوارَ كلِّ عنوان فصل عددَ صفحاته، ليقف القارئ على هيئة الكتاب الكلية، وتمثيل مفرداته فيه.

9-   سأعبِّر عن المؤلف طوال التهذيب بعَلَم “الأسد”، اختصارًا لاسمه.

المقدمة (6 صفحات)

استغلَّ المقدمة ذات الصفحات القليلة ليُعبِّر عن مَحبَّته العميقة للشعر الجاهلي خاصةً، عن شعر غيره من العصور المختلفة، وأن محبته له تعمَّقت مع مضي الزمن [1]. فلمَّا اشتدَّ عُوده، وشارف الدراسة في الجامعة قرأ كتاب “في الشعر الجاهلي” لطه حسين؛ فحرَّكَ فيه الكثير من الأسئلة الكامنة داخل رأسه، وحمله على استقصاء أمر الشعر الجاهلي كليةً[2].

والأسد يعتبر العصر الجاهلي وشعره السِّنادَ الحقيقيَّ للأدب العربي كله؛ فعنه انبثق سائر الشعر العربي، وهو العصر الذي ثبَّتَ نظام القصيدة وعمود الشعر، وهو عصر صياغة المعجم الشعري العربي. وكلها عناصر توجب استجلاءه للوصول إلى رؤية واضحة عن تاريخنا وأدبنا. وقد خطا خطوةً في بحثه للماجستير: “القيان وأثرهُنَّ في الشعر العربي، في العصر الجاهلي”. لكنه لم يرضَ الوقوف عنده، وشعر بأنه لا يصدر عن رؤية واضحة في شأن الأدب العربي. فبدأ رحلة بحثه هذا، الذي نال به الدكتوراة. والبداية الحقيقية لدرس العصر الجاهلي وشِعره؛ هي الانصباب على “مصادر الشعر الجاهلي”، فهي الخطوة التي لا معدى عنها متى أردنا درسًا حقيقيًّا. وقد ترسَّختْ لديه إرادة خالصة لنيل اليقين في موضوع بحثه، دون أيَّة أفكار سابقة تصادر منهجه وحكمه، مع إرادة في الالتزام التام بالمنهج العلمي الدقيق إلى أبعد حد.

وقد جمع لبحثه مادةً غزيرةً من جُزازات البحث[3]، ثم فحص النصوص واستنطقها؛ ليصل إلى دلالاتها، دون إقحام معانٍ عليها، مع ترجيحه الدلالة الأصح والأرجح عند تعارض الدلالات[4]. وهو مُتنبِّه إلى أن نتائج البحث الأدبي والتاريخي ظنية ترجيحية؛ لذلك ساق نتائجه في صياغات ترجيحية. ويبين أن إشكالًا ضخمًا يكتنف مصادر بحثه؛ وهو أن مصادر الأدب العربي لم تتناول الجاهليَّة قصدًا، بل تناولتها عَرَضًا في ثنايا بحثها وحديثها عن الإسلام. لذا ألزم نفسه القراءة الفاحصة المُتمعِّنة؛ ليسدَّ هذا الفراغ في المصادر[5]. وصرَّح أن البحث يتجاوز في استقرائه الجاهلية إلى القرون الثلاثة الأولى من الإسلام، والطبقة الثالثة من الرواة في عصر التدوين[6].

قديما تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج1

تمهيد: مجتمعات العرب في الجاهلية، وتفاوتها في الحضارة (19 صفحة)

بدأ[7] بصعوبة تحديد موطن العرب في جاهليتهم؛ وفي الهامش ينقل أن الجغرافيين العرب يقصدون بها الجزيرة العربية كلها، وبادية سيناء، وبلاد الشام كلها، وجزءًا من العراق. وأن الفراعنة والآشوريين والفينيقيين قصدوا بالعرب أهل البادية ما بين الفرات شرقًا والنيل غربًا، ويُدخلون فيها صحراء مصر الشرقية. ويُقرر كلام الجيولوجيين أن اليمن كانت متصلةً بإفريقيا، وأن البحر الأحمر كان بحيرةً مغلقة في عصور سحيقة. وهكذا يستقر إلى حدود لبلاد العرب، هي: البحر الهندي جنوبًا، ما بعد دمشق شمالًا، بحر فارس ونهرا دجلة والفرات شرقًا، نهر النيل غربًا.

وبهذا الاتساع، تتميز بلاد العرب بالتعدد المناخي، الذي سيؤدي إلى تمحور طبقات من المجتمع العربي. هي طبقات: الزُّرَّاع، والرُّعاة، والصيَّادين، والتجَّار (محليًّا داخل الجزيرة، أو دوليًّا خارجها)، والحرفيِّين (من العرب الخُلَّص أو الرقيق المُجتَلَب). تتسنَّم هذا السُّلَّم الطبقيّ طبقة السادة والأثرياء والأمراء.

والقبيلة في الجاهلية صنفانِ: أهلُ مَدَر، وهُم ساكنو المُدن المُستقرِّة؛ وأهلُ وَبَر، وهُم قبائل العرب المُترحِّلون في الصحراء. وقد تشترك القبيلة الواحدة في الوصفين، مثل قبيلة قريش؛ فهناك قريش الأباطح (من بطحاء مكة)، وهم قسم القبيلة المدنيّ الملازم الحرم المكيّ، وقريش الظواهر، وهم جزء من قريش مترحِّلون.

وينتقل الأسد انتقالًا مُفاجئًا رادًّا على بعض الباحثين الذين يحاولون تعظيم دور “أهل الكتاب” في حضارة العرب، على حساب “الأُميين”؛ ليقرِّر أن أهل الكتاب من العرب هم بعض قبائل كاملة تهوَّدتْ (مثل حِمْيَر وكِنْدَة)، وأخرى تنصَّرتْ (مثل إياد وربيعة)[8]. كما أوضح أن لفظ “البادية” يُطلق على القبائل القريبة من المُدُن الحافَّة بها، ولفظ “الأعراب” يطلق على العرب المتجولين في الصحراء، وهم الموصوفون بشدة الكُفر والنفاق في القرآن. وبهذا العرض المُثبت تنوع المجتمع العربي، يخلص إلى استحالة الحُكم على العرب كليةً بالبداوة والجهالة.

وبعد تحقيق هدفه الأوليّ، ينتقل الأسد لتناول الحضارة الجاهلية (أيْ حضارة العرب قبل الإسلام)؛ مؤكدًا أنه موضوع وعر، يحتاج إلى تعمُّق للوصول إلى شيء تطمئن له النفس. ويُقسِّمها قسمين: حضارة جاهلية أُولى بائدة زائلة، وحضارة جاهلية أخيرة؛ وهي ما نعرفها وحلَّ الإسلام على ظروفها وأُطُرها المجتمعية[9]. ثم يصبُّ اهتمامه على الجاهلية الأخيرة، ويقرر عاملين أثَّرا في تشكيلها.

العامل الأول: هو إحساس الجاهلية الأخيرة بالذات والفَخَار، النابع من الجاهلية الأولى وحضارتها الضخمة (مثل: ثمود، وسبأ، وبترا)، التي أثبتتها الدراسات الحديثة -رغم احتياج الموضوع لبحث طويل-، وشهد بها القرآن الكريم -رغم أنه ليس كتاب تاريخ-.

والعامل الثاني: الحضارة المُقتبسة، يقصد بها تأثر العرب بما حولهم من حضارات ضخمة. وقد تمثلتْ وشائج الاتصال والتأثر بتلك الحضارات في الآتي:

1-  إمارتا المَنَاذرة في الحِيْرَة -التي كانت تدين للفرس-، والغساسنة في الشام -التي كانت تدين للروم-. فكانتا قناتَيْ اتصال أمة العرب في الصحراء بهاتين الحضارتين الباذختين.

2-  الطرق التجارية المُنتظمة، التي تمرُّ ببلاد العرب.

3-  الأسواق والمواسم العربية كانت ملتقى للعرب والفرس والروم والمصريين والهنود.

4-  الجاليات الأجنبية التي حلَّت على الجزيرة؛ فأنشأت البِيَع والصوامع، والكنائس والمُستعمرات الزراعية.

5-  وفود العرب على الروم وفارس ومصر والحبشة للتجارة وطلب العلم.

وقد استمرَّتْ بعض الحضارات العربية وتطاولت؛ مثل الحضارة النبطية التي ازدهرت شمال الحجاز وجنوب الشام أربعة قرون، والحضارة الحِمْيَرِيَّة التي قاربت القرن السادس للميلاد. وعلى ما سبق، يكتمل سقوط الادعاء القائل: بشيوع الجهالة عند العرب؛ فكيف تقوم عندهم حضارة؟! [10] .. وعلى هذا أيضًا، يصحُّ تصوُّر وجود مظاهر حضارية عند العرب، مثل الكتابة والتدوين.

يكتب تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج1

الباب الأول: الكتابة في العصر الجاهلي

الفصل الأول: انتشار الكتابة بين العرب في العصر الجاهلي (35 صفحة)

- نشأة الخط العربي وتطوُّره

صرَّحَ الأسد بغضِّ الطرف عن الجدل الابتدائي في مسألة أصل الخط العربي (هل هو توقيف من الله، أم اشتُّقَّ من الآرامية، أم نُقل عن لغة أخرى). ثم عمَدَ إلى النظر في النقوش المُكتَشَفة بعد القرن الثالث الميلادي[11]، دون ما قبله؛ فلم يجد فيما قبلُ ما يدلُّ على الكلم العربي[12]. وأثبتَ بعضَ صور لنقوش، وأثبتَ خُلاصة ما وصل إليه[13]. وفيه قرَّرَ وجود ثلاثة عيوب رئيسة في النقوش: قلة عددها[14] وهو إشكال لن يحله إلا اكتشاف الكثير مما تحت رمال الجزيرة العربية؛ وثانيها: تباعُد فترات هذه النقوش، فهناك عقود لم تكتشف منها نقوش، والقرن الخامس كاملًا لا نقش مكتشفًا فيه؛ وثالثها: جميع النقوش من شمال بلاد العرب وحسب. وهذه العيوب تمنع اتخاذها دليلًا في بحث أو إقامة نتيجة عليها.

ثم أتمَّ بحثه بالنظر في النقوش الإسلامية الأولى، وهي أشدُّ بينًا، وتأتي في شكلَيْ: النقوش على الحجر والكتابات على الورق. ويحكم عليها، بعد مقارنتها بالأولى؛ أنها اتصال متطور عن الكتابة الجاهلية. ومن هذه المَفحوصات رسالة الرسول للمُنذر بن ساوي[15]، ونقشٌ آخر من أيام عثمان بن عفان. وبعدها استخلص أن العرب ثبتتْ لهم كتابة قبل ثلاثة قرون من الإسلام، بالدليل المادي الملموس، ولا يفيد إنكارُ مُنكر لذلك.

- النقط والشكل والإعجام [16]

يعرض الأسد النقاط المنهجية هنا دون إثبات ولا نفي، فتحًا للمجال بعده للبحث والمدارسة [17]. وقد نقل لنا نقلًا هامًّا عن القاضي ابن العربي، في كتاب “العواصم من القواصم”، فيه: “وكان نقل المصحف إلى نسخه على النحو الذي كانوا يكتبون لرسول الله ﷺ كتابةَ عثمان وزيد وأُبيّ وسواهم من غير نقط ولا ضبط. واعتمدوا هذا النقل ليبقى بعد جمع الناس على ما في المصحف نوع من الرفق في القراءة باختلاف الضبط”. ثم عضَّدَ النقل بغيره من ابن الجزري والزمخشري؛ ليستنتج أن العرب كانوا يعرفون النقط قبل مصحف عثمان، لكنهم أعرضوا عنه قصدًا.

ويستنتج من كلمة “تجريد القرآن” معنى جديدًا، غير المعنى المتعارَف عليه (عدم خلط القرآن بأي شيء آخر من حديث، أو تفسير كتبه الصحابي لنفسه جوارَ الكلمات، أو غير ذلك)؛ وهو تجريد القرآن من النقط والشكل. وأنهم فعلوا هذا حين جمعوا القرآن ليُتيحوا لكل صاحب قراءة القراءةَ بها [18]، وكي لا يظن الصغار أن النقط والشكل من القرآن. ومثال ذلك: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا) [19]؛ فكلمة “فتبينوا” كتبوها في الأصل دون نقط، فاحتملت القراءتَيْنِ: فتثبَّتوا وفتبيَّنوا، دون إعنات.

ويبين أن الكتابة العربية تختلف عن الثمودية والحِمْيرية واللحيانية؛ بوجود كثير من أشكال الحروف المتشابهة، التي لنْ تمتاز إلا بالنقط على تلك الأشكال. بل إن التشابه الكبير في أشكال حروف العربية يدعو الباحث إلى توقع أنها كانت منذ البدء منقوطة، إلا أنهم كانوا يجردونها عن النقاط في عادة كتابتهم.

وكانوا يسمون النقط وَشْمًا وترقيمًا ورَقْشًا. وقد أورد أبو علي القالي وابن السِّيْد البَطَلْيَوْسِيّ أبياتًا جاهلية فيها ذكر النقط. منها بيت أبي ذؤيب:

برقمٍ ووَشمٍ كما نمنمتْ 

بمِيْشَمِها المُزدهاةُ الهَدِيُّ

وقول طَرَفَة بن العبد: 

كسُطُورِ الرَّقِّ رقَّشَهُ

بالضحى مُرقِّشٌ يَشِمُه

ولا يقدح في هذا النقوشُ الجاهلية المُكتشفة؛ فهذه نقوش على أحجار، لا على الرَّقّ أو البردي، فمن الصعب إثبات النقط عليها. ويزيد الأمر دلالةً بردية تعود إلى عام 22هـ، على أيام عمر بن الخطاب، بعض حروفها منقوطة. وكذا في نقشٍ قُرب الطائف، يعود لعام 58هـ، على عهد معاوية بن أبي سفيان، أكثر حروفه القابلة للإعجام مُعجمة. وقد شاع إهمال النقط والشكل في المخاطبات والرسائل والكتب؛ لأنه مَظنَّة أن القارئ جاهل سيء الفهم دون نقط الحروف وشكلها.

- تعلُّم الكتابة في الجاهلية وشيوعها

يشكو الأسد من شائعة علمية ظلَّتْ تتردَّد طوال تاريخنا، سمَّاها “تجهيل الجاهليَّة”. فرغم قلة النقول المخصصة للجاهلية أصالةً؛ إلا أن حديثهم عنها لمْ يخلُ من وصفها بالجهل وقلة العمران، وندرة الرُّقيّ والعلم والكتابة، وربط العدّ الحسابي عندهم بالحصى؛ أيْ أنهم يعدون بعدد الحصى وحسب؛ لأنهم أميون لا يعرفون كتابة ولا حسابًا. بل انتقل هذا الحُكم وعُمِّمَ على الصحابة إلا النادر منهم. ويعجب؛ فكيف يستقيم هذا رغم أن كتب الطبقات والرجال تحصي عشرات الكتَّاب من الصحابة. ويرى الأسد أن وصف القرآن العرب بـ”الأمية”؛ كان لأميتها الدينية لا العلمية. وحديث “إنَّا أمة أميَّة لا تكتب ولا تحسب” مقصوده وموضوعه حساب النجوم، في تقدير صوم رمضان؛ وهو نفي أن تكون الكتابة والحساب نظامًا عامًا شائعًا عند العرب، لا نفي للأمر كليةً.

ومتى عرفنا أن الكتابة كانت ثابتة في العرب قرونًا قبل الإسلام، زادتنا النقول معرفة العرب بالإعراب والعَرُوض[20]، وأنهم كتبوا القرآن بما أثبته علماء النحو من الإعراب الجاري بين العرب في نظام كلامهم. وينقل نقلًا هامًّا عن ابن فارس في كتابه “الصاحبي”: “فإنا لم نزعم أن العرب كلها: مَدَرًا ووَبَرًا، قد عرفوا الكتابة كلها والحروف أجمعها. وما العرب في قديم الزمان إلا كنحن اليوم: فما كلٌّ يعرف الكتابة والخط والقراءة”.

ومما أتى به دليلًا على معرفة العرب بالعروض؛ أن الفاهمين منهم أنكروا أن يكون القرآن شعرًا، وأنهم عرفوا الإكفاء والإقواء[21]. بل عرفوا فرق جُمُوع القلة والكثرة، في تعليق النابغة على بيت لحسان بن ثابت “لنا الجفناتُ الغُرُّ يَلمَعْنَ في الضحى .. وأسيافنا..”؛ فقال النابغة: أقللتَ جفانك وأسيافك[22].

بل مالَ الأسد لوجود المعلمين والمدارس والكتاتيب في المجتمع. من ذلك ما أورده البلاذري عن تعليم الصبيان في المدينة قبل الإسلام، ومنه ما أورد الطبري من أن خالد بن الوليد رأى الناس يتعلمون ويكتبون العربية في الأنبار، ومنه ما أورد الجاحظ أن ابن عباس قال “كانت قريش تألف منزل أبي بكر لخصلتين: العلم والطعام”. بل أشار إلى تدوال رواية التاريخ الأقدم بين العرب، في أن سبب نزول آية (وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَىٰ عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا)[23] كانت مقارنة القرآن بكتب الأولين التي تُتلى ويتداولها العرب بينهم.

كما مضى الأسد قُدُمًا لإثبات تغوُّل القراءة والكتابة في المجتمع؛ فنقل أن المؤرخين (الجهشياري، المسعودي، ابن عبد ربه) عدَّدوا كثيرًا من كُتَّاب الرسول. وصنَّفوا منهم تخصصات في الكتابة، مثل كتابة: المُداينات والعقود، وحسابات النخيل والتمر، ومَغانم الرسول، مكاتبات الملوك، وأخيرًا الوحي). كما استدل بإفداء الرسول المشركين أنفسهم بتعليم الصبية القراءة والكتابة، وكذا بإرساله الرسائل لأقوام العرب (فكيف يرسل لهم رسائل لو لم يعرفوا القراءة). وأثبت أن الكتابة كانت من شروط كمال العربي ووجاهته.

بل مضى الأسد في الاستقصاء؛ ليظهر لنا الكثير من العالِمين بالألسُن الأخرى بل المُترجمين. منهم: عدي بن زيد العبادي، ورقة بن نوفل، زيد بن ثابت، ممن تعلموا العبرانية والفارسية والسريانية والقبطية والحبشية. كما ظهرت نساء كاتبات، مثل الشفاء بنت عبد الله العدوية.

وأنهى الفصل بذكر آيات وردت فيها الكتابة، كالآية السابقة، وكقوله تعالى: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ)[24]. ثم نقل تفسير الخطيب البغدادي -في كتاب “تقييد العلم”- النهيَ عن الكتابة في الصدر الأول بقلة الفقهاء العارفين والمُميِّزين الوحي من غيره. وتمعَّن الأسد في هذا النهي، وأفاد منه كثرة الكاتبين في الصدر الأول؛ وإلا لما شاع النهي.

كتب عربي قديم تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج1

الفصل الثاني: موضوعات الكتابة وأدواتها (44 صفحة)

- موضوعات الكتابة في الجاهلية

أعاد الأسد تأمل ابن فارس في “الصاحبي”؛ ليقيس وضع القراءة والكتابة عند العرب الأقدمين بالعصر الحديث، فالمجتمع الحديث شائع فيه العلم والقراءة والكتابة، لكنْ بنسبة، رغم هذا هو شائع. فلا يمكن الجزم بإحصاء شيوع الكتابة في الجاهلية، لكنها شاعت وانتشرت -وإنْ نسبيًّا-.

وأول موضوعات الكتابة “الكتب الدينية”؛ التي كانت موجودة بالعبرية والسريانية، لكنَّ تهوُّد وتنصُّر بعض القبائل قد يدل على وجود كتب الديانتين بالعربية. ولهذا الطرح بعض شواهد من الروايات، من وجود بعض ترجمات لوصايا لُقمان، وكتاب دانيال، وبعض كتب أهل الكتاب في الشام (كامتلاك سويد بن الصامت في مجلس الرسول ﷺ مجلة لقمان، ومثل كتاب محاه عبد الله بن مسعود كان مع ابن قرة، وعمرو بن ميمون الذي رأى رجلًا بالكوفة معه كتاب دانيال). مع ترجيحه أن الروايات تدور عن كتب مترجمة إلى العربية؛ وإلا لما تمَّ تدوال الرأي فيها، والخلاف عليها.

وثاني موضوعات الكتابة “العهود والمواثيق والأحلاف”. مثل حلف ذي المجاز، وحلف خزاعة، وصحيفة قريش. ومنه كتب الأمان مثل كتاب النُّعمان بن المُنذِر للحارث بن ظالم. كذا حرصوا على تقييد الأمور الهامة.

وثالث الموضوعات “صُكوك الديون”. وقد ذكرت في الشعر (مثل قول عِلباء بن أرقم “أخذتُ لدينٍ مطمئن صحيفةً”)، وذكرت في الحديث، ففي كتاب الرسول ﷺ لثقيف “وما كان لثقيف من دَيْن في صحفهم اليوم…”. ومن هذا النوع صكوك الإقطاعات من الملوك والأمراء، وكانت تُسمَّى وِصرًا أو إصرًا، وتسمى قِطًّا أيضًا. ومنه بيت الأعشى:

ولا الملك النعمان يومَ لقيتُه

بإمَّتِهِ يُعطي القُطُوطَ ويأفق

ورابعها “رسائل الأفراد”، وهي كثيرة منتشرة. مثل كتاب السَّمَوْأَل إلى الحارث الغسَّاني، وكُتُب الزِّبرقان إلى زوجته. وكانوا يبدأونها بـ”باسمك اللهُم”، وكذا الرسول ﷺ إلى أن غيَّرَها إلى “بسم الله الرحمن الرحيم”.

وخامسها “مُكاتبة الرقيق على ثمن حُريتهم”. وهي موجودة من الجاهلية، وفيما يبدو تتوقف على رغبة السيد. فلمَّا جاء الإسلام رغَّبَ استجابة المالك.

ومن ضُرُوب الكتابة أيضًا حفر خاتم الرسائل والمخاطبات، وكان الرسول يمتلك واحدًا. وكان للنعمان بن المنذر خاتم. كذا طابع يُطبع على أوعية الطعام والشراب، وكذا الكتابة بالحفر على الخشب وشواهد القبور.

- أدوات الكتابة في الجاهلية

قسَّمها إلى قسمين: ما يُكتب عليه، وما يُكتب به.

وما يُكتب عليه كثير، منه:

1- الجلد: أنواع: الرَّقُّ هو الجلد الرقيق، والأديم هو الجلد الأحمر أو المدبوغ، والقضيم هو الجلد الأبيض. وقد وردت كلها في الشعر الجاهلي، وكُتب عليها القرآن.

2- القماش: فمنه الحرير ومنه القطن. ويسمونه مَهارق، مفردها مُهْرَق. وكرابيس مفردها كِرباس (وهو القطن الأبيض). وتجهيزه مُكلف؛ لذا لا يُكتب عليه إلا الأمور ذات الشأن، كالعهود والمواثيق.

3- النبات: وأشهره العسيب، جمعُهُ عُسُب. وهو جريد النخل متى يبس وكُشط. وكذا الكرانيف، مفردها كِرنافة وكُرنافة. وهي آخر أصول سعف النخيل. وقد كُتب عليهما الوحي في عهد الرسول.

4- الخشب: فقد كتبوا على الرحل الخشبي الذي كان يوضع على الدواب. والخشب المكتوب عليه أنواع، منه الأقتاب وهو إكاف -مثل البرذعة- صغير على قدر سنام البعير، والرَّوسم وهي خشبة مكتوبة بالنقر يختم بها الطعام. كما كتبوا على السهام والعصيّ. وقد أدرج الألواح المذكورة في الروايات، رغم عدم معرفته مادة صنعها من الخشب أو الرصاص.

5- العظام: وأكثرها شيوعًا الكتابة على أكتاف الإبل وأضلاعها.

6- الحجارة: والكتابة على الحجارة والصخور سُميت وَحيًا، وجمعها وُحِيّ. وكُتب على اللخاف، وهي حجارة بيض رقيقة، وكذا كُتب على الأبنية؛ فكان مكتوبًا على الكعبة وكنائس الحيرة.

7- الورق: رغم شيوع رواية دخول الورق للمسلمين على يد الصينيين، في سمرقند 133هـ؛ إلا أن الورق ذُكر مراتٍ في روايات سابقة على هذا، والبعض يفسر ورود الكلمة سابقًا بأنها الجلود الرقيقة التي تشبه ورق الشجر، ويبقى محض تفسير. كما أن هناك روايات وأشعارًا فرَّقتْ بين الورق والأديم. وقد يكون المقصود بالورقِ البرديَّ المصريَّ، مثل بيت طَرَفة: (وخدٍّ كقرطاسِ الشآمي…) والقرطاس أوراق تأتيهم من الشام. ومِثله ما نقل من جمع القرآن في القراطيس على عهد أبي بكر.

والخلاصة أن العرب كتبوا على كل ما يصلح للكتابة؛ حتى لَتلجئهم الضرورة للكتابة على نعالهم وأكفهم.

– أسماء ما يُكتب عليه[25]

برزت عدة أسماء للمكتوب عليه: منها “الصحيفة”، وقد وردت بكثرة واطراد في الجاهلية والإسلام. ومنها “الكتاب”، وهي أيضًا شديدة الشيوع. ومنها “الزَّبُور”، جمعُها زُبُر، تطلق على الكتاب الديني وعلى الكتاب عامةً، بل اشتقوا منها الفعل يَزبُرُ أيْ يكتب. والثلاثة مذكورات في القرآن.

–  أسماء ما يُكتب عليه [26]

والأول “القلم”، ويُصنع من القَصَب (نبات أنبوبي التكوين، يشبه جِرم القلم الاعتيادي)، يُغمس في الدواة ليُخط به. والأداة الثانية المُكملة للقلم “الدواة والمداد”، وسموا المداد نِقسًا، وسموا الصحيفة التي مُحي الكلام المُثبت عليها ليُعاد استخدامها طِرسًا. وقد ورد القلم في الشعر والقرآن، وكان البعض يسميه “مِزبرًا”. كما يستنتج الأسد من روايات وجود الطباشير أو الفحم. وذُكر في بعض الروايات استخدام “السكين” أداةً للكتابة.

- وصف الخط في الجاهلية

رغم قلة المصادر التي تُخذِّل عن الاستقصاء؛ إلا أن الاستقصاء المُثابر يوقفنا على ضربين من الخط عند العرب. الأول: الخط المُجوَّد، وسموه الرَّقم والوشم والتنميق والترقيش والنمنمة. ويمتاز باستواء سطوره وتناسق كلماته؛ حتى وُصف -تشبيهًا به- صف المُصلِّين بالرقيم. ورجَّح الأسد أن كتابة هذا الضرب كانت معجمة منقوطة. والضرب الآخر: الكتابة العَجلَى الغفل عن النقط والإعجام. وكانوا يعبرون عنها بالخط المُعرَّض، وبالمَشْق؛ وهي الكتابة السريعة التي تصعب قراءتها.

عربي يكتب الشعر تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج1

الباب الثاني: كتابة الشعر الجاهلي وتدوينه

الفصل الأول: كتابة الشعر الجاهلي (26 صفحة)

يعمد الأسد -بعد تلخيصه ما سبق- إلى إثبات كتابة الشعر الجاهلي بدليلين: عقلي استنباطي أولًا، ونصوصي نقلي ثانيًا[27].

- الضرب الأول: الأدلة العقلية الاستنباطية (أربعة أدلة)[28]

الدليل الأول: لا يصحُّ أن تُقيد العرب ضروبًا من موضوعات الكتابة -كما سلف-، ويعزب عن تقييدها مفخرتها الأولى “الشِّعر”. وكان متى نبغ في القبيلة شاعر توافدت القبائل للتهئنة بنبوغه، وكانت القبائل تفخر بالمدائح، وتخشى عار الهجاء. فمن هذا المعنى -مثلًا- يقول الجاحظ في “الحيوان”: “وكانت العرب في جاهليتها تحتال في تخليدها -يقصد مآثر أمتها- بأن تعتمد في ذلك على الشعر الموزون والكلام المُقفَّى. وكان ذلك ديوانها”.

ومن ذلك بيت الأعشى يفخر بفضله على قومه:

وأدفع عن أعراضِكم وأُعيرُكم

لسانًا كمِقراضِ الخفاجيِّ مِلحبا

ومتى حرص الملك أو السيد أو الشريف أن يُقيد سائر ما له من ضروب التقييدات؛ فهو بتقييد الشعر الذي يخلِّد ذكره في الناس أحرص.

وهنا يرد الأسد اعتراضًا يقول: الأمم القديمة لم تقيد الشعر؛ فلِمَ نفترض أن العرب قيدوا في جاهليتهم شعرهم؟ .. قائلًا: إن جاهلية العرب ميَّالة للكتابة -كما استدلَّ في الباب الأول-، وإن الشعر المُقيَّد أقل الشعر لا أكثره، وكان بإثبات أبيات وقصائد معينة وحسب، لا على نطاق واسع.

الدليل الثاني: أن الشِّعر إذ كان مفخرة الممدوح؛ فهو مفخرة المادح -الشاعر نفسه-، ويريد المادح تقييده أشد من الممدوح. كما أن الشعر -لبعض الشعراء- كان وسيلة كسبهم الوحيدة، لهذا اشتدتْ حاجة تقييده عندهم. كما أن بعض الأحوال تُلجئ الشاعر إلى استكتاب أحدهم شعره، مثلما استقدم عمرو بن كلثوم كاتبًا يكتب أبياتًا، يرسلها للنعمان بعد أن بلغه توعُّد الأخير له. منها:

ألا أبلغ النعمانَ عني رسالةً

فمدحُك حولي وذمُّك قارحُ

وبعض الشعراء اشتهرت عنهم معرفتهم الكتابة، مثل: النابغة الذبياني، وكعب بن زهير، وأخوه بُجير، ولبيد بن ربيعة، وأمية بن أبي الصَّلْت، والزِّبرقان بن بدر، وعدي بن زيد العبادي، ولقيط بن يعمر الإيادي، والمُرقَّش[29] وأخوه حرملة. ومن المدينة اشتهر: عبد الله بن رواحة، وكعب بن مالك. ثم ينبِّه إلى أن ذكر الشعراء الكاتبين جاء عَرَضًا واستطرادًا في بطون الكتب. ويبرر جزءًا من ذلك أن المُسجلين التاريخ الأدبي للعرب توهموا أن معرفة الشاعر الكتابة عيب ينتقص من شاعريته[30]؛ لأنها من أمور المدنية الحديثة التي تفسد سليقة اللغة وتنتقص من شاعريته؛ ومن علائم ذلك الوهم عندهم شكُّهم في كل أعرابي خالط أهل المُدُن[31].

من أمثلة ذلك نقله عن أبي بكر الصولي في “أدب الكتاب”: “وقد عِيبَ أبو النجم بهذا: كأنما قد كتبا لامَ ألف .. فقيل: لولا أنه يكتب ما عرف صورة لام ألف”. ومنه حوار دار بين حمَّاد الراوية والشاعر ذي الرُّمَّة؛ كان يقرأ الأول شعر الآخر له، فلحظ أن الكاتب نسي لامًا، فوجهه ذو الرمة إلى إثباتها، فاكتشف حماد معرفته الكتابة، فقال ذو الرمة: اكتم عليَّ، فإنه كان يأتي باديتَنا خطاطٌ، فعلَّمنا الحروف تخطيطًا في الرمال، في الليالي المُقمرة. فاستحسنتها، فثبتت في قلبي، ولم تخطها يدي.

الدليل الثالث: الشِّعر الحَوْليّ [32] المصنوع، الذي كان يستبقيه الشاعر في حوزته شهورًا قد تصل إلى عام. والرواة يسمون هؤلاء الشعراء “عبيد الشِّعر”، ويسمون هذه القصائد: الحوليَّات، والمُقلَّدات، والمُنقَّحات، والمُحْكمات. مثل حوليات زهير بن أبي سُلمَى السبعة. وقد مثَّل على عملية الانتخاب الفني للقوافي والألفاظ، بامرئ القيس يقول:

أذود القوافي عني زيادا 

ذياد غلام غويّ جرادا

فلما كثُرنَ وأعيينني

تنقَّيتُ منهُنَّ عشرًا جيادا

فأعزل مَرجانَها جانبًا 

وآخذُ من دُرِّها المُستجادا

ثم يُرجِّح أن هذا النمط من التدقيق الشعري للقصائد لا يصلح إلا والشعر مكتوب، لا محفوظ في الصدور؛ بما يسمح بالعودة لنموذج كامل ثابت لتغيير لفظة بلفظة وقافية بقافية.

الدليل الرابع: ذكرَ الشعراء الجاهليون الكتابة وأدواتها في أشعارهم ذِكرًا صحيحًا، يدل على استيعاب شامل لمسألة الكتابة. ومن ذلك أبيات أبي ذؤيب:

عرفتُ الديارَ كرَقْم الدواةِ 

يَزبُرُها الكاتبُ الحِمْيَريُّ

برقْمٍ ووَشْيٍ كما زُخرفتْ 

بمِيْشَمِها المُزدهاةِ الهَدِيُّ

أدانَ وأنبأه الأولون 

أن المُدان المليُّ الوفيُّ

فنَمنَمَ في صحف كالرياطِ

فيهنَّ إرثُ كتابٍ مَحِيُّ

- الضرب الثاني: النصوص والروايات الدالة على كتابة الشعر[33]

لحظ الأسد في النصوص التي جمع نثارها من بطون الكتب أمرين: أن أكثر الشعر المُقيَّد في الجاهلية كان متضمَّنًا في رسائل يرسل بها الشاعر، وأقله كان تقييدًا بغير غرض التراسُل. والأمر الآخر أن سُنَّة الرسائل الشِّعرية شاعت وكثرت في العصور الإسلامية التالية للجاهلية، وهذا يعضد اعتياد الجاهليين لها.

وقد أورد أمثلة كثيرة مثل رسالة كعب بن مالك لأبي سفيان بن حرب وأبيّ بن خلف الجُمحي، ومكاتبات الشعراء للنعمان بن المنذر ورُدوده عليهم، والحارث الغسَّاني على عبد العزى بن امرئ القيس الكلبي. ومن ألطف ما أورد من تراسل الشعراء؛ مراسلة كعب بن زهير وأخيه بُجير، حينما أسلم الأخير فعاتبه زهير على إسلامه شِعرًا، فردَّ بُجير بشعر لطيف:

مَن مُبلغٌ كعبًا فهل لك في التي 

 تلومُ عليها باطلًا وهي أحزمُ

إلى الله -لا العُزَّى ولا اللاتِ- وحدَهُ

فتنجو إذا كان النجاءُ وتسلمُ

لدى يومَ لا ينجو، وليس بمُفلتٍ

 من الناسِ إلا طاهرُ القلبِ مُسلِمُ

فدِينُ زهير -وهو لا شيءَ دينُهُ- 

 ودِينُ أبي سُلمى[34] عليَّ مُحرَّمُ

ومن أشهر الشعر الجاهلي الذي قُيد قصيدة لَقيط بن يَعمر الإياديّ إلى قومه، ينذرهم غزو كسرى. ومُقدمتها:

سلامٌ في الصحيفةِ من لَقيطٍ 

إلى مَن بالجزيرة من إيادِ

بأنَّ الليثَ كِسرى قد أتاكُم

فلا يشغلْكُمُ سُوقُ النِّقادِ

أتاكُمْ منهُمُ سِتُّونَ ألفًا

. يُزَجُّونَ الكتائبَ كالجرادِ

على حَنَقٍ أتينكُمُ، فهذا

أوانُ هلاكِكمْ كهلاكِ عادِ

عربي رجل يكتب تهذيب كتاب "مصادر الشعر الجاهلي، وقيمتها التاريخية" ج1

الفصل الثاني: تدوين الشعر الجاهلي (50 صفحة)

خلُصَ الآن الأسد لمسألة تدوين الشعر الجاهلي، التي تمَّتْ مع غيرها من التدوينات العلمية والأدبية واللغوية. فاستبق إيراد تدوين الشعر، ببحث عن مبدأ التدوين نفسه؛ لأن التدوين الشعري فرع عن أصل التدوين الكُلِّيّ. وعزَّزَ بحثَهُ شأنَ التدوينِ إنكارُ البعض له، وتأخير تدوين الحديث إلى نهاية القرن الأول، وبداية الثاني، وتأخير بقية العلوم إلى نهاية القرن الثاني الهجري، بل بداية الثالث. وزاد من تعزيز بحثه التدوين كليةً أن كثيرًا من المُدوَّن -لغةً أو حديثًا أو تفسيرًا أو أدبًا- اشتمل في طياته على شعر جاهلي.

ثم استهلَّ الأسد بحث أمر التدوين بسؤالين. سأوردهما مُلحَقَيْن بالإجابة.

–   السؤال الأول: هل كانت الصحف شائعة كثيرة؛ فيتيسر وجود التدوين؟

من النقول نستشف وجود الأوراق، وزهد ثمنها؛ مما يُمكِّن من التدوين وضمّ المُدوَّن، لتدوين ديوان كامل. وساق أمثلة: كالإمام علي بن أبي طالب، حينما خطب الناس في السوق، قائلًا: من يشتري علمًا بدرهم؟ فاشترى الحارث الأعود صحفًا بدرهم، وكتب له الإمام علمًا كثيرًا.

واستدلَّ أيضًا بوجود طبقة من النُّسَّاخ، ممن اتخذ نسخ الصحف حرفة للكسب. ومنهم: عمرو بن نافع مولى عمر بن الخطاب، ومالك بن دينار، وسَلَمة بن دينار. واستنتج من وجود هذه الطبقة وجود محالّ لتجارتهم، وأشخاص يختصون ببيعها.

وفي الهامش، ردَّ على المستشرق “جِب” في مقالته عن “بدء التأليف النثري”؛ حيث استدل على ندرة الصحف وارتفاع سعرها فيها بحادثتين للخليفة عمر بن عبد العزيز، يأمر فيهما عُمَّاله بتقليل الإنفاق في الورق، وحسن استعمالها. فردَّ الأسد أن هذا من زهد عمر المعروف، ورغبته في حد الإنفاق من بيت مال المسلمين. ولا يقدح في شيوع التدوين، ولا يعني أن الصحف كانت قليلة نادرة غالية الثمن.

–  السؤال الثاني: ما هو المظهر اللغوي أو الصورة اللغوية للتدوين في صدر الإسلام؟

ظهرت عدة ألفاظ لمجموع الأوراق، أو ضميمة الصحف. منها:

أ‌- الدفتر: وقد ذُكرت استخدامات له من العهد الإسلامي الأول.

ب‌- الكراسة: واستخدمت في مرحلة تقييد المصحف.

ت‌- الكتاب: وقد ورد ذكره في الجاهلية على المَصدريَّة المُساوية للكتابة، وعلى العَلَميَّة على مجموع الصحف.

ث‌- المصحف دالًّا على مجموع الصحف، وكذا السِّفر والزبور.

ومجموعها يثبت وجود التدوين وثباته في المجتمع؛ نمطًا بالمعنى الاصطلاحي منذ عهد الصحابة. وقد شكا عمر بن الخطاب شيوع الكُتُب بين الناس، واستنكرها عليهم، وحاول حدَّها. وقد تكون هذه الكُتب كتب دين أو حِكَمًا من الجاهلية. وكانت الأشعار الجاهلية من المحظور في هذه الأيام؛ خشية انبعاث النعرات الجاهلية وتقوُّض المجتمع. لذا حرص عمر على النظر في الكُتب لمن كان عنده كتب.

ثم انتصف القرن الأول الهجري، ومعه ظهرت أندية الكُتب، مثل نادي عبد الحكم بن عمرو بن عبد الله الجمحي، الذي اتخذ بيتًا للترفيه، وخصص فيه مكانًا للدفاتر والكتب. كما تضاعفَ عدد القارئين والكاتبين؛ ومن ذلك أنْ كان في مكتب الضحَّاك بن مزاحم ثلاثة آلاف صبي. ثم بدأت الترجمة في عهد خالد بن يزيد بن معاوية، بل شاركَ فيها بنفسه. ووُجدتْ خزائن الكتب عند الأمويين، واستشهد الأسد على نشاط الترجمة وخزائن الكتب بخبر أورده ابن جُلجل في “طبقات الأطباء والحكماء” أن عمر بن عبد العزيز وجد كتابًا مترجمًا لماسرجويه (سرياني يهودي) ضمن خزائن الكتب. وأخيرًا استدلَّ أن همَّام بن مُنبِّه كان يشتري الكتب لأخيه وهب بن مُنبِّه (ت 110هـ)، مما يباع في الأسواق.

- الحديث والفقه

اهتمَّ بتبيين الأمر من خلال العودة ثانيةً لكتاب “تقييد العلم” للخطيب البغدادي. فنقل تعليله أحاديث النهي عن كتابة السنة؛ بالخوف من خلطه بالقرآن، وبعدم الرغبة في الانشغال عن القرآن بها. كما ورد نهي تقييد كُتب الأقدمين؛ لأنه لا يُعرف حقُّها من باطلها، والقرآن كفى الأمة عنها. ونُهي عن كتب العلم لقلة الفقهاء في ذلك الوقت، والمُميِّزين الوحي من غيره، ولأن أكثر الأعراب لم يكونوا فقهاء، ولا جالسوا العلماء العارفين؛ فلم يُؤمَن حالهم. ورغم ما تقدم، إلا أن الخطيب أورد أحاديث تحضُّ على كتابة الأحاديث.

ثم رامَ الأسد إثبات هذا التدوين للحديث في عهد الرسول، وأنه والرواية الشفهية سارا جنبًا إلى جنب. ومن أمثلة هذا التدوين: الصحيفة الصادقة، وهي لعبد الله بن عمرو بن العاص، ويقال كان فيها ألفا حديث، وقد ضمَّنها أحمد بن حنبل مُسندَه. كذا كتب ابن عباس حِمل بعير من الأحاديث، وكتب أنس بن مالك للناس أحاديث كثيرة، وكان أبو هريرة يدون الأحاديث. ومن التابعين عروة بن الزبير، وكان للحسن البصري كتب حديث وفقه. كما كتب همام بن مُنبِّه صحيفة سمَّاها الصحيحة، وأثبتها ابن حنبل في المسند. وعلى هذا، لا يصحُّ القول بتأخُّر تدوين الحديث حتى منتصف الثاني الهجري[35].

- التفسير

لا يختلف الأمر عن الحديث[36]. فكُتب ابن عباس المذكورة كانت تضم الحديث والتفسير وأسباب النزول وأحكام القرآن. وكان له كتاب في التفسير[37]. وعروة بن الزبير له تفسير نُقل جزء منه في طبقات ابن سعد وسيرة ابن هشام. ومن التابعين المفسرين: سعيد بن جبير، والحسن البصري، والسُّدِّيّ.

- المغازي والسيرة

ازدهرت بوصفها مادةً من مواد المُفسِّر في أسباب النزول. وكان لعروة بن الزبير اهتمام بها، وكان عبد الملك بن مروان يرسل إليه سائلًا عن حوادث تاريخية سابقة. وكان أبان بن عثمان بن عفان يُدوِّن المغازي، وأخذها عنه المُغيرة بن عبد الرحمن. وكتبها وهب بن مُنبِّه، وابن شهاب الزهري، ثم خلفهما محمد بن إسحاق صاحب السيرة[38].

إلى هنا انتهى الأسد من تعداد التدوين، مؤكدًا أن ما ذكره ينسف خرافة تأخر التدوين. ويلحظ أن تدوين ما يتعلق بالجاهلية مُشتبك بالإسلاميات؛ فكاتبو المغازي والسيرة كانوا يوردون شيئًا عن الأنبياء السابقين، وعن الجاهلية، ويسهبون في تدوين الشعر الجاهلي. وكان عروة بن الزبير من أروى الناس للشعر في مغازيه.

كذلك كان المفسرون يعتمدون على الشعر الجاهلي وكلام العرب في عملهم. وكان ابن عباس يحثُّ على التزام الشعر الجاهلي وتعلُّمه لتفسير القرآن؛ كقوله “إذا سألتم عن شيء من غريب القرآن فالتمسوه في الشعر؛ فإن الشعر ديوان العرب”. ورُويَ مثله عن عمر بن الخطاب. وكذا اهتم به في التفسير ابن مسعود، وابن شهاب الزهري الذي كتب في التفسير والأنساب والتاريخ.

· تدوين أبرز الرواة للشعر [39]

وهنا ينتقل الأسد انتقالة بارزة نحو هدفه الأصيل؛ حيث يقرر أن رواية أبرز راويَيْن: أبي عمرو بن العلاء، وحمَّاد الراوية كانت من الكتابة والشفاهة، لا بالشفاهة فقط -كما الظن العام-[40]. بل صاحبته كتابة من دواوين مكتوبة توارثاها عن سابقَيْهما، فضلًا عن دواوينهما الخاصة التي قيدوا فيها اللغة والشعر، والشروح والاستشهاد على مُشكِل المعاني وغريب الألفاظ.

أبو عمرو بن العلاء (ت 154هـ)[41]: نقل عنه الأصمعيُّ أنه جلس إليه عشر حجج لم يُحدِّثْه ببيت إسلامي. وكان يُراسل الشاعر الحارث بن خالد بن العاصي، وأخاه المُحدِّث عكرمة عن أمور في الشعر والحديث. ويذهب إلى عمرو بن دينار ومعه كتاب ليُقيد فيه مما يسمع. وقد امتلأ بيته حتى السقف كُتبًا من أثر شغفه بالتدوين.

حمَّاد الراوية (ت 156 هـ): تدلُّ أخباره على امتلاكه كُتبًا فيها أخبار وأنساب وأشعار العرب. وكان يروي وينشد للوليد بن يزيد بن عبد الملك؛ فكان ينظر في كتبه قبل الوفادة عليه، وذكر أنه كان ينظر في كتابَيْ قريش وثقيف[42]. وقد استعار الوليد كتبه حينما حاول جمع ديوان العرب وأخبارها وأنسابها. ويروي الأصفهاني في “الأغاني” أن حمادًا كان لصًّا، حتى سطا على شخص معه جزء من شعر الأنصار، فاستحلاه وحفظه وطلب الشعر والأدب. وقد رأى أبو حاتم السجستاني كُتُب حمَّاد في شعر الجاهلية، ونقل عنها. ويورد الأسد في الهامش أن هذا يرد على ادعاء ابن النديم أن حمادًا لمْ يُرَ له كتاب، إنما روى عنه الناس وحسب.

ثم أورد الأسد خبرًا من “الأغاني” أن عمر بن الخطاب بعد أن نهى عن أشعار الجاهلية دفعًا للضغينة بين المسلمين، أتاح كتابتها وتقييدها. فكتبها الأنصار، وكانوا ينقلونها في صحف جديدة كلَّما خافوا على القديمة أن تبلى.

كما يورد أنْ كان للوليد بن يزيد كاتبٌ يدعى خالد بن الهيَّاج، يقوم على كتابة المصاحف والشعر والأخبار. وكان عبد الملك بن مروان كتب بعض تفسير سعيد بن جبير، وجمع المعلقات وأخبار العرب وأشعارها. وكذا نقل اهتمام معاوية بن أبي سفيان بالسِّيَر والأخبار.

كما نقل أن ابن سلَّام الجُمحي في حديثه عن قصيدة أبي طالب في مدح الرسول، صرَّح أنه رآها مدونة في كتاب يوسف بن سعيد منذ أكثر من مائة سنة. ويرجِّح الأسد أن الأخير كتب الكتاب وفيه القصيدة، في النصف الأخير من القرن الأول الهجري.

وقد دوَّن دَغْفَل النسَّابة (وهو جاهلي أدرك الإسلام) أنساب العرب في صُحف، ذكرها الفرزدق في قصيدة له، قائلًا:

أوصى عشيَّةَ حينَ فارَقَ رَهْطَهُ 

عند الشهادةِ في الصحيفة دَغْفَلُ

أنَّ ابن ضبةَ كان خيرٌ والِدًا 

وأتمُّ في حَسَب الكِرام وأفضلُ

وفي القصيدة يفخر الفرزدق أنه سليل أعظم شعراء العرب الجاهليين، وفي أبياتها ما يشير إلى مجموعات شعرية مدونة بين يديه. ومنها البيتان المتفرقان:

والجعفريُّ وكان بِشرٌ قبله

لي من قصائده الكتابُ المُجْمَلُ

دفعوا إليَّ كتابَهُنَّ وصيَّةً 

فورثتُهُنَّ كأنهُنَّ الجَنْدَلُ

وقد كان لبلاط المناذرة في الحيرة شأن كبير في تقييد الشعر؛ حيث راسل النعمان الكثير من الشعراء العرب (ذكر الأسد هذا تفصيلًا قبلُ). كما أمر النعمانُ بنسخ أشعار العرب في كراريس كما روى حمَّاد. ورغم تكذيب بعض الرواة لهذا؛ إلا أن ابن سلام الجمحي -رغم شكِّه المعروف- أكَّد رواية امتلاك النعمان لأشعار الفحول.

ثم حاول الأسد إدراج مزيد من التأكيد بإيراد أن الطبري نقل في تاريخه أن كنائس وبِيَع الحيرة تحتوي على أثبات (قوائم) الولاة، وأخبار العرب وأنساب بعضهم. وكان يفيد منها هشام بن السائب الكلبي. وقام المستشرق “جب” بتأكيد وجود وثائق تاريخية في الحيرة، كما أكَّد أولندر أن الكلبي مؤرخ مُتثبِّت، رغم ادعاء خلاف ذلك من خصومه، وأنه استخدم في تاريخه مدونات تاريخية كانت في الحيرة. مُستدلًّا في ذلك بقبول المحدثين له، خاصةً بعد اكتشاف شاهد قبر امرئ القيس بن عمرو الحيري. وأضاف الأسد في الهامش موضعين للتمثيل على كلام أولندر لجواد علي في “تاريخ العرب قبل الإسلام”، ومقدمة أحمد زكي باشا لكتاب “الأصنام”.

وأنهى هذا الجزء من الاستدلال على التدوين ببيتي مَعقِل بن خويلد الهذلي (جاهلي أدرك الإسلام)، يدلّانِ على الكتابة:

فإنِّي كما قال مُمْليْ الكتاب 

في الرَّقِّ إذ خطَّه الكاتبُ

“يرى الشاهدُ الحاضرُ المُطْمئِنُّ

من الأمر ما لا يرى الغائبُ”

وقد ركَّز الأسد هنا على قراءة الشاعر الحكمة في المكتوب قبله، لذا وضع علامة الاقتباس حول البيت الثاني.

كما ثنَّى ببيت جاهلي، ينقله خطوة أخرى من التقصي؛ وهو بيت بشر بن أبي خازم، يقول:

وجدنا في كتاب بني تميمٍ: 

“أحقُّ الخيل بالركضِ المُعارُ”

ليسترعي انتباهه لفظة “كتاب بني تميم”، ويعضد ما استنتجه بقولة للمرزُباني في “الموشح”، أن معنى البيت أنه وجد الحكمة مكتوبة من قبل. فينتقل من وحي البيت السابق إلى سؤال: ما هو كتاب بني تميم المذكور؟

- تدوين العرب لحِكَمهم وأمثالهم وأنسابهم[43]

ثم يرجِّح أن كل قبيلة كانت تجمع شعر شعرائها وحِكمها وأقوال خطبائها، ومآثرها وأنسابها في كتاب. ويعضد الاستنتاج بما ذُكر قبلُ عن كتابَيْ قريش وثقيف اللذين كان حمَّاد الراوية ينظر فيهما. وكذا كتاب “نسب قريش” الذي كان مع ابن شهاب الزهري. ثم ينقل عن عبد الله بن محمد بن عمارة، حديثه عن امرأة أن قومها “قد طرحوها من كتاب النسب”، وكلامًا للأصفهاني عن قُريظة والنَّضير وبني قينقاع، فيه “لم أجد لهم نسبًا فأذكره؛ لأنهم ليسوا من العرب، فتدون العرب أنسابهم، إنما هُم حلفاؤهم“.

كذا أفرد العرب حِكَمهم وجوامع كلمهم في كُتب، عظَّموها واعتبروها كنوزًا. ومن ذلك ما نقله أبو حاتم السجستاني في “كتاب المُعمرين” من إشارة عامر بن الظَّرِب للملك الغسَّاني عن كتب قومه “إن لي كنز علم. وإن الذي أعجبك من علمي إنما هو من ذلك الكنز أحتذي عليه. وقد خلَّفتُه خلفي…”. ومن ذلك إرسال الملوك إلى حكيم الجاهلية أكثم بن صيفي؛ يستكتبونه حكمته، ومنهم ملك نجران. فكان أن كتب له: “إن أحمق الحُمق الفجور، وأمثلُ الأشياء ترك الفضول…”. ومن ذلك كتابة حكمة الأديب الجاهلي قُسّ بن ساعِدة. وبها يرجح الأسد كتابة الحِكمة العربية، من الحكيم نفسه أو من غيره.

ثم يكمل في تدوين الحكمة والأمثال، ناقلًا نقلًا طويلًا من بحث “الأمثال في النثر العربي القديم، مع مقارنتها بنظائرها في الآداب السامية الأخرى”، لعبد المجيد عابدين. ركَّز من خلاله على إثبات اتصال العرب بالثقافات الأخرى، من خلال معابر: الشام، والعراق، والحبشة. ومن أهم النقل صورة الحكيم العربي، وفيها “فكان الحكيم العربي كالحكيم البابلي العبري يجمع أحيانًا إلى عمل القاضي والمُشرِّع حرفة الكاهن والطبيب والمُنجِّم. فكان الحكيم هو الرجل المُثقف ثقافةً جامعةً لشتى ألوان المعرفة. وكان بعض حكماء العرب يُورِّثون الحكمة أبناءهم، كما صنع حكماء الشرق القديم”.

ومن كثرة الأمثال العربية المُتوارثة، وعنايتهم بها أنْ كتبَ صُحار بن عيَّاش كتابًا في الأمثال على عهد معاوية. كذا عُبيد بن شَرِيَّة ألَّف كتابًا رآه ابن النديم في نحو خمسين ورقة. ثم ينهي الاستدلال على تدوين الحِكم بأثرين: أن عمران بن حصين ذُكر أمامه أن في الحياء ضعفًا من بشير بن كعب الذي قرأ كتب الجاهلية، فغضب لمُخالفته قول الرسول في الحياء. والآخر أن سويد بن الصامت قرأ على النبي بعض حكمة لقمان، فاستحسنها، ثم قال إن القرآن أفضل منها.

- قضية المُعلَّقات[44]

تروي الروايات المشهورة أن الجاهليين علَّقوا بعض القصائد الطوال على الكعبة أو في خزانات الملوك؛ فسُميت بالمُعلَّقات أو المُذهَّبات السبع أو العشر[45]. وهذه الروايات -رغم شهرتها- إلا أن القدح نالها قديمًا، مثل قدح أبي جعفر النحَّاس الذي نفى ثبوت الأمر، وقال إن حمادًا هو الجامع للمُعلَّقات؛ وحديثًا قدح فيها بعض المحدثين دون دليل إلا اعتراضهم أن العرب ليست أمةً كاتبةً لتُسجِّل شعرها وتكتبه، وأنهم كانوا يُعظِّمون الكعبة، مما لا يصح معه تعليق المكتوبات عليها. خالف الأسد كلا النقدين القديم والحديث؛ لأنهما لا يثبتان للتمحيص، ويُبقي الرواية المشهور قائمةً، ترجيحًا لا يقينًا، حتى وجود اعتراض قادح أو سند جديد مُؤيِّد.

ثم ردَّ اعتراضَيْ المُحدثين بما ورد سابقًا عن انتشار الكتابة، وعن الاعتراض الثاني بأن العرب تعلق ما تفخر به على الكعبة تشريفًا له؛ وقد عُلِّق على الكعبة حِلف خزاعة لعبد المُطَّلِب، وصحيفة اجتماع بني هاشم وبني المُطَّلِب، وبقيت دهرًا مُعلَّقة، فلمَّا أخرجوها وجدوا الأَرَضة لم تدع منها إلا أسماء الله.

ثم ينتقل الأسد انتقالةً جديدةً؛ ليسأل عن صلة المدونات الجاهلية والإسلامية المبكرة بالدواوين الجاهلية الموجودة بين أيدينا الآن. هذه المدونات التي صنعها ورواها: أبو عمرو بن العلاء، والأصمعي، والمُفضَّل الضبي، وأبو عمرو الشيباني، وابن الأعرابي؛ هل دونوها -في القرن الثاني والثالث- من مدونات قديمة مكتوبة، أم أخذوها عن المشافهة وحسب؟

يحاول الإجابة بطريقين، مع العلم أن الرواية موضوع الباب التالي:

الطريق الأول: عرض أخبار أخذهم العلم عمَّنْ سبقهم. فابن الأعرابي (أبو عبد الله محمد بن زياد 150 : 231هـ) كان مشهورًا عنه مُدارسة الكتب والأخذ عنها. كذا كان الأصمعي (عبد الملك بن قُرَيب 123 : 216هـ)، وكان أبو عبيدة (مَعْمَر بن المُثنَّى 114 : 210هـ) وأبو حاتم السجستاني يتدارسان الشعر الجاهلي في كتب. وكان أبو عمرو الشيباني (إسحاق بن مِرار، ت 206 أو 213هـ) يكتب الشعر والأخبار، ويأخذها من الكتب. وقد ذكر سابقًا أن أبا عمرو بن العلاء كان يمتلك الجم الكثير من الكتب. كما ذكر خبرًا عن قراءة أبي تمَّام لخزانة كتب، ألَّفَ إثرها الحماسة والوحشيات. وخبرًا عن أن المُفضِّل الضبي (ت 187هـ) ليس صاحب الاختيارات الشعرية في كتابه[46]، بل كان إبراهيم بن عبد الله يُعلِّم على الأشعار في الدواوين المكتوبة، فتابعه على اختياراته.

الطريق الثاني: يتمثَّل في سبب من أسباب اختلاف اللفظة في نقلهم الشعر، هو “التصحيف”. ووصفه -كما أثبته السيوطي في “المُزهر”- “أن يأخذ الرجل اللفظ من قراءته في صحيفة، ولم يكن سمعه من الرجال؛ فيُغيِّره عن الصواب”. فركَّز الأسد على هذا العيب من عيوب نقل الشعر؛ لدلالته على النقل الكتابي، لا من طريق المُشافهة. واقتصر على ما وقع بين رواة آخر القرن الثاني؛ لأن من جاء بعدهم نقل من مدوناتهم. ومن أمثلة هذا، أن قرأ الأصمعي على أبي عمرو بن العلاء قولَ الحطيئة:

وغررتني وزعمت أنك لابنٌ بالصيف تامِرْ

قرأها مُغيِّرًا: “لا تَنِيْ بالضيف تامُر”، أيْ لا تتوانى في إكرام ضيفك. فعلَّق أبو عمرو: أنت والله في تصحيفك أشعر من الحطيئة.

ومنه أن الأخفش أنشد أبا عمرو بن العلاء:

قالت قُتيلةُ مالَه

قد جلِّلتْ شَيبًا شَواته

فقال أبو عمرو: كبرت عليك رأس الراء فظننتها واوًا. قلت: وما سراته؟ قال: سراة البيت ظهره. قال الأخفش: ما هو إلا “شواته”، ولكنه لم يسمعها. وعلق الأسد على الخبرين تدليلًا لرأيه؛ لأنهما يدلان أن الأصمعي والأخفش وأبا عمرو بن العلاء قد قرأوا هذا الشعر في كتب.

- لماذا لم يُصرِّح الرواةُ بالكتب والكتابة؟

إذا كانت الكتابة منتشرةً -كما يحاول الأسد أن يثبت-؛ فلِمَ لمْ يصرِّح الرواة بها؟ لأن طريق العلم الحقيقي عندهم هي التلقي المباشر عن الشيخ، ومجالسة العلماء. وما الكتب إلا وسيلة وأداة. ومن يكتفي بالصحف وحدها يظل عرضةً للخطأ والتصحيف، ويسمِّيه أهل العلم صحفيًّا لا عالِمًا. ومن هذا المسلك ضعَّف ثعلب “مُعجَم العين” للخليل بن أحمد، واتَّقى البعضُ تفسير مُجاهد لأنه كان ينقل من صحيفة جابر، وقال سفيان الثوري عن حديث عبد الأعلى بن عامر: سمعنا أنها من كتاب.

بل كان مما يُهجَى به العالِم اكتفاؤه بالكتاب. ومن ذلك ما قيل في هجاء أبي حاتم السجستاني:

إذا أسند القومُ أخبارَهم 

فإسنادُهُ الصُّحفُ والهاجسُ

وكان مما يُمدح به العالِم عدم اكتفائه بالصحف. ومنه مدح أبي نواس لخلف الأحمر:

ولا يُعمِّي معنى الكلام ولا 

يكونُ إنشادُه عن الصُّحُفِ

وينبه الأسد إلى أن في ظل هذا النمط يصير المُتعلم شيخًا، فيدرس معارفه مُسنِدًا حديثه إلى شيوخه، بلفظ التحديث المباشر “حدَّثنا شيوخنا..”؛ فيظن السامع أن معارفه مروية رواية فقط، لا كتاب فيها. ثم يورد أمثلة على وجود الكتاب مع الإسناد. من ذلك ما ورد في “طبقات ابن سعد” من إذن الأعرج لأحدهم بإسناد الحديث له مباشرةً، رغم أنه كان يقرأ من كتاب. وكذا ما مرَّ من أن عطاء بن دينار روى التفسير عن سعيد بن جبير، رغم عدم سماعه منه، بل وجده في ديوان عبد الملك بن مروان.

ويُنهي الباب بأن الرواية لها دعامتان: الأولى الكتاب يُقرأ في مجلس العلم ويُتدارس، والأخرى السماع المباشر. وأنَّ حدَّثنا أو أخبرنا لفظان عامان، قد يدلان على الدعامتين، وقد يدلان القراءة فقط.

الهوامش:

[1] هذا ومن أدبيات البحث العلمي المُستقرة؛ أن ارتباط الباحث بالموضوع ارتباطًا رُوحيًّا أو وجدانيًّا يزيد من شغفه بالبحث، ويربطه به ربطًا يخرج عن دائرة العلاقة الوظيفية، إلى دائرة التحرِّي الحقيقي، ويُوقد بين جوانحه الرغبة في الوصول إلى الحقيقة، ويُقوي عزيمته حيال كلل الرحلة المعرفية البحثية المعروف، الذي يُردي الباحثين، ويؤثر على نتائجهم.

[2] الأسد هنا لا يحصر أسباب بحثه في الرد على طه حسين وكتابه، بل يريد أن ينسب شروعه في البحث إلى سبب موضوعي، هو حاجة التاريخ الأدبي والبنيان الأدبي العربي إلى البحث. خروجًا من حيز الشخصنة، واتقاءً لطه حسين ذي النفوذ الضخمة، وإعلاءً من شأن بحثه الذي يستحق.

[3] نظام في البحث العلمي الحديث (وفي بحث المسلمين أيضًا)؛ يُعرف ببطاقات البحث؛ وهي قصاصات ورقية يستخدمها الباحث في مرحلة جمع مادة البحث، يدون فيها مواطن الاستشهاد والنقول التي سيعتمد عليها، ويصنفها في ملفات على ما ينويه من فصول وأبواب. والغرض منها وقوف الباحث على مادة بحثه، والتسهيل عليه في مرحلة الكتابة، بالنقل من البطاقات المَعزوَّة مباشرةً، دون الرجوع إلى الكتاب.

[4] لمْ يُبنْ الأسد آلية الترجيح الدلاليّ، وهو خطوة منهجية توجَّب عليه ذكرها؛ لكن يبدو من مسار البحث أنه يرجح بالجمع بين النصوص، وصولًا إلى المعنى أو الوجه المُتعاضَد عليه من مجموعها.

[5] هذه الخطوة المنهجية تدل على نباهة وحسن سير من الأسد؛ فقد حاول تعويض النقص الكميّ بكيف النظر والتأمل فيه.

[6] وبهذا قد اعتبر الأسد المرحلة التاريخية إلى منتصف القرن الثاني الهجري، امتدادًا للجاهلية، ولسُنن العلماء والرواة والإخباريين فيها. وهو اعتبار يصحُّ كلما اقترب من الجاهلية؛ لأنه -عند ذاك- امتداد حقيقي، ويقل صحةً كلما تقدمنا في عصر التدوين. ولعلَّ ما دفعه إلى ذلك هو النقص الشديد في مادة بحثه، واعتداد العلماء والرواة والنقَّاد بالجاهلية أدبًا وحِكمًا. فهذان عاملان يؤيدان ما فعل، والأخير يقوي الاعتماد عليهم في الدرس.

[7] مزية هذا التمهيد في رأيي؛ هو تحطيم الكثير مما ترسخ في أذهاننا -عربًا مُحدَثين وأجانب- عن العرب قديمًا. وسترى الحقائق الداحضة للخرافة على طول التمهيد.

[8] هنا أن الأسد لم يتناول الحياة الدينية عند العرب، كما تناول حياتهم المادية المعيشية؛ إلا من هذه الإلماحة. وهذا مخالف لغالب التصانيف الحديثة في تاريخ الأدب؛ حيث تُخصص الكثير من الصفحات لبيان أديان العرب. وللفائدة، فقد كان غالب العرب على “الحنيفيَّة”، أيْ دين إبراهيم. ثم أدخل عمرو بن لُحي الأصنام من الشام، وصارت تجارة رابحة، وأكيد أنها راجتْ أو رُوِّج لها بهدف الربح التجاري، باستيرادها عن الشام. وكان من العرب نصارى ويهود وصابئة وبعض ظهور للمجوس. وكانت هناك فئة مُتحنِّثة استدبرت كل هذا وراء ظهرها، وراحت في سلك من التعبُّد التأمُّلي.

[9] لعلَّه هنا لا ينصاع للتقسيم المدرسي الاعتيادي؛ إلى عرب بائدة، وعاربة، ومستعربة. بل يكتفي ظاهريًّا بمستويين فقط.

[10] هذا الادعاء البالغ الشيوع في غاية من السخف البادي لكل عين فاحصة؛ فلا ينفكُّ الإنسان -خاصةً في طور التنظيم الذي يدعى الأمة- عن حضارة تقيم حاله، وتكسبه هذا الرسم التنظيمي.

[11] هنا أنبه إلى أن زمن ميلاد النبي 571 م. أي في القرن السادس الميلادي. وعلى بعثته في الأربعين من عُمره؛ فقد بدأت الدعوة الإسلامية في أول السابع الميلادي.

[12] هنا أنبه إلى أن اللغة العربية كانت في الأصل لهجةً من لهجات لغةٍ أمٍّ، تُدعى السَّاميَّة. لذا تتشابه اللهجات السامية فيما بينها، وكذا في طورها الأخير حينما صارت لغاتٍ.

[13] وهنا لم يطلعنا على آلية الفحص، أو عن عمليته، بل أعطانا تقريرًا بعد فحصه الخاص وحسب. فهو -في عموم بحثه- لم يهتم إلا بصلب بحثه.

[14] الكلام حُكم على زمن تأليفه الكتاب.

[15] وهو ملك البحرين، أرسل له الرسول أثناء تراسله مع الملوك، لدعوتهم للإسلام.

[16] كلمة الإعجام تعني رفع العُجمة عن المعنى، أيْ إزالة الغُربة، وإرادة التبيين. ومنه جاءت لفظ المُعجم على القاموس. وهي بهذا الاعتبار تضمُّ النقط: وهو وضع النقاط المُميزة على كل حرف ذي نقاط، والشكل: وهو وضع حركة الحرف على كل حرف، أو على الحرف المُميِّز للكلمة. أنوه لهذا حتى لا يظن القارئ من الحديث أنها ثلاثة، بل هي عملية واحدة، بكيفيَّتَيْن: النقط والشكل.

[17] لأن ما توصَّل إليه هنا يخالف معتاد الدرس اللغوي، وما شاع بين الدارسين للعربية. وهذه التقريرات منه تدل على شجاعة في الانصياع لنتائج البحث، حتى إن خالفت معهود الدارسين.

[18] يقصد أنْ كلما أثبتنا النقط على الحروف، والضبط المُسمَّى تشكيلًا؛ صار وجه القراءة مُحددًا، وسددنا الباب أمام غيره من الوجوه.

[19] النساء، 94.

[20] العَرُوض علم عربي، موضوعه الأوزان الشعرية، التي تجعل الشعر له إيقاع ونغم.

[21] عيبان من عيوب القوافي الشعرية.

[22] في الحقيقة، كلام الأسد هنا في غاية العجب، أدى لهذا العجب تلك الشائعات الضخمة التي أشار لها. فأنْ يظن شخص أن العرب لم يكونوا يعرفون النحو أو الصرف أو العروض طرح خائض في اللامعقول. وهو الطرح نفسه عند البعض أن العرب لم يعرفوا أصول تفسير أو أصول حديث، أو أصول فقه إلا عندما قُيِّدتْ تلك العلوم. فمن المعروف أن درس تلك المباحث والعلوم كان درسًا تنظيميًّا وتقييديًّا لأصول موجودة متداولة معروفة معهودة لدى القوم؛ فالفقهاء كانوا يعرفون الأصول قبل رسالة الشافعي، والعرب كان للغتهم نظام قبل سيبويه وكتابه، وجهود الخليل. والتقييد والدرس شيء، والإنشاء الابتدائي شيء آخر. وتجد هذا الطرح موسعًا لأقصى حد عند من قال إن أرسطو أنشأ المنطق، أو أن اليونان اخترعوا الفلسفة. وهي مقولات داخلة في السخف دخولًا، فوق لامعقوليتها. وبالعموم، المنطق والنحو والعروض تقييد تنظيمي مجرَّد لجريان هذا التنظيم في سلوك البشر -فكرًا وتركيبًا كلاميًّا وشِعرًا موزونًا-، ومتى لمْ تكن في البداية استحال تقييدها في العلم.

[23] الفرقان، 5.

[24] الأنعام، 7.

[25] هذا العنوان الفرعي من وضعي للتوضيح، وفي الكتاب تمييز له بالأرقام وحسب.

[26] العنوان كالسابق مضاف مني.

[27] نلحظ هنا أنه اتبع طريق المتكلمين، رغم أن موضوعه مظنة للنقل. وهو طريق سديد؛ لأن ثبوت الأمر عقلًا يجعل دحضه محالًا. ثم يأتي الاستقراء النصوصي ليرسم باقي الطريق.

[28] العنوان من إضافتي، وهو في النص في مكان مميز.

[29] يقصد هنا المرقش الأكبر، لا الأصغر.

[30] أذكِّر هنا أن معيار “الطبع والصنعة” كان معيارًا شديد الفاعلية في النقد القديم، وقصدهم بالطبع أن يصدر الشعر عن الشاعر بتأثير بداهته وارتجال طبعه. ولعلَّ مسألة التلقي والتعلم كانت مؤثرة في تقييم إنتاج الشاعر كليةً.

[31] يقصد في مرحلة تقييد اللغة سماعًا؛ حيث ظلَّ العرب يقيدون اللغة الفصحى من مظانها عند الأعراب الخُلَّص الذين لم تتشوه لغتهم، أو تشُبْها شائبة من اختلاطهم بغيرهم.

[32] الحول هو العام. والقصائد الحوليَّات هي القصائد التي يظل الشاعر يعدِّل فيها إلى ما يقرب العام، ومنها المعلَّقات المعروفة، وقصائد غيرها.

[33] العنوان من وضعي، وهو في الكتاب مميز بالرقم.

[34] أبو سُلمي جدهما؛ فأبوهما الشاعر الشهير صاحب المُعلَّقة، زُهير بن أبي سُلمى.

[35] هذا الموضوع يطرح للنقاش بصورة أدق في علم الحديث، ومن أوجز وأيسر المؤلفات كتاب “كتابة السنة في عهدي النبي والصحابة”، د/ رفعت فوزي عبد المطلب. الصادر عن دار الوفاء، ط1، 2007. وقد أورد الكثير من المدونات الحديثية في عهد النبي، ومنها: الصحيفة الصادقة لعبد الله بن عمرو بن العاص، وصحيفة علي بن أبي طالب، وصحيفة عمرو بن حزم، كتاب رسول الله في الصدقات. وقد قام بدرسها. وفي عصر الصحابة: صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، وصحيفة الأعرج عنه، وصحيفة جابر بن عبد الله، وصحيفة سمرة بن جندب، وغيرها. وبالعموم، الطرح تهالك إثر التحقيقات المتوالية للكتب القديمة، وتواضع المجتمع العلمي على النتائج. ورغم هذا نجد سخافات تخرج للشاشات أمام الجمهور لتدَّعي أن أول تدوين ظهر في موطأ مالك، والبعض يدعي أن البخاري أول من جمع ودوَّن!

[36] أنوه إلى أن كثيرًا من التفسير هو أحاديث مروية عن رسول الله ﷺ؛ لذا زاوج نقلُها نقلَه. كما أنهم حرصوا على تدوين التفسير الذي أداه الصحابة والتابعون.

[37] هناك كتاب اسمه “تنوير المقباس من تفسير ابن عباس” للفيروز آبادي صاحب القاموس، جمع فيه التفسير المنسوب لابن عباس، وهو من المشكوك في صحته. وليس هنا مجال هذا، أحببت التنويه فقط.

[38] السيرة المشهورة لابن هشام، هي تهذيب للسيرة التي كتبها محمد بن إسحاق.

[39] هذا العنوان من وضعي.

[40] ولعلَّ هذا الظن العام تأصل من كثرة استخدام كلمة “الرواية”، التي تحولت إلى مصطلح أدبي وحديثي. اعتمد هذا المصطلح في المقام الأول على المُشافهة والمجالسة واللقاء المباشر بين طرفَيْ الناقل: الحافظ السابق، والمُتلقي الحديث؛ الذي سيصير -فيما بعد- حافظًا سابقًا بدوره. والتركيز على قيمة المشافهة للرواية أخفتْ أو همَّشتْ سناد الكتابة، رغم أهميته البالغة.

[41] كان الأستاذ أبو عمرو بن العلاء من عاشقي القديم، بل هو من أكبر الداعمين لمعيار تحكُّميّ في النقد الأدبي العربي؛ وهو ميعار القِدم، فكل ما هو قديم فاضل وقيِّم، وكل ما هو حديث أقل منه طُرًّا.

[42] لهما تعلق بالاستنتاج بعدُ في حديثه عن كتاب بني تميم.

[43] العنوان من وضعي، لمزيد إيضاح.

[44] العنوان من إضافتي.

[45] هناك اختلاف حول عدد المعلقات. الأصل أنها سبع، وهي معلقات: امرئ القيس، طَرَفَة بن العبد، زهير بن أبي سُلمى، لبيد بن ربيعة، عمرو بن كلثوم، عنترة العبسي، الحارث بن حِلِّزَة اليَشْكُريّ. والثلاث الملحقات بها هي معلقات: الأعشى الكبير ميمون بن قيس، والنابغة الذبياني، عَبيد بن الأبرص.

[46] يقصد هنا كتاب “المُفضَّليَّات”، وهو كتاب بالغ الشهرة، جمع فيه المُفضِّل اختياراته الشعريَّة. وهو من مصادر الأدب العربي الأصيلة. نشرتها دار المعارف بتحقيق وشرح الجليلين: أحمد محمد شاكر، وعبد السلام هارون.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى